بقلم: إسحق كابلن

في الثاني من كانون الأول/ديسمبر من عام 1851 سمع إدوار مانيه الذي كان حينها في التاسعة عشرة من العمر أصواتا صاخبة تتعالى في شوارع باريس ثم أصوات خيول تعدو ثم أصوات إطلاقات نارية وأصوات طبول تقرع وهو ما دفع الفنان إلى مغادرة منزله حيث نزل إلى شارع لافيت المعروف بكونه شارع تجار الفن ليجد نفسه وجها لوجه أمام دورية فرسان. ولأنه لم يستطع الهرب، احتمى بمحل تاجر أعمال فنية لحين زوال الخطر ثم ما لبث أن وجد نفسه بين أيدي أفراد دورية عسكرية التقطته وسمحت له بقضاء ليلته تلك في مركز الشرطة. وفي الخارج كان الرئيس لويس نابليون بونابرت الذي تعدت سلطاته الحدود التي فرضتها قوانين الجمهورية الثانية، يفرض سيطرته على المدينة بعد قيامه بحل الجمعية الوطنية. وكان مانيه المعروف بتأييده الشديد للجمهورية قد تنبأ بأحداث مثل هذه كما جاء في رسالة كتبها لأبيه قبل فترة من ذلك التاريخ. وبعد عام، أنشأ بونابرت الأمبراطورية الفرنسية الثانية وظل يحكم حتى تمت إزاحته عن الحكم إثر كارثة عسكرية في عام 1870. ومثل مانيه، تأثر العديد من الفنانين الفرنسيين بحقبات الثورات هذه وبتجاربها وبالمواقف السياسية التي رافقتها وقد انعكس ذلك في أعمالهم بشكل واضح. أما الإخفاق في رؤية ذلك فهو إخفاق في مشاهدة الأعمال نفسها وفي فهمها.&
&
لو نظرنا إلى الوراء وإلى عموم الأحداث الهامة التي شهدها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر اللذان سادت فيهما أوضاع مضطربة في فرنسا للاحظنا أن هذه الفترة تميزت بالدموية، إذ تحولت السلطات الملكية إلى جمهوريات ثم إلى أمبراطوريات وهو ما أثار العديد من الثورات ومن الإنقلابات ومن الثورات المضادة، كما شهدت تلك الفترات إراقة دماء. وإن كان مانيه لم يدرك هذه الحقيقة قبل عام 1851 فإن التجربة التي مر بها خلال تلك الأيام القليلة علمته درسا لن ينساه مدى الحياة عما يمكن للعنف السياسي أن يفعله. وقد ظهرت الآثار لاحقا في شخصيته وفي أعماله بعد تلك الليلة التي أمضاها في حماية الشرطة في السجن في كانون ثاني/ديسمبر، وكما تقول ذلك بيث آرتشر في كتابها "إدوارد مانيه: متمرد يرتدي معطفا". في تلك الفترة تابع مانيه عمليات إعدام أمام فندق سالاندروز ثم ما لبث أن رسم بعد أيام قليلة جثثا ملقاة في ممرات مقبرة مونمارتر، في انتظار تحديد هويات أصحابها. ووفقا لما قاله أحد أصدقائه، قام مانيه بإخفاء هذه الصورة رغم أن من الممكن ملاحظة آثار القسوة التي شهدها واضحة في لوحته الشهيرة "إعدام الأمبراطور مكسيمليان" 1867 ونلاحظ هنا أن الأشخاص الذين نفذوا عملية الإعدام يرتدون ملابس جنود فرنسيين. &
&
دوي الرصاص
هذه في الواقع شهادة على فترات إضطراب شهدتها فرنسا خلال القرن التاسع عشر والتي جعل بعضها أحداث عام 1851 تبدو غير مهمة نسبيا. وكانت تلك العملية قد تمت بقيادة قوات عسكرية وليس بقيادة جموع ولذا يعتبرها الكثيرون انقلابا أكثر منها ثورة. وكان الفنانون الذين عاصروا هذه الأحداث لاعبين سياسيين وقد ثبت لاحقا أن التجارب التي مروا بها كانت مهمة بالنسبة لتطورهم كأفراد وهو ما عزز مساهمتهم في تاريخ الفن. ولم يكن مانيه حالة استثنائية أو منفردة، ورغم أنه كان سياسيا أكثر من معاصريه من أمثال مونيه، إلا أن نمط الإنطباعية الذي اشتهر به تطور وسط دوي الرصاص، ولو بشكل جزئي. & &
بعد عقدين تقريبا من استيلاء نابليون الثالث على مقاليد الحكم في الأمبراطورية الثانية (وقد منح لويس نابليون نفسه لقبا جديدا يتلائم مع منصب أمبراطور الذي رقى نفسه له) سحق الألمان الفرنسيين في الحرب الفرنسية البروسية، وانهارت الامبراطورية بسرعة وأسر الألمان نابليون الثالث ثم نفوه. وفي باريس التي أخضعها الألمان لحصار دام أربعة أشهر ما لبثت الأوضاع أن ساءت إلى حد بعيد وتزايد استياء الطبقة العاملة بطريقة غير مسبوقة. وبعد توقيع الهدنة بين البلدين لم تلقِ القوات التي كانت تحمي المدينة - وهي قوات لا علاقة لها بقوات الجيش المعروفة باسم الحرس الوطني والتي تطوع فيها مانيه - لم تلق السلاح، خلافا لما فعلته بقية القوات العسكرية. وسرعان ما تفاقمت حالة الغليان والتوترات بين المواطنين والدولة. ومن جديد، انتشرت الحواجز في شوارع باريس. & &&

كومونة باريس
في تلك الفترة الحرجة قام عدد كبير من افراد الطبقة العاملة في باريس، يجمعهم رفضهم سلطة الحكومة الفرنسية التي يقودها أدولف تيير، قاموا باحتضان أهم مشروع يساري في تاريخ اوروبا وهو ما عرف باسم كومونة باريس. ولم يستمر هذا المشروع طويلا إذ دامت حياته عشرة أيام فقط حاول خلالها فرض ما يدعى بالطبقة العاملة وإدخال إصلاحات ديمقراطية مع اهتمام واضح بحقوق المرآة والدفاع عنها. ورغم أن القائمين على الكومونة حاولوا تأجيج ثورة في أماكن أخرى عدا العاصمة إلا أن هذا التمرد ظل معزولا ومقتصرا على باريس وحدها تقريبا. & &
وغادر مانيه باريس في عام 1871 قبل تشكل الكومونة ولكنه عاد في آيار، أي في الوقت المناسب ليشهد تدميرها. كانت الحكومة قد سحبت نفسها إلى فرساي عندما أعطى رئيسها تيير موافقته على قتل ما بين 20 الى 30 الف شخص. ومع هؤلاء مات التمرد .. مات في الشوارع، تماما كما حدث سابقا، على مدى تاريخ باريس الثوري. وشاهد مانيه عملية إسقاط الحواجز، حسب قول صديقه تيودور دوريه. ولكن، هناك شكوك كبيرة في مدى ولاء الفنان، المعروف باهتماماته البرجوازية والجمهورية، للكومونة غير أن الواضح أنه بدأ يتعاطف مع أفرادها بعد قتلهم ويظهر هذا التعاطف واضحا في لوحته "الحاجز" التي رسمها في عام 1871 التي تصور سحق الكومونة من خلال غيمة دخان أسود وأجساد مبعثرة. وتؤكد هذه اللوحة أن مانيه كان أكثر من مجرد زائر أو مشاهد إذ رسم المجزرة التي نفذتها الدولة الفرنسية لثوار باريس وهو ما يعبر عن موقف سياسي ستظهر نتائجه لاحقا، ذلك أن الحكومة الفرنسية منعت عرض هذه اللوحة. &

موت مارا
كانت هذه جولة في عالم الثورات برفقة مانيه غير أن هناك أعمالا أخرى في تاريخ الفن، تتميز هي الأخرى بالأصالة، وجاءت نتيجة العنف الذي رافق الثورات الفرنسية حتى قبل الكومونة بفترة طويلة. ومن هذه اللوحات المهمة "موت مارا" التي رسمها الفنان جاك لوي دافيد في عام 1793 والتي اعتبرها مؤرخ الفن البريطاني تي جي كلارك بداية الحداثة في الفن بسبب الطريقة التي تناول فيها الفنان موضوعة السياسة. ونشاهد في اللوحة جان بول مارا الذي كان واحدا من أهم شخصيات الثورة الفرنسية بعد قتله في حوض الحمام. وما يميز هذه اللوحة هي أنها تربط بين الرسم وعمليات القتل رغم استخدام الفنان أسلوبا كلاسيكيا يكاد يكون تاريخيا في تنفيذ اللوحة وهو ما تم التعارف على تسميته بالكلاسيكية الحديثة.&
رسم دافيد "موت مارا" خلال فترة الثورة الفرنسية التي استمرت ما بين 1789 و 1799 والتي كانت هزة أرضية عنيفة أولى سرعان ما أعقبتها سلسلة هزات ثورية أخرى في الأعوام، 1830 و 1832 و 1848 وتم تسجيلها على مقياس ريختر. بدأت الثورة الأولى عندما انتفض مواطنون فرنسيون على الملكية واقتحموا سجن الباستيل، وهو حدث ما تزال فرنسا تحتفل به حتى اليوم في الرابع عشر من تموز من كل عام، وأعقب ذلك قيام الجمهورية الفرنسية الأولى، وإطلاق شعار "حرية، مساواة، إخاء" وبدء الكلام عن ولادة العهد الحديث. ولكن، كان هناك صراع قبل قيام الجمهورية، فبعد إعدام الملك والملكة، شجع مارا، الذي كان إحدى الشخصيات المهمة في فترة ما يدعى بعهد الإرهاب (1793-1794)، شجع على تنفيذ أحكام الإعدام بكل من يتعاطف مع الملكية وهو ما دفع شابة اسمها شارلوت كورديه إلى التسلل إلى حجرة مارا وقتله وهو في حوض الحمام.&
ومع ذلك، ربما من الأفضل أن ننهي الحديث عن الفن والثورات بالإشارة إلى لوحة يوجين دولاكروا عن ثورة تموز في عام 1830 والتي قامت في "الأيام الثلاثة المجيدة" التي شهدت استبدال ملكية دستورية بأخرى. هذه اللوحة، رغم ما توحي به من عنف هي عمل رومانسي قدر ما هو وطني ونشاهد فيها الحرية، ممثلة في شكل إمرأة، وهي تقود الفرنسيين بكل طبقاتهم نحو النصر. ويمزج دولاكروا هنا بين التاريخ والأسطورة والدراما الخيالية وواقع المعركة ليعبر عن مشاعره ليس متظاهرا ومتحديا ومتمردا في شوارع باريس بل على الكانفاس. وكتب دولاكروا يقول "تطرقت إلى موضوع حديث، إلى فكرة حاجز. لم يقيض لي أن أحارب من أجل بلدي إلا أنني رسمت من أجله على الأقل". &
عاصر دولاكروا الثورة غير أنه ظل خارجها، إذ لم يحمل سلاحا على الإطلاق عدا فرشاته رغم أنه ساهم في حماية اللوفر من المتمردين. وفي الواقع ستعيش هذه اللوحة إلى الأبد وستلهم أجيالا من الفنانين الذين تناولوا موضوعة الصراعات الثورية. وبينما تستمر تركة هذه النزاعات حتى يومنا هذا، إذ رغم أن تاريخ فرنسا المليء بالعنف السياسي يبدو بعيدا الآن لكنه يعود إلى البروز مجددا مع المواكب العسكرية التي تنظم بمناسبة يوم الباستيل. غير أن التاريخ أكثر من مجرد مجموعة من الأحداث التي تستحق الدراسة أو الإحتفال بها، فهي في الواقع ماض عاشه جنود ومواطنون وثوريون، إلى جانب الفنانين بالتأكيد، أولئك الذين يرسمون لنا لوحة ويصورون لنا فترات صعبة وبشعة مروا بها.&
&