الرهان على الدولة المدنية في الجزائر مؤجّل حتى إشعار آخر، فالجيش متحكم بالنظام العام، وترى مراجع محلّية أن ضعف الطبقة السياسية يتيح للعسكر صنع الرئيس الجزائري القادم.


الجزائر: جاءت التصريحات الأخيرة لمروّجي استمرار عبد العزيز بوتفليقة رئيسًا للجزائر بعنوان برّاق هو الدولة المدنية، ما جعل الأخيرة تعود بإلحاح وسط ما تسميّها مراجع محلية quot;لعبة صراع المصالح عندما لا تستطيع أن تتصالحquot;.

وإلّا فلا!

يقرّ الدكتور أحمد عظيمي، وهو عقيد متقاعد ورئيس مركز الشروق للدراسات الاستيراتجية، بهيمنة العسكر تبعًا لكون بوتفليقة ظلّ دائما يكرّر في خطاباته: quot;لا أريد أن أكون ربع رئيس أو نصف رئيس، وإنما ينبغي أن أكون رئيسًا كاملًا وإلا فلاquot;، وهذا دليل على تدخل الجيش في تسيير شؤون البلاد السياسية.

ويبدي عظيمي قناعة بأنّ الجيش الجزائري يتدخل في السياسة منذ استقلال البلاد قبل 52 عامًا، quot;لكنه لا يتدخل إلا عندما تكون الطبقة السياسية ضعيفة، فالجيش الجزائري هو الوحيد غير الموروث من إمبراطوريات وقوات استعمارية سابقة مثل باقي الدول، وهو الوحيد الذي خرج من رحم الشعب الجزائري وصلبه، ونشأ من صلب سياسيين ومدنيينquot;.

ويجزم عظيمي بانتفاء الفروق في الماضي بين المدني والعسكري، علمًا أن العسكريين كانوا ممثلين في حزب جبهة التحرير الحاكم، إذ ظلّ خُمس أعضاء اللجنة المركزية لجبهة التحرير عسكريين، quot;وفي رئاسيات 2004، جرى تناقل أنباء عن تدعيم الفريق الراحل محمد العماري، قائد أركان الجيش الجزائري آنذاك، لرئيس الوزراء السابق علي بن فليس، وفي الوقت ذاته أيّد جهاز المخابرات بوتفليقة، وهذا دليل على أن الجيش لم يستطع فرض مرشحه، والوقوف في وجه جهاز المخابراتquot;.

الجيش متحكم

هل ستتدخل المؤسسة العسكرية في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ يعطي عظيمي انطباعًا قويًا أن ذلك سيحصل. يقول: quot;إذا ترشح بوتفليقة ليكون رئيسًا بتدخل الجيش، ستكون الإدارة جاهزة للتحضير لنجاحه المسبق، بالرغم من أن الانتخابات بطبيعتها مدنية ووزارة الداخلية تشرف عليهاquot;. ويردف: quot;إذا لم يترشح بوتفليقة، من الصعب مرور مرشح السلطة لأنّ المرشحين يكونون قد حضّروا لمثل هذه الظروفquot;.

ويتفق أحمد شوتري، الأستاذ في جامعة الجزائر، مع عظيمي في وجود تداخل كبير بين الحركتين المدنية والعسكرية في أيام ثورة الجزائر التحررية (1954 ndash; 1962)، فالكل كانوا في دائرة واحدة، من عسكريين وسياسيين ومدنيين.

لكن شوتري يشدّد على رفض النظام الحالي للحكم المدني والديمقراطية، ويذهب إلى أن العسكر تدخلوا وأسهموا في ما سماه: quot;تفتيت الأحزاب وإضعاف الطبقة السياسيةquot;، موقنًا أن الجيش ما زال متحكمًا بالنظام الجزائري، وذاك راجع بمنظور شوتري إلى أنّ النظام بطبيعته غير مقتنع تمامًا بوجود معارضة سياسية فعلية جادة، وبالتالي فهو لن يتغيرquot;.

بإمرة الرئيس

من وجهة نظر ثالثة، يقدّر عبد المجيد مناصرة، رئيس جبهة التغيير، أن الذين يرفضون انتخابات نزيهة وشفافة وبعيدة عن أي تدخل عسكري هم من رفضوا أولوية السياسي على العسكري. وإذ يلفت إلى أن المفروض أن يشتغل الجيش دائمًا تحت إمرة الرئيس وليس العكس، فإنّ مناصرة يحيل إلى أن تدخلات العسكر دائمًا كانت غير قانونية في الانتخابات، ودائمًا كان العسكريون يأمرون الجنود بالنزول إلى مكاتب التصويت والانتخاب مرات عديدة.

وبلهجة العارف، يقول مناصرة: quot;إذا قبل بوتفليقة بالترشح فالجيش لن يتدخل، أما إذا رفض فالجيش سيتدخل لإيجاد خليفة له، رغم أن دور المؤسسة العسكرية في الأصل أن تكون ضامنة لاستقرار البلاد وأمنها وهيبتها، وبالتالي فالجيش لا مصلحة له من تدخله في الشأن السياسي، وعندما تكون الخيارات العظمى فالتدخل يكون مفيدًا، أما في إطار المنافسة والديمقراطية فلا دور للجيشquot;.

وعن فرص إصلاح النظام ودستور الرئيس، يستبعد مناصرة أن ينجح بوتفليقة في رهان الدولة المدنية، فما لم يحققه هذا الرئيس خلال ثلاث فترات لا يمكن أن يحققه في فترة رابعة، متصورًا أن مساحة النقاش الطبيعي لهذا الموضوعهي الدستور، لأن طبيعة النظام ومدنيته متعلقتان بالقانون الأعلى للبلاد.

فاقد الشيء

وإذ يلّح مناصرة على حتمية ترؤس شخصية مدنية الجيش في النظام المدني، لأنّ صفة الوزير صفة مدنية، فإنّه يذهب إلى اعتبار تلويح الحزب الحاكم بشعار quot;الدولة المدنيةquot; يندرج في إطار شخصنة مفضوحة وحسابات ضيقة وأغراض انتخابية، لا سيما أنّ الحزب الحاكم مُطالب بالتنفيذ وليس بالعويل والإثارة، كما أن الطرح لم يكن موضوعيًا فقد ذكر قائد حزب الغالبية أشياءً وغفل عن أخرى، طالما أن جبهة التحرير هي الجهة المستفيدة انتخابيا من تدخل الجيش في الحياة السياسية.

ويضيف مناصرة: quot;لا توجد فقرة واحدة في برنامج الحزب الحاكم تتحدث عن الدولة المدنية وإبعاد العسكر عن التدخل في الحياة السياسية، فكيف يأتي عمار سعداني، أمين عام جبهة التحرير، ويحاول إقناعنا بأنه داعية مدني وهو يعترف بلسانه بأن حزبه معسكر وفي حاجة إلى تمدين؟ ففاقد الشيء لا يعطيهquot;.

ويتمسّك مناصرة بفكرة تأسيس الجمهورية الثانية التي تهدف أساسًا إلى بناء دولة على أساس جمهوري مدني ديمقراطي برلماني.

تمدين النظام

أول من استعمل شعار تمدين النظام السياسي في الجزائر هو الراحل محفوظ نحناح، الذي حلّ ثانيًا في رئاسيات 1995، فقال وقتها: quot;سأعمل على إخراج البلاد من النظام الأحادي إلى نظام سياسي جديد، يعتمد التعددية والمبادئ الجمهورية، وينظم المنافسة السياسية في إطار المؤسسات التمثيلية المنتخبة، وهذا النظام السياسي الجديد ذو طابع مدني يسيّره مدنيون، وللجيش فيه موقع المحافظة على الاستقلال الوطني، وتأمين الحدود الإقليمية، وحماية المجال الجوي والبحري، ويظل منزهًا عن كل الصراعات السياسية والخلافات الحزبية، ومحررًا من ضغوط وتجاذب الجماعات والمجموعات ليبقى موحدًا يحمي بوحدته البلادquot;.

وعندما تحدث نحناح عن رؤيته لدور المؤسسة العسكرية، اقترح تحديث الجيش في إطار نظام سياسي مدني عبر تنظيم الجيش تنظيمًا عصريًا، وتمكينه من الإمكانات التقنية التي تجعله جيشًا محترفًا وعصريًا وقويًا، وإخضاع السياسات الأمنية والميزانية العسكرية للشفافية وعرضها ومناقشتها في الجلسات البرلمانية، وإنشاء إعلام متخصص في شؤون الأمن والدفاع لإشراك جميع القوى في الاهتمامات الوطنية الكبرى، وتوسيع الصلاحيات الاستشارية للمجلس الأعلى للأمن وإعادة النظر في تركيبته حتى يتمكن من ممارسة مهامه الوطنية من غير هزات، وإبقاء الجيش بعيدًا عن المناورات السياسية، وتحرير قراره من الضغوطات.