فالح الحمراني من موسكو: مارس الغرب وهو يتابع الحرب التي شنها رئيس جورجيا على جمهورية اسيتيا الجنوبية الصغيرة التي لا يبلغ سكانها سوى 500 ألف نسمة، سياسة الكيل بمكيالين. ولم تعلق وسائل الاعلام ولم تعرض ما تكبده هذا الشعب الصغير الذي ينشد الحرية والخروج من اضطهاد الامة الجورجية quot;الكبرىquot; وما اقترفته القوات الجورجية ضد المدنيين.

ولم يشاهد ولا يسمع المتلقي الغربي شيئًا عن ان عناصر الجيش الجورجي قتلوا الابرياء من المارة والهاربين والمختفين في الاقبية من القصف الجوري وحولوا مدينة سيخنفالي quot; ذلك العش المسالمquot; الى انقاض. واكتفت وسائل الاعلام الغربية فقط بعنواين مثل: quot;الروس ينزلون الضربات بمطار تبليسيquot; و quot;الطائرات الروسية تقصف بالقنابل انبوب نفط باكو تبليسي جيهانquot; و quot;الروس يصفون جورجياquot; اضافة الى quot;ان الصحافة الغربية قارنت الاحداث في شمال القوقاز بغزو القوات السوفياتية لافغانستان عام 1979quot;، وتعيد للاذهان quot; ربيع براغquot; عام 1968 واحداث هنغاريا عام 1956.

ويتناسى الغرب ان ساكشفيلي وجه قواته المسلحة ضد ابناء quot; شعبهquot; فهو لم يكف حتى الآن عن التأكيد على ان اسيتيا الجنوبية جزء من جورجيا. ومن دون شك ان الاحداث المأسوية التي وقعت في اسيتيا الجنوبية واسفرت عن قتل 2000 شخص وتشريد الالاف الاخرين وتدمير المدن والمواقع العسكرية، ومهما كانت خلفياتها فإنها تشهد على انهيار سياسة كافة الاطراف المتورطة فيها.

وتشير قراءة نتائج الحرب بموضوعية الى ان رئيس جمهورية جورجيا ميخائيل ساكشفيلي يتحمل مسؤولية اندلاع العمليات الحربية في اسيتيا الجنوبية في شمال القوقاز وتداعيات الرد العسكري الروسي عليها، وما نجمت عنها من خسائر بالارواح وتدمير المدن. وان الغرب يتخذ موقفًا غير عادل الى صف الرئيس ساكشفيلي وتجاهله ما قامت به قواته من فضائع في جمهورية اسيتيا الجنوبية، ومحاولته تصوير روسيا على انها المعتدي وان جورجيا هي الضحية.

ومن دون شك فإن روسيا اذا ربحت المواجهة العسكرية مع جورجيا فإن الرئيس الجورجي ساكشفيلي ربح الحرب الاعلامية بدعم غربي .وخاض في الايام الثلاثة الماضية حربين الاولى ساخنة ضد شعب اسيتيا الجنوبية وقوات حفظ السلام الروس، والاخرى ضد روسيا من دون سفك دماء ـ اعلامية.

وحقا وكما عبر المحلل السياسي فيودر لوكاينوف فانه لم يكن لدى موسكو خيار آخر سوى قرار استعمال القوة لوقف الغزو الجورجي لاسيتيا الجنوبية، فبعد الدعم الذي قدمته موسكو على مدى السنوات الماضية للجمهوريات الانفصالية، فإن الابتعاد بنفسها في اللحظات الحرجة سيكون موقفًا غير اخلاقي، وكان من شأنه ان يعدم الثقة بسياسة الكرملين (ليس في القوقاز وحده) واظهر العجز عن المضي بالنهج السياسي الذي يختطهquot; اما ما يتعلق بجورجيا فإن الرئيس ميخائيل ساكشفيلي كان يهدف للقيام بحرب خاطفة والاعلان عن استعادةوحدة الاراضي الجورجية، ولكن هذا الهدف لم يتحقق وانما تم تحقيق هدف اخر يتمثل بجر للحرب وانها لم تعد وسيطًا في النزاع بين ابخازيا والجمهوريتين الانفصاليتين.

وتشير الدلائل الى ان روسيا ستتعرض قريبًا لحرب اعلامية غربية. وإن الرئيس ساكشفيلي سيعمل كل ما في وسعه لإقناع العالم بأن جورجيا وقعت ضحية عدوان من جانب روسيا.وثمة احتمال من ممارسة كافة اشكال الاستفزازات العسكرية او السياسية ضد روسيا. وضربت مثلاً باحتمال انعاش منظمة quot;غوامquot; quot;رابطة الخيار الديمقراطيquot; التي تضم الدول الموالية للغرب في اطار رابطة الدول المستقلة، او تنفيذ اوكرانيا تهديدها بعدم السماح لعودة قطعات اسطول البحر الاسود الى قاعدة مرابطتها في سيباسوتوبل. واشتداد حملة انصار انضمام جورجيا لحلف الناتو التي ستركز على التهديد الروسي لاوروبا.

وثمة قناعات بأن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية ما حصل لانها سلحت بسخاء زعيم ثورة الزهور الرئيس ساكشفيلي، وقدمت الدعم السياسي له وغضت الطرف عن سلوكه المغامر. ولم يؤثر على علاقات واشنطن المتعاطفة مع ساكشفيلي، تفريق المعارضة في العام الماضي التي لوثت صورة الرئيس الجورجي كزعيم ديمقراطي quot;.

وكانت زيارة وزيرة الخارجية كوندليزا رايس لتبليسي قبل نصف شهر عاملاًإضافيًا لتفاقم الاحداث الراهنةquot; رايس وقفت بحزم الى جانب جورجيا في النزاعات مع الجمهورتين الانفصالتين، ودعمت ايضا تقاربها مع حلف الناتو. ويشير مراقبون الى ان تفعيل نشاط الدبلوماسية الاميركية في منطقة القوقاز مرتبط بحاجة الرئيس الاميركي جورج بوش المنتهية ولايته إلى إحراز نجاحات ما على الساحة الدولية، وبعكسه فإن تركته على الساحة الدولية ستتمثل فقط بجملة من الاعمال الفاشلة، وان دعم خطة العمل لحصول اوكرانيا وجورجيا على عضوية الناتو في ديسمبر المقبل، ستكون الفرصة الاخيرة لتحقيق انجاز ملحوظ للادارة الاميركية الحالية .

ومن المستبعد ان يكون الابيض قد اعطى الضوء الاخضر لتبليسي للبدء بالحرب ضد اسيتيا الجنوبية، من اجل استعادة وحدة اراضيها، ولكن ساكشفيلي فسر دعم واشنطن له، ، بانه إشارة الى ان الولايات المتحدة لن تتخلى عن جورجيا ، كما فسر صدام حسين قبله كلمات السفيرة الاميركية بأنه ضوء اخضر لاحتلال الكويت. ان تبليسي وفقًا للعديد من القراءات تتعجل الامور لتحقيق اهدافها قبل انتهاء ولاية بوش للقناعة بان واشنطن ستحدث تغييرات على سياستها لغير صالح جورجيا، سواء فاز المرشح الديمقراطي باراك اوباما او الجمهوري جون ماكين.

ان الأحداث في استيا الجنوبية اظهرت السياسة الاميركية في محيط الاتحاد السوفياتي السابق الكمين الذي وقعت فيه quot;. فواشنطن تدخلت بنشاط في التطورات هناك وراهنت على الأنظمة الموالية لها. ولكن ليس لدى الولايات المتحدة قدرة على التحكم بها، ولا على الدفاع المطلوب عنها عند تفاقم الاوضاع. إضافة الى انه ليس بمقدور الولايات المتحدة الابتعاد بنفسها عن التطورات الجارية في المنطقة ـ فقد قدمت الكثير من التعهدات للدول التي تدور بمحورها. ويجعل كل هذا الحضور الاميركي عاملاً لزعزعة الاستقرارquot;، في محيط الاتحاد السوفياتي السابق.