جنيف: عالم فيزياء الجزيئات اللبناني جلال عبد الله يتحدث عن مساهمته في أكبر تجربة علمية يقوم بها المختبر الأوروبي للتجارب النووية ( سيرن ) بالقرب من جنيف، والنتائج المتوقعة للانفجار المتوقع في مسارع الهادرونات، والتطبيقات المحتملة، وموقفه من العطل الأخير، ومن التخوفات التي أبداها البعض من احتمال ظهور مخاطر الثقب الأسود.

شارك عدد لا بأس به من الخبراء العرب في أكبر تجربة يقوم بها المركز الأوروبي للأبحاث النووية(سيرن) laquo;CERNraquo; عبر مسارع الهادرونات الكبير LHC، ومن بينهم عالم فيزياء الجزيئات اللبناني جلال عبد الله وشقيقه المختص في علوم الحاسوب علي عبد الله.

وفي حديث خص به سويس إنفو، تحدث الدكتور جلال عبد الله عن مساهمته في هذه التجربة وعما يمكن توقعه منها على المستوى العلمي والتطبيقي، وعن العطل الذي سيجبر على تأجيل التجربة حتى شهر مارس القادم، وعن نظرته للمخاوف التي عبر عنها البعض من احتمال انحراف التجربة وتسببها في quot;كارثة كونيةquot;.

دكتور جلال، فيم تتمثل مساهمتكم كخبير عربي ولبناني في هذه التجربة الهامة؟
نحن نشتغل في العلوم المخبرية التجريبية. عملنا أنا وشقيقي الذي يشتغل معي، يتم في قلب في جهاز الكاشف المعروف باسم quot;أطلسquot; بحيث نقوم بتجهيز الآلات بهدف تحليل النتائج التي ستنجم عن التجربة.

وعملنا سيتمثل أولا في التقاط نتائج التصادم بإحدى النقاط الأربعة المتواجدة على دائرة مسارع الهادرونات الكبير LHC التي يبلغ محيطها 27 كلم، حيث سيتم تسريع شعاع ضوئي بهدف إحداث التصادم. نقوم بعد ذلك بتحليل هذه النتائج لمعرفة ما إذا كان بالإمكان إيجاد أجوبة على أسئلة معينة مثل معرفة أصل المادة، ومعرفة لماذا توجد بها كتلة (أي جزئيات أساسية مختلفة عن الصفر و جزئيات أخرى كتلتها صفر) إضافة إلى العديد من التساؤلات العلمية الأخرى المتعلقة بفهمنا العميق لمكونات المادة.

تردد أن هذه التجربة ترمي بالدرجة الأولى إلى اكتشاف لخصوصية الانفجار العظيم الذي حدث في البداية وأدى الى نشأة الكون، وفي نفس الوقت اكتشاف خصوصية المادة السوداء غير المرئية او الثقب الأسود الذي يشكل حوالي 94% من الكون ؟
بالضبط، الموضوع الذي نشتغل عليه هو أنه انطلاقا من فهمنا لنظريات فيزيائية وُضعت في القرن الماضي عن النسبية وعن الفيزياء الكمية... والتي تقدم بأنه من المفروض أن تكون هناك جزئيات بكميات معينة عند حدوث التصادم، سنقوم بتجربة عملية لأن التجربة هي وحدها القادرة على تأكيد ذلك أو إبطاله.

ومثلما تفضلت، هناك في الكون ما يُسمى بالمادة السوداء أو المادة غير المرئية بل حتى الطاقة السوداء. وهذه نتيجة علمية مرئية لأنه عندما ننظر الى المجرّات نلاحظ أنه لا يمكن أن تكون على ما هي عليه أي بشكل متماسك إلا إذا كانت فيه كتلة معينة. ولكن ما نشاهده هو أن جزءا كبيرا من هذه الكتلة التي تسمح لمجرّة بأن تكون متماسكة، غير مرئي. لذلك نفترض وجود جزيئات لها تفاعل ضئيل جدا مع المادة المرئية.

وهذا ليس جديدا لأننا نعرف أن هناك جزيئا يهبط علينا من الشمس يطلق عليه إسم quot;نوترينوquot;. وهذا الجزيء الذي كانت معرفتنا به نظرية في البداية قبل ان يُثبت مخبريا، معروف عنه أنه قليل التفاعل بحيث لو نفترض أن عشرة آلاف جزيء منه هبط على الأرض، فإن جزيئا واحدا هو الذي سيتفاعل (ويكون مرئيا). وإذا كان هذا يشكل جانبا من المادة السوداء فسوف لن يكون الوحيد الذي يدخل في تكوينها 100%. لذلك نتوقع أن تكون هناك جزيئات أخرى غير مرئية الى جانب النوترينو، لها كتلة أكبر وتشكل حوالي 70% من حجم المادة السوداء. وهذه الجزيئات فيه نظريات تتنبأ بوجودها.

وهذا ما علينا اكتشافه من خلال النتائج التي نحصل عليها في الكاشف بحيث نتوقع العثور على عدد معين من الجزيئات وعدد معين من الطاقة وعلى شيء أقل ولكن بنسبة عالية. وهذا يعود لهروب هذه المادة التي تتفاعل بشكل ضئيل من الكاشف وعدم قدرتنا على رؤيتها. أي أنها أخذت طاقتها وكتلتها ولم نتمكن من رؤيتها، وبهذه الطريقة يتم - بعد التحليل والدراسة بمعايير علمية مدروسة لا جدال فيها - تحديد أن فيه جزيئات أخرى غير تلك المعروفة حتى الآن.

إذن تتمثل التجربة التي شُـرع فيها في quot;سيرنquot; في إطلاق خيط ضوئي في اتجاهين متعاكسين وإحداث تصادم وتحليل النتائج للعثور على هذه الجزئيات غير المعروفة حتى الآن..
الأمر الذي ننطلق منه هو أنه من جزيئات مرئية التي هي البروتونات، التي نكوّن من تراكمها حزمات كبيرة مثل حزمات الضوء، نقوم بتسريعها إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء في هذا المسرع الذي يبلغ محيطه 27 كيلومتر. وبهذه السرعة العالية يصبح البروتون ذا كتلة أكبر بكثير ويحتوي على طاقة أكثر تصل الى 14 تيرا إلكترو فولت. ولكن تجربتنا في LHC ستبدأ في البداية بطاقة اقل من هذا المستوى لأن آلة LHC التي هي خلف لآلة LEP والتي تم الشروع في بنائها منذ 8 سنوات، تعتبر تجريبية وبالتالي تحتاج الى القيام بذلك على مراحل تدريجية.

فإذن انطلاقا من جزيئات نعرفها سيتم إحداث تصادم تسجل النتائج المترتبة عنه. ومن الأمور التي ينتظر العلماء أجوبة عليها، هي وجود أو عدم وجود الحقل الذي تعوم فيه المادة والمعروف ب quot;جزيء هيغزquot;. وهذا الجزيء هو المسؤول، نظريا، عن إعطاء الكتلة لباقي الجزيئات.

وما هي نسبة احتمالات العثور على جزيء هيغز في نظركم؟
إذا كان هذا الجزيء موجودا بالطبيعة، فإن مسرع LHC لا بد أن يكتشفه مهما كانت كتلته لحد 800 جيغا إيلكترو فولت. لكن إذا لم يكتشفه، فمعنى ذلك أن علينا مراجعة النظرية ومحاولة معرفة منطق الطبيعة في الإجابة على حقيقة هذه الكتلة التي لم نتمكن من معرفتها. أكيد أن هناك نظريات عديدة حول طبيعة المادة، ولكن ليست بهذا المستوى من الأهمية ومن الجاذبية مثل النظرية القاعدية المتنبئة بوجود جزيء هيغز والتي تفتح آفاقا لنظريات أخرى متطورة. فهذه النظرية القاعدية تحققت لحد اليوم كل التفاصيل التي تنبأت بها وعُثر على جزيئات افترضت وجودها. وهذا من أهم إبداء العقل البشري أن يتصور نظريات ويتوقع جزئيات ثم يتم إثبات وجود ذلك فعلا بالتجارب باستثناء وجود جزيء هيغز.

ولكن جزيء هيغز تربطه بالجزئيات الأخرى علاقات تم إثباتها نظريا وتجريبيا في الطبيعة، ولو أننا لم نتمكن بعد من مشاهدته. لذلك لدى العلماء أمل كبير في اكتشافه في هذه التجربة.

ولنفرض أن التجربة تسمح باكتشاف جزيء هيغز، وتمكنا من معرفة مكونات الكتلة السوداء أو الثقب الأسود، في ماذا يمكن أن يفيدنا ذلك أو يفيد الإنسانية؟
الإنسانية منذ بدايتها شرعت في القيام بتجارب سمحت بتطوير تطبيقات مهمة. فعلى سبيل المثال، القيام بتجميد غازات إلى حد معين لفهم المادة بالدرجة الأولى سمح بالحصول على مادة قابلة لنقل عالي للتيار، وهو ما يسمح اليوم بتطبيق ذلك في نقل التيار الكهربائي من مكان لمكان بدون فقدان كمية من الطاقة.

وإذا كانت التطبيقات الممكنة من اكتشاف جزيء هيغز غير واضحة المعالم اليوم، فإن التكنولوجيا العالية المستخدمة في مسرع مصادم الهادرونات، يمكن أن تجد تطبيقات في مجالات الطب أو الإعلام الآلي. فعلى سبيل المثال، نظام العلاج بالبروتونات المستخدم اليوم في الطب هو علاج مرض السرطان بشعاع البروتون. إذن إن التجارب التي قام بها العلماء في المسارع والتي سمحت لهم بالتعرف على كيفية التحكم في البروتون، هي التي سمحت بتطوير تطبيقات بطاقة أقل في المجال الطبي. ونفس الشيء يمكن أن يُقال على الأشعة السينية التي إن كانت التجارب الأولية تهدف بالدرجة الأولى لمعرفة حقيقة المادة، فإن استعمالها أصبح اليوم أمرا بديهيا في الطب. لكن مع الأسف أن هناك انحرافات أيضا أدت إلى توجيه التطبيقات إلى ميادين أخرى.

بما أنها تجربة متطورة جدا والأولى من نوعها، هناك بعض العلماء الذين أبدوا مخاوف من احتمال انزلاقها والتسبب في كارثة. كعالم، هل تؤمنون باحتمال أن تحتوي على مخاطر؟
أولا، هذه ليست الآلة المسرعة الأولى في العالم، إذ سبق أن تمت تجربة آلة LEP هنا في محل المسرع الحالي. وهناك مسرع أيضا في الولايات المتحدة الأميركية. لكن خاصية مسرع مصادمات الهادرون أنه يقوم بتجربة لم يسبق للبشرية أن جربت فيها كمية طاقة من هذا النوع. لكن الطبيعة بها جزئيات تنزل إما على سطح الأرض أو القمر بها طاقة تفوق بملايين المرات الطاقة التي ستنبعث من آلة LHC.

إذن فإن الرد بسيط على مخاوف البعض من احتمال تكوين ثقب أسود وما إلى ذلك، لأن الطبيعة تنزل عليها جزيئات بكميات كبيرة وبطاقة أعلى مما سيصدر عن المسارع. فلو كان هناك ثقب أسود لبلع القمر.

التجربة آمنة 100%. وحتى الإشعاع الصادر عن التجربة لا يشكل جزءا بسيطا من الإشعاعات الطبيعية الموجودة بالأرض التي هي محمية بالغلاف الجوي من تأثيرات الإشعاعات الكونية على خلاف القمر الذي لا حياة به.