محمد السياغي:تود باريس أن تخبركم أشياء كثيرة عن أسرارها وخفاياها في هذه المساحة، قبل أن تفرد لكم ذراعيها، ويتهيأ لأحدكم، (خاصة أصحاب العيون الزايغة)، أنها أشبه بامرأة طاغية في الأنوثة والجمال، أغرمت به، ولم تجد في هذا العالم غيره، لتراوده عن نفسه!
وأول ما تكشف لكم عنه (وهذه اعتبروها نصيحة مجانية)، أنها مدينة مثيرة في كل زيارة لها تكشف لك عن أشياء جديدة لم تكن معروفة بالنسبة لك، وتنصحكم بأن لا تطلقوا لمخيلتكم العنان في تصور أدق تقاسيمها، لأن أي تصور من هذا النوع، بالتأكيد سيكون ناقصا ما لم تطلعوا عليه عن قرب.


عقل عربي
كانت الساعة السابعة والنصف صباحا، عندما وصلنا إلى مطار باريس، بعد أن قطعنا مسافة حوالي 5700 كيلو متر تقريبا انطلاقا من مطار صنعاء في حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وكان في استقبالنا على باب الطائرة الزميل صادق الصعر الملحق السياحي والثقافي بالسفارة اليمنية في باريس، وكنت مرهقا بما فيه الكفاية لأن أرى كل شيء من حولي أشبه بغرفة نوم مفتوحة، لكن الجو في باريس كان صافيا ولطيفا إلى درجة أنه منحني نوعا من الحيوية والانتعاشة والنشاط على الأقل إلى أن وصلت إلى مقر الإقامة في فندق(نوفيتيل).

تستغرق المسافة من المطار إلى مقر الإقامة في الفندق الواقع وسط مدينة باريس، بجوار برج إيفل الشهير، حوالي نصف ساعة بالسيارة، وهذا الزمن ليس نهائيا فهو مرشح للزيادة، وذلك حسب نوعية الازدحام، الذي يبلغ ذروته عند مداخل المدينة ومخارجها مع دخول الموظفين لممارسة أعمالهم ووظائفهم داخل المدينة، وحسب التقديرات فان عدد من يتوافدون إلى العاصمة باريس بصورة شبه يومية لممارسة أعمالهم ووظائفهم قادمين من الضواحي المحيطة يزيد عن 700 ألف نسمة.

مثل هذا الرقم يمثل رقما قياسيا ومذهلا بالفعل، لكنه لم يبدو مبالغا فيه بمدينة مثل باريس يبلغ عدد سكانها مليونين و153 ألفا و600 نسمة حسب احصاء2005م ومساحتها (9ر86)كم مربع، خاصة بالنسبة لزائر مثلي ما يزال مشهد الزحف الجماعي لكل هؤلاء البشر إلى داخل المدينة عالقا في ذهنه، وشكل لحظتها مشهدا مدهشا حقا بالنسبة له، مثله مثل غيره من المشاهد الكثيرة التي تثير الدهشة وتستحق الانتباه على جانبي الطريق، أبرزها التزام الجميع بقواعد المرور والسير، الحركة الانسيابية للسيارات، التزام النظام والمرور في هدوء وبساطة ودون تعالي لأصوات المزامير وأبواق السيارات من هنا وهناك.
في الطريق إلى الفندق، كانت مثل هذه المشاهدات وغيرها محاور أحاديث ونقاشات طويلة تبادلت أطراف الحديث حولها مع زميلي في الرحلة محمد الهدار، والهادي العماري السائق الذي أوصلنا معا إلى الفندق، أتذكر من بينها أننا مررنا بأنفاق كثيرة، ذكرتني هذه الأنفاق بسؤال السائق عن أي منها، شهد حادث مصرع الأميرة ديانا مع عشيقها عماد محمد الفائد قبل عشر سنوات، ويبدو أن باريس وساكنيها قد نسوا هذه الفاجعة، التي صحوا ذات يوم على وقع ملابساتها المفزعة ولم يعد هناك ما يذكرهم بها، رغم أنه ما تزال تداعياتها قائمة حتى اليوم، بعد أن أثبتت التحقيقات براءة البابا راتزي(مصوري الشوارع ممن يطاردون المشاهير) مما نسب إليهم من تهم.
كما أتذكر من بين المواضيع التي جرى تبادل أطراف الحديث حولها، العقلية العربية وطريقة تفكيرها وتعاطيها مع ما حولها، وكيف أنها عندما تصل إلى مكانة معينة لا تستطيع المحافظة على توازنها، وهذا الحديث أثاره مرورنا بإستاد quot;دوفرنسquot; الرياضي الواقع شمال باريس، حيث شهد فوز فرنسا بكأس العالم عام 1998م أمام المنتخب الايطالي بقيادة بطل كرة القدم العربي المعزول زيدان، وكيف أن هذا البطل الذي ساهم في وصول فرنسا إلى قمة بطولة كأس العالم، هو نفسه الذي قاده اندفاعه وهمجيته وربما حماقته، إلى إخراج فرنسا من بطولة كأس العالم العام الماضي 2006 م تقريبا، وأمثال هذا البطل من أبطال عرب كثر، لم ننس من بين من أحصيناهم حينها نسيم حميد ذات العقلية نفسها، التي أوصلته للقمة يوما، وأسقطت منه لقب بطل العالم لوزن الريشة نتيجة الاندفاع والتهور.


أقدم سائق
من بين الأحاديث ما حدثنا به السائق الهادي العماري عن نفسه، وأصوله التي ترجع لليمن، وهو بالمناسبة جزائري الجنسية، ويعتبر نفسه أقدم موظف في السفارة اليمنية بباريس، ويقول الهادي الذي يتجاوز عمره العقد الخامس الآن وأصبح الشعر الأبيض يغطي مساحات شاسعة من رأسه الأجعد:quot; التحقت بالسفارة اليمنية وعمري(22) عاما وعمري الآن 52 عاما، التحقت بها، ولم أكن قد تزوجت بعد، والآن أصبح لدي أولاد كبار على باب الزواج.. أنه عمر طويل من العمل مع السفارةquot;.


تعزية
بمجرد أن وصلنا الفندق واستقلينا غرف النوم، ذهبنا في نوم عميق، حتى أنه من شدة الإرهاق والتعب من مشقة السفر طوال الليل، لم يحس أحد منا بما حوله إلا عندما صحونا في الساعة الخامسة بعد العصر، وكان الخبر الفاجعة الذي فوجئنا به أول ما صحونا من النوم، نبأ وفاة والد الصديق العزيز صادق الصعر الذي استقبلنا باب الطائرة، وحرص على إيصالنا إلى الفندق قبل أن يغادرنا للراحة، حيث شعرت بأن توقيت وصولنا كان غير مناسب البتة بالنسبة له، وهو الذي اضطر للسفر إلى اليمن بعد ساعات، ولم نتمكن حتى من أن نقدم له مراسم العزاء في مصابه الجلل، رحم الله والده واسكنه فسيح جناته.. إنا لله وإنا أليه راجعون.

رغم الأثر الكبير الذي تركه مثل هذا الخبر الأليم في نفوسنا، وما أحدثه سفر صادق الصعر عائدا إلى اليمن من فراغ بالنسبة لنا، إلا أن ذلك لم يثنينا عن مواصلة المهمة التي جئنا من اجلها، ولهذا فقد كان ما يزال هناك متسع من الوقت لبدأ افتتاح أعمال الدورة الـ30 لمعرض (توب ريزا) السياحي في مدينة دوفيل الفرنسية جنوب غرب العاصمة باريس والتي سنسافر إليها صباح اليوم التالي، أخذنا أنفسنا وخرجنا من الفندق في جولة وسط المدينة مشيا على الأقدام.
في باريس الكثير من المعالم الشهيرة التي تستحق زيارتها والتعرف عليها، حيث يوجد برج إيفل الشهير احد عجائب الدنيا السبع، وهو على فكرة المعلم الذي بقيت طويلا منذ صغري وأنا احلم بمصافحته يوما من الأيام، وعندما تسنى لي ذلك وجدت أن الصدى أصبح يجتاح مساحات واسعة منه، ويهدد ربما بزواله على المدى البعيد.
من أهم ما تسر لك به هذه المدينة عن البرج، أنه شيد عام 1889م ليكون بمثابة بوابة لمعرض باريس الدولي لعام 1890م، ورغم أن شكله آنذاك كان قد أثار معارضة شديدة لدى الأدباء والفنانين، إلا أن البرج بدأ يتخذ لنفسه مكانة خاصة في نظر الباريسيين شيئا فشيئا، وبات اليوم أحد الرموز المهمة لباريس، وهو بالمناسبة تم تلبيسه بالأضواء الراقصة، ويزن 7000 طن، ويرتفع 300 متر، وعلى قمته يقوم برج الاتصالات، ومنارة دائرية متحركة، تضيف للبرج جاذبية وسحر اثناء الليل، بينما يضفي برج الاتصالات إلى ارتفاعه عشرين مترا اخرى، ومن المهم ان يعلم الزائر أنه يزور برج ايفل كل عام أكثر من ثلاثة ملايين شخص كنت انا من بينهم هذا العام، ومع ذلك لم اتمكن من صعوده، رغم امكانية الصعود إليه والوصول إلى كل من طوابقه الثلاثة.

دراجات هوائية
قبل أن نستقل القطار باتجاه الشانزليزية عبر ثلاث محطات، لفت انتباهنا وجود الكثير من محطات الدراجات الهوائية، كانت منتشرة في أماكن متفرقة من شوارع مدينة باريس وساحاتها العامة إلى درجة تثير الانتباه، وتكتشف أن السبب يعود إلى أن بلدية باريس اعتمدت مثل هذا التوجه مؤخرا للتخفيف من حدة الازدحامات داخل المدينة حيث يمكن للمواطن ركن سيارته في أي مكان في المدينة، واستقلال مثل هذه الدراجات إلى مقر عمله والعودة بها مجددا، أو القيام بجولة داخل المدينة دون أحداث أي ازدحام في حركة السير والمرور.

وزير السياحة لم يخف استحسانه لمثل هذه الفكرة، وابدى عزمه عمل تطبيقها في اليمن، وذلك من خلال شراء مجموعة من الدراجات الهوائية العادية، ووضعها في مدينة صنعاء، وبما يمكن السياح الأجانب من استقلالها أثناء زيارتهم للمدينة القديمة والتجول في ضواحيها وشوارعها وأزقتها.

من بين ما يلفت انتباه الزائر أيضا في مدينة مثل باريس بعمرها الممتد إلى بدايات القرن التاسع عشر عندما خططها بشكلها الحديث اليوم البارون جورج هوسمان، أن تكتشف عظمة هذا الاخير من خلال التخطيط الهندسي الرائع الذي نفذه لهذه المدينة، وكيف أنه كان يمتلك حسا فنيا راقيا على المدى البعيد بتخطيطه لشوارع باريس الواسعة ومبانيها الشاهقة، بما تحتويه من بعد حضاري ونفس تاريخي وروح ثورية توحي بعظمة هذا البلد، الذي تجد أنه بدأ اليوم -على نحو غير مسبوق- يقحم نفسه في الصراعات الدولية بزعامة ساركروزي ذي الأصول اليهودية.

روح ثورية متحررة
من بين ما تكشفه باريس للزائر عن تاريخها الطويل، أنها مدينة نشأت أصلا في quot; أيل-دي ستيquot;، وهي جزيرة صغيرة يحتل جزءا منها حاليا وزارة العدل وقاعة البلدية وكنيسة روتردام-دي باري، وكانت قرية صيد صغيرة عند غزو قيصر، وسرعان ما نمت لوتيتيا باريز يورم، لتصبح مدينة رومانية مهمة، و اصبحت في القرن الخامس عاصمة الملوك الميروفنجيين.

وفي عام 845م أغار الفايكنج على باريس وحاصروها، واستمر ذلك بين عامي(885-886م)، كما خربتها غارات النورديين في القرن التاسع عشر، وبإعلان الملك quot;هيو كابت كونت باريسquot; ملكا على فرنسا في مايو987م، والذي استمر حتى 24 أكتوبر 996م، أصبحت باريس العاصمة القومية وازدهرت كمركز تجاري وثقافي في العصور الوسطى، وفي 1120م تم تأسيس جامعة باريس ولكنها عانت الكثير في حرب المائة عام، وخاصة عندما احتلتها إنجلترا خلال الفترة ما بين (1420-1436م).
كما من المهم أن يعرف زائرها، أنها مدينة تميزت بروحها الثورية المتحررة، وهذه الروح تكشف عنها باريس لزائرها الذي يستحضرها بمجرد تنسمه هواء المدينة، والاطلاع على مراحل التقدم والتطور والتحضر الذي قطعته في مختلف الميادين، ويعود بروز هذه الروح، إلى فترات تاريخية متفاوتة، منها الحرب الأهلية بزعامة إتيل مارسيل عام 1358م، ومقاومة المدينة لهنري الرابع خلال الفترة ما بين (1589-1593)م، وفي مقاومتها الفروند الأول(1648-1649)، وفي فترة اندلاع ثورات 1789م و1830م و1848م، والحصار الألماني الذي فرض عليها مابين عامي(1870-1871م).

مقاهي متنقلة
بباريس يلفت انتباهك مثلا ع عدم اكتراث ساكنيها بالزائرين، اللذين تعج بهم من مختلف الجنسيات، بالاضافة إلى مشهد الأكياس البلاستيكية التي تستخدم بدلا عن براميل القمامة للتخلص من النفايات، وهي تجربة تحس بأنك مطالب بنقلها إلى المعنيين في اليمن من خلال الحديث عنها لأنها غير مكلفة وتود لو أن العاملين في أمانة العاصمة يأخذون بها بدلا من تكبيد الدولة الكثير من الخسائر نتيجة الأخذ بالبراميل والتي عادة ما يتم تعرضها للكسر والتلف.

كما أن من بين المشاهد المثيرة للاهتمام، والتي تتمنى لو أن المعنيين في أمانة العاصمة يأخذون بها باعتبارها أفكار مجانية، مشهد المقاهي المتنقلة التي يتم نصبها بمدينة باريس في هيئة خيام متنقلة عند المساء ويتم إزالتها في الصباح وخاصة في الأماكن والساحات العامة مثل الساحة المقابلة لقوس النصر العظيم والتي يرتادها الآلاف الزوار ويجدون في هذه المقاهي متنفسا بالنسبة لهم، وهي فكرة يمكن الأخذ بها من قبل أمانة العاصمة وخاصة في منطقة السائلة التي تفتقد لمكان أو مقهى عام يجلس عليه الناس بدلا من التسكع والجلوس جلسة القرفصاء على رصيف السائلة في مظهر اقل ما يوصف بأنه غير حضاري.

الشانزليزية
أمام ساحة قوس النصر، والذي شيد مطلع القرن التاسع عشر، بأمر من القائد نابليون بونابرت عقب نجاحه في معركة quot;اوسترليتزquot; ضد التحالف (الألماني، النمساوي الهنقاري)، التقطنا مجموعة من الصور، وكم كان المشهد رائعا لمجاميع السياح من مختلف بلدان وقارات العالم وهم يتوافدون إلى هذا المكان لا لشيء إلا ليأخذوا لأنفسهم صورا تذكارية أمام هذا المعلم التاريخي الشاهق، والذي يحتوي على جداريات رائعة تحكي عن الكثير من التفاصيل والإحداث التي تخللت المعركة، وتصور الكثير من أنماط الحياة العامة التي سادت تلك الفترة والقادة الذين قادوا فرنسا للنصر.
مثل هذا القوس الذي شيد بالتحديد في الفترة ما بين( 1808 و 1836) وذلك بناءا على أمر من القائد نابليون بونابرت الذي اراد تخليد ذكرى الجيوش الفرنسية بإقامة نصب خاص بها، وهو اليوم بمثابة نصب الجندي المجهول، كان من بين القليل من المعالم التي مررنا بها أثناء زيارتنا الخاطفة للمدينة، رغم ما تشي لك به عن كثرة معالمها، حيث مررنا بالمركز اللاتيني الشهير ببناياته المعمارية القديمة ذات المنحوتات التمثالية الحجرية الرائعة التي تزين الجدران من الخارج، لكننا لم نقف عنده طويلا، كما هو الحال بالنسبة لقوس النصر الذي بدونا كالأقزام ونحن نصطف امامه للتصوير، وذلك بارتفاعه الذي يصل إلى 50 مترا وعرضه البالغ 45 مترا.

لم نصعد إلى سطح هذا القوس رغم أنه يمكن الوصول إليه عبر نفق خاص يقع مدخله على الرصيف الأيمن لشارع الشانزلزيه، والتمتع بمنظر رائع للمدينة، ومن المهم ان يعرف الزائر بأن الساحة التي يقع فيها القوس تدعى بساحة أتوال، ويصب فيها 12 شارعا ( يقال أنها كانت خمسة عام 1854). من بين أهم هذه الشوارع الشارع المقابل للشانزلزيه، وهو -حسب ما أتذكر- شارع quot;لجرند أرمquot;المؤدي الى حديقة الالعاب وقصر المؤتمرات، بالاضافة إلى شارع فوش، وهو اعرض شارع في باريس، لم نمر به، لأنه كان سيؤدي بنا إلى غابة بولونيي.
كالعادة وكلما أجد نفسي مستغرقا في التمعن بمثل هذه المعالم وأبقى معها في حضرة التاريخ بكل عظمته وهيبته، أطرح على نفسي نفس السؤال quot;المملquot; بالنسبة لي على الأقل، لماذا دائما ما نفاخر بالحضارة التي شيدها أجدادنا وآباؤنا الأولون، ونظل نتغنى بالأمجاد التي سطروها، دون أن نكلف أنفسنا عنا تشييد معلما ما يدلل على حضارتنا نحن، ويضيف إلى حضارة من سبقونا شيئا جديدا، ويذكر بلحظات وجودنا ومرورنا في حقبة تاريخية ما بهذا الزمن!

طبعا لا أجد الإجابة، كما هو الحال في كل مرة، ولهذا تجدني أبحث لنفسي كما هو معتاد عن مخرج يبعدني عن الحاح الذات في البحث عن الإجابة عن ذات السؤال الذي بات مقيتا بالنسبة لي، وكان التجول في شارع الشانزليزيه هذه المرة أفضل مخرجا من الهواجس التي لا معنى لها!

تشي لك المدينة، أنه مع بداية القرن السابع عشر بدأ التفكير في تهيئة بعض الشوارع في منطقة الشانزلزيه الحالية، والتي لم تكن وقتها سوى بساتين وبرك مائية، وفي عام 1667م بدأ مد شارع عريض يربط حدائقquot; تويليريquot; بقمة تل شايو ( ساحة أتوال الحالية )، لكن جانبي الطريق ظلا خاليين من المباني بحيث كان الطريق يبدو ريفيا بطابعه حتى بداية القرن التاسع عشر. وفي عام 1828 بدأ العمل على تزيين الشارع بنافورات مائية، وأرصفة، وإنارة عامة إضافة إلى قيام العديد من المحلات التجارية والملاهي الراقية فيه. فأدى ذلك الى انتعاش المنطقة اقتصاديا، ثم جاءت المعارض العالمية والماركات الدولية لتقيم في الأحياء المجاورة وتضيف إلى المكان بعدا ودورا اقتصاديا وماليا مهما اكسب هذا الحي كل هذه الشهرة.
في هذا الحي الذي تلوكه الألسنة الفرنسية بلكنة لا تخلوا من التضخيم والمفاخرة والمد المصطنع هكذاquot; الشااااانزليزززيةquot;، يتم تسويق أفضل البضائع والحاجيات من أفضل الماركات على اختلافها، لكن الكثيرين من سكان باريس هنا لا يتحرجون من الأسرار لك بأن أثمان هذه البضائع لا تخلو من المبالغة والمفاخرة أيضا، باعتبار ذلك سمة رئيسية تميز المكان، بمعنى أنه يمكن أن تقتني بضاعة أخرى من أي مكان بأقل مما اشتريتها من أي محل في الشانزليزية، لكن أي بضاعة لن تحظى بنفس النظرة التي تحظى بها البضاعة المقتناة من الاخير لدى الآخرين لمجرد أنها من الشانزليزيه.

استمرت جولتنا في شوارع مدينة باريس يومها حتى الساعة الثانية عشرة ليلا، عندما عدنا إلى مقر إقامتنا في الفندق، بينما كانت شوارع باريس قد بدأت تخلوا من المارة، وأخذت المدينة وناسها يستغرقون في ثمالة ليلهم الطويل شيئا فشيئا.. ولهذا فإن باريس تنصح زائرها بالتبضع مبكرا لأن الحركة فيها والمحال التجارية تغلق باكرا، وأتذكر أننا عندما عدنا للفندق كان يفترض أن نشتري بعض الحاجيات للسحور، لكننا لم نجد سوى كافتيريا واحدة للبناني الجنسية أخذنا منها ما يلزمنا وعدنا إلى الفندق.

كان علي أن أنام باكرا استعدادا للسفر إلى دوفيل في صباح اليوم التالي، لكن عقلي لم يتوقف عن التفكير ليلتها ولم يطبق لي جفن، وأمضيت الليل كله في كتابة هذه السطور، والاستحمام والتقاط بعض الصور للمدينة أثناء الليل وهي مزدانة بالأضواء، وذلك من نافذة غرفتي بالدور السادس عشر والمطلة على نهر السين الذي يقطع مدينة باريس ومدن فرنسية ويشقها إلى نصفين.

لم أكن قد نمت بما فيه الكفاية، عندما صحونا في تمام الساعة الحادية عشرة ظهرا على وقع الاتصالات الهاتفية من السائقين الجزائريين الذين جاءا من السفارة، وكانا بانتظارنا في صالة الاستقبال الخارجية بالفندق.
الخارجية اليمنية.. quot;صح النوم!!quot;
على عكس المتوقع تماما، ولأننا وفدا رسميا جئنا لنمثل اليمن والترويج للسياحة اليمنية في السوق الفرنسية من خلال المشاركة في معرض الصالون الدولي للسياحة توب ريزا 2007م، كنت أظن أن السيارات التي جاءتنا من السفارة، سترافقنا وستكون تحت تصرفنا طوال فترة مشاركتنا التي لم تستغرق أربعة أيام، بل وأننا سنحظى باستقبال لائق يرقى إلى مستوى تمثيل الوفد المشارك برئاسة وزير السياحة نبيل الفقيه.
لكن للأسف الشديد، وتحت إصرار منا على استئجار سيارة لتقلنا إلى مدينة دوفيل الفرنسية مسافة(250) كم جنوب غرب العاصمة باريس، أمضى سائقي سيارتي السفارة أكثر من قرابة الساعتين في التفاوض مع المسؤولين في السفارة اليمنية عبر الهاتف، إلى أن اخذوا ما يشبه الضوء الأخضر، وتوصلوا إلى قناعة على استحياء بإيصالنا ليس كما كان معد سابقا إلى محطة القطار المتجه إلى مدينة دوفيل، بل إلى المدينة نفسها والعودة مجددا إلى باريس قبل تركنا حيث نزلنا بفندق ديقولف، بطابعة البنائي التقليدي القديم، وديكوره وتصميمه الرومانسي البديع، وعمره الممتد إلى عام1920م.
أما بالنسبة للاستقبال، فحدث ولا حرج كما يقال، حيث تشعر بالاسف، أنه لو لم يكن صادق الصعر هو الذي استقبلنا من السفارة، لما رأينا أحد يجبر بخواطرنا ولو بتحية عابر سبيل، ولم يكن هذا مهما بالنسبة لنا على الاطلاق، حتى انه لم يهمنا أن لا يحضر ولا يشارك أحد معنا من السفارة في فعاليات مثل هذا المعرض، لان مثل هذا ليس بالامر الغريب على الكثير من سفارات اليمنية في الخارج، والتي من المحزن لا تقوم بواجبها على أكمل وجه، وتمثل انعكاسا لحالة الاهمال والتلاعب والفوضى والعبث الموجود في الداخل.
ما يؤسف له حقا، أن تشعر بأنك تعمل بمفردك، وأن سفارة البلد الذي جئت لتروج لسياساته وتوجهاته ولخدمته مجرد quot;ديكور للزينةquot;، ويوحي لك من فيها بتجاهلهم انهم غير مكترثين بما تعمله وما جئت من أجله، وكأنك جئت لتروج لبلدا أخر مثل موزنبيق مثلا، بل وأن القائمين على مثل هذه السفارات، والمسؤولين فيها لهم اهتمامات ومسؤوليات أخرى كثيرة وكبيرة لاتمنحهم ربما الوقت الكافي لمشاركتك! وربما تكون أكبر واعظم مما قد تتصوره انت باعتقادك أنها يجب أن تحرص على أن يكون لها تمثيل في مثل هذه الاعمال والنشاطات التي تخدم الصالح العام للبلاد!
أثار مثل هذا الامر اسئلة كثيرة في نفسي، إذ كيف يمكن لنا الترويج للبلد وسياحته ونحن نعمل بهذا الشكل؟ وكيف ندعى اننا نتطلع إلى أن تكون 6 في المائة من الاقتصاد الوطني من عائدات السياحة؟ وهل يعتقد القائمين على مثل هذه السفارات أنها مجرد حضانات لاولاد الذوات، وأن أكبر مسؤولياتها واهتماماتها تنحصر على مجرد تقديم الخدمات الخاصة لعلية القوم، من منح تاشيرات قضاء الاجازات والعلاج، على طريقةquot; أخدمنى اخدمكquot;؟ من يظن بعض سفراءنا في الخارج انفسهم.. أفضل من أي سفير أجنبي في اليمن، ممن يحرصون على تمثيل بلادهم في كل صغيرة وكبيرة، هذا إذا لم يقحم بعضهم نفسه في كل شاردة ووارده.
ما ينبغي التأكيد عليه هنا، أنني من خلال ما طرحته، لا أتحامل على أحد، ولا أقصد بتوجيه تساؤلاتي تلك أي جهة أو شخص بعينه، بقدر ما أريد أن يفهم الجميع أن العملية الترويجية للبلد هي عملية تكاملية مشتركة تحتاج إلى تعاون الجميع وجهودهم في الداخل والخارج، وأن حلقتها لا يمكن أن تكتمل أو تعمل بمفردها ما لم تعمل بقية الحلقات الاخرى مع بعضها البعض.. وبأننا لن نستطيع الترويج لليمن طالما وأن الدور الدبلوماسي في حل الكثير من قضايا والمشاكل وخاصة ما يتعلق منها بالتحذيرات التي تصدر عن السفارات الاجنبية في صنعاء شبه غائب.
وأكثر ما حملني على كتابة هذا هو تعليق وزير السياحة الفرنسي على نظيره اليمني عندما عرض عليه الأول الخدمة التي يمكن أن يقدمها له أثناء زيارته للجناح اليمني خلال أيام المعرض في مدينة دوفيل، ورد عليه الوزير اليمنيquot; حبذا لو تخففوا من حدة التحذيرات التي تصدرها السفارة الفرنسية في اليمن لتأثيرها على السياحة الوطنيةquot;، أجاب الوزير الفرنسيquot; هذا الموضوع من اختصاص الخارجية.. أين سفيركم؟quot;!
ما يحز في النفس -بحق- أن تكتشف بعد كل هذا أن اليمن، لم يخرج من قائمة البلدان الخطر، والمحظور على الرعايا الفرنسيين زيارته تماما، رغم حالة الاستقرار الأمنية التي يشهدها، مقارنة ببلدان عربية كثيرة شهدت احداث عنف دامية، ولم توضع ضمن هذه القائمة quot;المقيتةquot;، وهو ما يؤكد من التحامل على اليمن من جهة، ويعزز من جهة أخرى التأكيد على الدور الدبلوماسي النشط الذي تلعبه البلدان المتضررة سياحيا بسبب اعمال العنف في معالجة مثل هذه القضايا مع البلدان الصديقة المصدرة للسياحة اليها، مقارنة بالدور الدبلوماسي اليمني العام، والذي كما يبدو للأسف يكرس -ربما- بتجاهله وتقليله لأهمية مثل هذه المواضيع، إن لم نقل يعمق بشبه غيابه من النظرة العامة السلبية لليمن، والتي تلعب الكثير من العوامل والظروف والأطراف في عملية تشويهها.

السلامي وعلامات قيام الساعة
حتى لا أنسى خلال فترة التفاوض تلك بين السائقين ومسؤولين السفارة، وقبل أن يتلقى السائقون الأوامر بإيصالنا إلى دوفيل، أتذكر ان السائقين أوصلونا إلى مقر السفارة اليمنية في باريس، وهناك تسنى لي التعرف على المخرجة اليمنية الشهيرة خديجة السلامي، والتي تشغل حاليا منصب الملحق الإعلامي بالسفارة في باريس.. التقيتها بينما كانت مشغولة بالتحضير لمعرض تشكيلي لإحدى اليمنيات، وجرى بينى وبينها حديث تعارف خاطف تمهيدا لإجراء حوار معها، لكن لانه لم يتسنى لي الفرصة من إجرائه أثناء زيارتي القصيرة لفرنسا، أتمنى أن تقرأ هذه السطور، وتبعث برسالة على ايميلي، ليتسنى لي محاورتها الكترونيا عبر البريد.
وطبعا في الطريق إلى دوفيل جرى حديث طويل بيني وبين الزميل محمد الهدار حول مواضيع كثيرة، حاولت جميعها ان تقدم استقراء موضوعي وتحليلي للكثير من القضايا الساخنة المدرجة ضمن أجندة المجتمع الدولي، وذلك من واقع الاستنتاج والثقافة العامة، والمعرفة، والملاحظة والمؤشرات، والاطلاع على آخر التقارير والدراسات والأبحاث للمنظمات الدولية.
وانطلاقا من مجريات الإحداث والأوضاع الراهنة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وتأثيرات تداعياتها واتجاهاتها الخطيرة على البشرية في ظل سباق التسلح النووي، مرورا بهيمنة القوة وسيطرة مبدأ القطب الواحد على قنوات الاتصال والتواصل، وطغيان منطق فرض الذات والأنا على لغة الحوار والتفاهم بين أفراد المجتمع الدولي، والمصير المجهول الذي تقاد إليه البشرية وشعوب العالم، في ظل احتدام الصراع المستمر بين قوى السلام والخير، ودعاه الضلال والشر وتعالى أصوات أمراء الحروب وسدنتها وقتله الأطفال الأرامل والشيوخ، بدأ لي أن كل ذلك ينذر بما لا يدع مجالا للشك بحتمية الفناء والدمار، وهي جميعها تقدم نفسها كمؤشرات خطيرة وعلامات مهمة من علامات قيام الساعة!!


مضامير الخيول وملاعب الغولف
أول ما وصلنا إلى مدينة دوفيل الأنيقة جهة الجنوب الغربي لمدينة باريس، استقبلتنا الساحات الخضراء الشاسعة المخصصة لإقامة سباقات ومضامير الخيول، وملاعب الغولف، وبالمناسبة هذه المدينة الساحلية الرائعة، بدأت تستضيف فعاليات هذا المعرض منذ فترة قريبة، بعد انطلاقته في باريس قبل نحو ربع قرن من الزمن.
ولأول مرة في حياتي أرى مدينة ساحلية تتمتع بمناخ معتدل وبارد ايضا، مقارنة بالمدن الساحلية الموجودة في الشرق، وأهم ما تكشفه لك هذه المدينة من بين أسرارها، أنها تمثل المصيف الرئيسي لمدينة باريس، وأنها في مثل هذا التوقيت من العام، الذي اصبح فيه فصل الشتاء على الابواب، تكون قليلة السكان، أما منازلها الانيقة المنتشرة بشكل منظم، في سواحل المدينة، وهضابها المترامية الأطراف، والتي تتميز بالاسقف المثلثة المصنوعة من الياجور والخشب، تكاد تكون مغلقة، مقارنة بفصل الصيف، حيث لا تجد فيها موطئ قدم تحط عليه رجليك كما يقول السكان المحليون.

اثناء مرورنا وتجولنا داخل المدينة خلال فترة انتهاء العمل ضمن أيام المعرض الذي كان يفتح في الساعة السابعة صباحا ويغلق في السابعة مساءا، كنت أحاول النفاذ بنظري من نوافذ بعض المنازل التي كان يقع بصري عليها، علي بذلك اجد وميض ضوء يؤكد على وجود احد فيها، أو شرخا أتسلل منه الى الداخل، لكن نظري لم يكن يتجاوز حدود الظلام، والقطع القماشية المحكمة على معظم نوافذ المنازل التي يعود غالبيتها لسكان باريس ممن يتخذونها مصيفا لهم حسب ما يقال.

تسحرك المدينة بهدوئها وجمالها، وبمناظرها الخلابة وجوها العليل، بالاضافة إلى نظافتها وحسن ترتيبها وتقسيمها، حتى جمال مساكنها التقليدية، وطيبة سكانها، ونوبات الإمطار التي تتساقط عليها من حينا إلى اخر ليل نهار تضفي إلى سحر جمالها الطبيعي الأخاذ جمالا إضافيا يؤكد على عظمة وواحدية الخالق عز وجل الذي سخر لعبده العاصي كل هذه الجنان.
وصلنا إلى هوتيل ديقولف، وهو من أقدم الفنادق في المدينة بتاريخه الذي يعود إلى بدايات القرن الماضي، وأجمل ما يميز هذا الفندق عن غيره، بترتيبه ضمن درجة فنادق الأربعة نجوم، احتفاظه طوال عمره الثمانيني بمكانته، وتمسكه بطابعة الرومانسي التقليدي، من ديكور، وأثاث، وطريقة توزيع الأضواء والألوان، ونوعية الخدمات، وطريقة تقديمها، وحتى في محابس مواسير المياه القديمة، والنوافذ العتيقة العملاقة، ومغاليق الأبواب، والتخطيط والتصميم الهندسي للمبنى، وبناءه المعماري المتميز.
كل ما في هذا الفندق، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يعيدك إلى عهود سحيقة، عهود سيطرة الطبقات البرجوازية والنظام الإقطاعي على الحكم في فرنسا، ومناطق مختلفة من العالم، مثل عهد الملكة ماريا أنطوانيت في فرنسا، والملك فاروق في مصر، وهم يمثلون مع غيرهم من شخصيات ومشاهير، من سياسيين، وممثلين، ورياضيين، على مستوى العالم، أبطال تضمهم واجهات وبعض جدران الفندق كأبرز الشخصيات التي نزلت بالفندق على مدى تاريخه الطويل الحافل والمليء بالشخصيات والأحداث.

باب اليمن في توب ريزا
في اليوم التالي من وصولنا بدأت فعاليات الدورة الثلاثين من معرض الصالون الدولي للسياحة (توب ريزا 2007م) بمشاركة حوالي 27 ألف عارض من مختلف بلدان العالم، وكان أهم ما يميز الجناح اليمني في هذا المعرض هو شكل الديكور والتصميم الهندسي الذي اتخذه، حيث مثل باب اليمن مدخلا للجناح اليمني في المعرض، بينما شكلت بقية تفاصيل البناء المعماري الفريد لمدينة صنعاء التاريخية وواجهاتها المعمارية، التقسيمات الأخرى للجناح، من قمريات و غيرها.

استغفالنا بالمعارض البائسة التي تقام هنا، مقارنة بالمعارض التي تقام لدى الآخرين ومستوى الاعداد والترتيب لها، والعائدات المهولة والمذهلة التي تعود بها على السياحة المحلية لبلدانها، وهو ما يحتم علينا دعوة الجهات الحكومية إلى التفكير جديا في فتح الباب امام سياحة المعارض والمؤتمرات، التي اثبتت نجاحها، كبديل عن السياحة الثقافية والاثرية التي تعتمد عليها اليمن، وذلك بالنظر إلى ما نجنيه من انواع السياحة الاخيرة، وما تعود به من مشاكل ومتاعب لا حدود لها، بعدم وقوفها عند حدود أعمال الاختطاف والارهاب، بل تجاوزها ذلك إلى حد تدمير المواقع السياحية والاثرية وتعريضها لعمليات النهب والسطو المنظم والسرقة، وغيرها من المشاكل البيئية، وهي تمثل من ابرز التحديات التي تواجه السياحة الوطنية اليوم.


ففي فرنسا كما في ألمانيا ومدن وعواصم غربية كثيرة، ترتكز عائداتها السياحية في المقام الاول على سياحة المؤتمرات والرياضات المتنوعة والمعارض الدولية التي تحتضنها من حين إلى آخر طوال العام في مختلف الميادين والمجالات والاتجاهات والاختصاصات، من معارض الكتاب، المضخات، الاجهزة الطبيية، مواد البناء، المواد المنزلية، السياحة، الزراعة، وغيرها من المعارض، التي تجعل من فرنسا تحتل المرتبة الثانية من حيث العائدات السياحية بين دول العالم بعد اسبانيا والولايات المتحدة بحجم عائداتها البالغة 8ر40 مليار دولار وفقا لإحصاء منظمة السياحة العالمية للعام 2004م، فيما تفوق العائدات السياحية الاوربية نصف العائدات السياحية العالمية، مقارنة بعائدات انواع السياحات في البلدان العربية والتي لا تتجاوز عائداتها السنوية مجتمعة3 في المائة من اجمالي عائدات السياحة الدولية.
لم يختلف اليوم الاخير لنا في دوفيل عن بقية الايام، فمن الفندق إلى المعرض، ومن المعرض إلى الفندق، إلى المطعم، والعودة إلى الفندق مجددا، بينما كانت وجبات المكدونيلز والسلطات والبيتزا، ومكرونة القواقع من ابرز وجبات الافطار، وكانت المأكولات المعلبة والكيك والعصائر والماء هو زادنا الرئيسي الذي نعتمد عليه في وجبة السحور والصيام.
يبدو الصيام في باريس وغيرها من المدن الغربية صعبا للغاية بالنسبة للكثير من الجاليات العربية والمسلمة، هذا ما تشعر به وأنت تحرص على مشاركتهم الصيام في هذا الشهر الكريم، رغم انعدام الشعائر الروحانية المميزة لشهر رمضان المبارك في مثل هذه المدن، باستمرار ديمومة الحياة والحركة السريعة فيها، وقلة انتشار المساجد وانعدام تعالي التكبيرات وممارسة أنواع العبادات والابتهالات المختلفة، وانتشار المبطلات التي تفسد الصوم في أحيان كثيرة، لكن كم تشعر بالإكبار والإعزاز بالنفس وبعظمة الدين الذي تنتمي إليه، وأنت تحيي مثل هذا الشعائر في هذا العالم، حيث للصائمين فيه الاجر العظيم مضاعفا.

رومانسية، وطرق الموت!
غادرنا مدينة دوفيل عند الساعة الرابعة والنصف صباحا، كانت ما تزال مستغرقة في نومها وثمالة ليلها الناعس، تبعد عن نفسها البلل بعد الاغتسال بماء المطر طوال ساعات الليل القصيرة.. لم أنم ليلتها من كثرة التفكير في رحلة العودة، ومغادرة مدينة كهذه، وهي تمثل أجمل مدينة زرتها في حياتي حتى الان، ومصيف باريسي رائع الجمال والأناقة والنظافة والنعومة.
على عكس معظم الأجناس البشرية تلاحظ أن الشوارع أثناء الليل تكاد تكون خالية من السيارات، ولا يوجد غير الشاحنات، وأن الفرنسيين لا يحبون السفر أثناء الليل، وهذا نابع من الإدراك الواعي لخطورة السفر في هذه الفترة رغم سهولة الطرق وتمهيدها ورومانسيتها وتجهيزاتها بكل وسائل السلامة العامة من اضاءات وإشارات وعلامات ولوحات الاتجاهات الخ..
بمناسبة الحديث عن الإشارات والعلامات الضوئية والزيتية واللوحات الإرشادية وغيرها من وسائل السلامة المنتشرة على الطريق، تصوروا أننا خرجنا من مدينة دوفيل الفرنسية إلى باريس إلى المطار وقطعنا مسافة أكثر من 300 كيلو متر دون الحاجة إلى مرشد يعرفنا بالطريق، وكأن البلاد بلادنا ونعرفها منذ سنين مع أنها كانت المرة الأولى التي نزورها فيها، لقد مرينا كل هذه المسافة بموجب خريطة، توضح بالتفصيل المداخل والمخارج التي يسلكها الزائر إلى أي مكان يود أن يقصده في فرنسا.
على أصوات الموسيقى الرومانسية الشاعرية، التي كانت تخترق حالة الصمت داخل السيارة وسط الظلام، بينما الأخيرة تمخر بنا عباب الطريق الإسفلتي باتجاه مدينة باريس بثقة واعتزاز كبيرين، كان الجو رومانسيا وشاعريا بما فيه الكفاية لان يمنح مثلي على غير العادة القدرة على مقاومة النعاس الذي كان يغالبني حينها.
الملاحظ إلى جانب رومانسية الطريق، وهي مزدانة بالأضواء والإشارات، ومحاطة بكافة وسائل السلامة والحماية، وما تمنحك إياه من حالة صفاء، على عكس طرق الموت لدينا التي تحصد الآلاف الأرواح شهريا، وتحتم عليك أن تكون يقضا طوال الليل، تحسبا لوقوع أي مكروه لا قدر الله، وتفاديا من أن تكون احد ضحايا فنتازيات التهور المفزعة، أو الطرق المميتة، التي يلتحم فيها الحديد باللحم!!
في الطريق أيضا، مجموعة حواجز الكترونية يتم توزيعها حسب الكيلومترات بين المدن الرئيسية، ومن خلالها يتم تحصيل رسوم رمزية من السيارات والمركبات المارة من الطريق، وهي رسوم تخصص لتحسين وصيانة الطرق، وتكون تابعة أما للدولة أو لشركات القطاع الخاص التي تتبنى اعمال الصيانة والتحسين لهذه الطرق، وتستعيد حقها من خلال تحصيل هذه الرسوم، قبل أن تعيد تسليمها للدولة،( تماما كما هو عندنا، نقاط تفتيش، وقطاع خاص كسيح!).

مطار مذهل!
عند تمام الساعة السادسة صباحا وصلنا إلى مطار باريس، وطبعا هذا المطار يشد انتباهك ببنيته التحتية المذهلة جدا، وهو الذي يتكون من عدة طوابق ومداخل ومدارج وصالات لا يمكن لواحد حصرها من الزيارة الأولى، ومجهز بأحدث الوسائل الرقمية والتقنية الحديثة في عملية الرقابة والفحص..الخ، ويكفي أن تعرف بأن موقفه فقط يتكون مما بين (6-8)طوابق قابلة للتوسعة، ويستوعب أكثر مما بين(10-25) ألف سيارة دفعة واحدة.

كنت ألحظ نظرة التوجس والخوف والحذر في عيون السياح الفرنسيين وهم يتطلعون في كل ما يجرى داخل الطائرة من أشياء غير مألوفة بالنسبة لهم مثل المناكفات بين المضيفين؟ وكان السؤال الذي يدور في رأسي حينها: كيف نريد أن تكون 6 في المائة من الدخل القومي من عائدات السياحة، والسياح quot;المساكينquot; تبدأ رحلة مغامرتهم لليمن من الخطوة الأولى التي يصعدون فيها عتبة الطائرة؟

لكن ما كان يهون علي ما أنا فيه أن أجد سياحا مستغرقين في قراءة الكتب ورؤية الصور الموجودة لديهم عن اليمن طوال الرحلة، وآخرون لم يترددوا في الانتقال من مقاعدهم بصورة ملفتة من الجهة اليمنى إلى مقاعد الجهة اليسرى بمجرد أن تعالى صوت المضيفة معلنة عن بدء الهبوط التدريجي في مطار صنعاء الدولي، انه شغف التوق إلى لحظات الدهشة الأولى! وهنا تكتشف كم أنه ما يزال في هذا البلد ما يجبر الكثيرين مثل هؤلاء السائحين على القدوم إليه مع أن أهله بشكل عام لم يكونوا أبدا في يوم ما عنصرا مساعدا على ذلك.
المهم قلت لصديقي شهاب الذي كنت أتهامس معه بكل ذلك فوق الطائرة quot; البلاد ما زال بخير وفيه ما يجذب السياح رغم سوء المعاملة.. المهم قل يا رب ما يحصل لهم حاجة ويعودوا إلى بلادهم بسلام وانطباعات جيدة والحمد لله على سلامة الوصول!!