واشنطن: يظل النشاط الاستيطاني الإسرائيلي القضية الأكثر إثارة للجدل بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي، لاسيما بعد إعلان الرئيس الأميركي quot;باراك أوباماquot; في أكثر من مناسبة عن عدم قبول الولايات المتحدة بشرعية الاستمرار في بناء المستوطنات الإسرائيلية؛ لأنها تنتهك الاتفاقات السابقة وتقوض الجهود المبذولة لتحقيق السلام. والخلافات التي بدت واضحة بين الولايات المتحدة وإسرائيل خلال زيارة نتنياهو إلى واشنطن في مايو 2009 وأثناء المحادثات بين وزيرة الخارجية الأميركية ونظيرها الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان في 17 من يونيو، ناهيك عن إدانة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في 4 من آب أغسطس الجاري قيام إسرائيل بطرد عائلات فلسطينية من القدس الشرقية واعتبار ذلك من قبيل quot;الأعمال الاستفزازيةquot; التي تتناقض مع واجبات إسرائيل على حد قولها .

ولذلك، تجد إدارة الرئيس quot;أوباماquot; في تجميد الاستيطان ركنًا أساسيًّا في عملية شاقة لبناء الثقة بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية تمهيدًا لاستئناف محادثات السلام بين الطرفين ومن ثم كسر الجمود الراهن في عملية التسوية والتطرق في مرحلة لاحقة للتفاوض حول قضايا التسوية النهائية في إطار خطة أميركية جديدة للسلام من المنتظر أن يعلنها أوباما بحلول موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، بعد جولة مقررة للمبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل للمنطقة .

و جاء إعلان إسرائيل في 18 من أغسطس عن استعدادها لتجميد الاستيطان في الضفة الغربية لمدة ستة أشهر ووقف مناقصات البناء حتى بداية 2010 دون أن يمتد ذلك لمشروعات البناء الخاصة، وترحيب أوباما بهذا الموقف واعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح ليؤكد على التوتر بين الطرفين حول هذه القضية والضغوط المتتالية من جانب أوباما لدفع إسرائيل لتحقيق وقف شامل لكافة أنشطة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية بما فيها التمدد الطبيعي للمستوطنات القائمة. ويثير موقف الإدارة الأميركية حول محورية تجميد الاستيطان في تقدم عملية التسوية عدة تساؤلات حول الدعم الذي تحظى به سياساتها داخليًّا، والرؤى البديلة لتجميد الاستيطان والتي تبناها عدد من الساسة الأميركيين في الآونة الأخيرة.

تجميد الإستيطان خطوة أولية نحو حل الدولتين

على الرغم من تشاؤم غالبية قطاعات الرأي العام الأميركي حول مستقبل عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنهم يؤيدون بقوة حل الدولتين وتجميد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وفق ما كشفت عنه نتائج الاستطلاعات التي أجريت في الولايات المتحدة مؤخرًا. حيث أكد حوالي 66% ممن شملهم استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة غالوب ونشرته صحيفة يو إس إيه توداي في 31 من مايو 2009 أنهم لا يعتقدون بقدرة الدول العربية وإسرائيل على تحقيق السلام، وهو ما لم يحل دون تعبير حوالي 51% ممن شملهم الاستطلاع ذاته عن دعمهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة .

وفي سياق متصل عارض حوالي 74% من الرأي العام الأميركي استمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في استطلاع الرأي الذي أجراه برنامج توجهات السياسة الدولية التابع لجامعة ميرلاند في 23 من مايو، كما أكد الاستطلاع أن الانتماء الحزبي لا يؤثر على موقف المواطن الأميركي حيال الاستيطان، حيث مثلت شريحة معارضي الاستيطان حوالي 65% من مؤيدي الحزب الجمهوري و83% من مؤيدي الحزب الديمقراطي. وهو ما يعني أن الرأي العام الأميركي لا يخلط بين تعاطفه مع إسرائيل واعتبار أمنها أحد ثوابت السياسة الشرق أوسطية للولايات المتحدة وما بين رؤيته لمقتضيات التسوية العادلة للقضية الفلسطينية.

وفي هذا الصدد نوه جيمس زغبي مدير مركز زغبي الدولي لاستطلاعات الرأي العام إلى أنه على الرغم مما تكشفه كافة المؤشرات الإحصائية من تأييد جارف من جانب غالبية قطاعات الرأي العام الأميركي، فإن ذلك قد توازى مع تأييد الأميركيين لاتباع أوباما لسياسة أقل مساندة لإسرائيل عن سابقه لاسيما فيما يتعلق بالنشاط الاستيطاني الإسرائيلي حتى يتسنى للولايات المتحدة القيام بدور الوسيط بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي .

الكونغرس يدعم إسرائيل في مواجهة أوباما

ومن المفترض أن تأتي توجهات أعضاء الكونغرس الأميركي في الاتجاه ذاته لتكون مشابهة إن لم تكن متطابقة مع الرأي الراجح لدى الغالبية من المواطنين الأميركيين فيما يتعلق بهذه القضية عملاً بالمبادئ الأولية للتمثيل السياسي، بما يعني أن تحظى سياسة الرئيس أوباما تجاه الاستيطان بدعم واضح من الكونغرس بمجلسيه، وهو ما لم يتحقق. بل على النقيض تعرض الرئيس أوباما لضغوط متتالية من جانب أعضاء الكونغرس لتعديل سياسته تجاه الاستيطان الإسرائيلي .

بدت تلك الضغوط واضحة في توجيه حوالي 71 عضوًا بمجلس الشيوخ الأميركي البالغ إجمالي عدد أعضائه حوالي 100 عضو في 10 من أغسطس الجاري خطابًا إلى الرئيس الأميركي تضمن ضرورة قيام أوباما بتشجيع القادة العرب للتطبيع مع إسرائيل مقابل ما وصفه الخطاب بالجدية التي أبدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجاه عملية السلام بقبوله بحل الدولتين علنًا والمساعدة في التنمية الاقتصادية للضفة الغربية .

وتوازى ذلك مع تقديم النائب الجمهوري بمجلس النواب الأميركي دان بورتون لمشروع قانون في 6 من أغسطس طالب فيه إدارة أوباما بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس المحتلة بحلول عام 2012، وإلغاء سلطة الرئيس الأميركي في تأجيل نقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس.

ويمكن اعتبار الزيارتين المتواليتين التي قام بهما 25 عضوًا جمهوريًّا وحوالي 34 عضوًا ديمقراطيًّا بالكونغرس في أغسطس الجاري بمثابة ضغوط جديدة على الرئيس أوباما لاسيما وأن شعار هاتين الزيارتين تمثل في دعم إسرائيل وترافق معهما تصريحات مناوئة لسياسة أوباما تجاه الاستيطان، حيث أعرب إيريك كانتور Eric Cantor العضو اليهودي البارز بمجلس النواب والمنتمي للحزب الجمهوري عن قلقه من تركيز أوباما على النمو الاستيطاني وإغفاله للتهديد النووي الإيراني لوجود إسرائيل، معتبرًا القبول بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إنكارًا لما أسماه بالحق التاريخي لإسرائيل في الوجود .

الرؤى البديلة وحل الدولة الواحدة

أثار عدم نجاح إدارة الرئيس أوباما في تحويل الدعم الشعبي الذي تحظى به مواقفها من قضية الاستيطان إلى دعم سياسي يمكنها الإفادة منه للتغلب على ضغوط الكونغرس تساؤلات حول إمكانية بحث أوباما عن بدائل للتجميد الكلي للاستيطان كي يتواءم مع الضغوط السياسية سالفة الذكر. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى عدة سياسات بديلة قام بطرحها الساسة الأميركيون في الآونة الأخيرة تعبيرًا عن مواقفهم من ضغوط أوباما على إسرائيل لتجميد الاستيطان وتراوحت تلك البدائل ما بين التطرف في دعم إسرائيل على حساب عملية التسوية ذاتها وتجزئة تجميد الاستيطان سواء على المستوى الجغرافي أو على مستوى التمدد الديموجرافي للمستوطنات القائمة .

جاءت أولى الرؤى البديلة من جانب حاكم ولاية أركنساس السابق والمرشح السابق في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري مايك هاكابي الذي انتقد دعوة إدارة أوباما لتجميد الاستيطان خلال زيارته لإسرائيل في 16 من أغسطس معتبرًا موقفه عائقًا لتحقيق السلام، قائلاً :quot;لا أدري من أين حصلنا على التفويض لمطالبة الإسرائيليين بما يمكن أن يفعلوه، وهل يتعين علينا أن نملي على المواطنين الإسرائيليين أين يمكنهم أن يعيشوا ؟quot; وهو ما اعتبره ماثيو كالمان المحرر بمجلة التايم الأميركية بداية إعداد مبكر من جانب هاكابي لانتخابات الرئاسة الأميركية في 2012.

وفي مقال quot;إسرائيل أول محطات هاكابي في حملة 2012quot; نوه كالمان إلى أن هاكابي يرفض تجميد الاستيطان ويرى أن حل الدولتين غير واقعي ويؤيد ما يطلق عليه حل الدولة الواحدة من خلال توسع إسرائيل في كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وترحيل الفلسطينيين للدول العربية المجاورة بدعوى أن إسرائيل لا يمكنها التخلي عن أي جزء من إقليمها المحدود جغرافيًّا حماية لأمنها.

وفي مقابل هذه الرؤية الجدية يفرق زعيم الأغلبية الديمقراطية بمجلس النواب ستيني هوير ما بين الاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية، مشيرًا إلى أن عمليات البناء في شرقي القدس تلقى قبولاً من جانب أعضاء الكونغرس أكثر من الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية. وأشاد هوير بقبول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحل الدولتين ورفع جميع حواجز الضفة، باستثناء 14 حاجزًا فقط وذلك أثناء زيارته لإسرائيل مع وفد أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي في 10 من أغسطس الجاري. بينما يرى فريق آخر من أعضاء الكونغرس ضرورة السماح بالنمو الطبيعي للمستوطنات القائمة فعلاً والتمدد الديموجرافي الناتج عن زيادة عدد سكانها وهو ما اتضح ضمنًا من خلال خطاب أعضاء مجلس الشيوخ سالف الذكر. كما يدعو أنصار هذه السياسة إلى وضع مدى زمني لتجميد الأنشطة الاستيطانية ورهن تقدمها باتخاذ خطوات جادة من جانب الدول العربية على مستوى التطبيع الرسمي للعلاقات مع إسرائيل.

وترتبط مواقف الساسة الأميركيين بالاستقطاب الحزبي ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي لاجتذاب تأييد المنظمات اليهودية الأميركية واعتبارات التمويل السياسي التي تدفع أعضاء الحزبين بالكونغرس لتبني مواقف داعمة لسياسة إسرائيل إلى درجة الضغط على الرئيس أوباما لتغيير سياسته تجاه النشاط الاستيطاني الإسرائيلي حتى وإن تعارضت مواقفهم مع موقف غالبية الجمهور الأميركي. وإلى جانب العامل السياسي تمثل المعتقدات الدينية والإيديولوجية أحد دوافع عدد من الساسة الأميركيين لاسيما مايك هاكابي وهو رجل دين مسيحي ينتمي للطائفة الإنجيلية المعمدانية وتحظى مواقفه بتأييد المتدينين من أعضاء الحزب الجمهوري، كما يرتبط هاكابي بعلاقات وطيدة بعدد كبير من حاخامات إسرائيل لاسيما اليعازر ميلمد الذي صلَّى لهاكابي كي quot;يصبح رئيسًا للولايات المتحدة ويعيد بناء الهيكل في الأراضي المقدسة .quot;

هل يكف أوباما عن انتقاد الاستيطان؟

قد يلجأ الرئيس أوباما حيال تلك الضغوط السياسية إلى تعديل مواقفه تجاه الاستيطان الإسرائيلي بحيث يغض الطرف عن استمرار الاستيطان الإسرائيلي في القدس الشرقية ومشروعات توسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية والتركيز على ضرورة اتخاذ السلطة الوطنية الفلسطينية لخطوات إيجابية مماثلة لإعلان نتنياهو سالف الذكر عن تجميد الاستيطان في الضفة، وقيام الدول العربية باتخاذ خطوات أخرى للتقارب مع إسرائيل، فضلاً عن تصعيد الضغوط الأميركية على طهران لتجميد برنامجها النووي لاسترضاء داعمي إسرائيل خاصة مع تبلور قناعة لدى الرأي العام الإسرائيلي أن أوباما يدعم الفلسطينيين على حسابهم وهو ما كشف عنه استطلاع للرأي أجرته الجامعة العبرية في القدس في 20 من أغسطس الجاري لم تتجاوز فيه نسبة من يرون أن أوباما يدعم إسرائيل حوالي 12% ممن شملهم استطلاع الرأي .

ويتسق ذلك مع البرجماتية التي يبديها أوباما إزاء قضايا السياسة الخارجية الخلافية بصفة عامة بحيث تهدف مواقفه استرضاء جميع الأطراف بما يجعل سياساته غير واضحة في كثير من الأحيان، وهو ما انتقده إليوت أبرامز النائب السابق لمستشار الأمن القومي الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وشمال أفريقيا وأحد أبرز المحافظين الجدد في تصريحات صحفية له بصحيفة صنداي تايمز Sunday Times بقوله: quot;إن سياسات أوباما تجاه الشرق الأوسط غير محددة وتتسم بالتذبذب ولا يوجد محدد إيديولوجي عام يجمع بينها بالمقارنة بالنهج الواقعي لسابقه الرئيس بوشquot;. وأشار إلى أن أوباما يلجأ في كثير من الأحيان للتركيز على قضايا فرعية مثل الاستيطان ويغفل القضايا الرئيسة مثل التهديدات الإرهابية والتهديد النووي الإيراني وفق رؤيته .

وبقطع النظر عن الانتقادات التي توجه للرئيس أوباما فيما يتعلق بموقفه من الاستيطان الإسرائيلي أو عدم وضوح معالم سياسته الخارجية فإن خطة السلام في الشرق الأوسط التي تعكف إدارته حاليًا على صياغتها ستسهم في تحديد سياسة الولايات المتحدة تجاه عملية السلام على الأقل حتى عام 2012، وقدرتها على ممارسة ضغوط واقعية على حكومة نتنياهو للوفاء بالتزاماتها والأهم من ذلك الحيلولة دون اختزال إسرائيل القضية الفلسطينية - بما تنطوي عليه من تعقيد للمسارات وتشابك للقضايا - في تجميد الاستيطان الذي لا يتجاوز كونه أحد الإجراءات الأولية لبناء الثقة بين الطرفين قبل بدء المفاوضات جديًًّا .