حنان سحمراني من بيروت: على الرغم من التطور الصناعي والإعتماد على الآلات الحديثة في معظم المهن والحرف إلا أننا نجد بعضها يتمسك بالأصول والأساليب القديمة يتحدى بها التطور. بأدوات بدائية غير متطورة، وخبرة عالية، وزبائن كثر، تثبت هذه الحرف وجودها في السوق. حرف ومهن كـ quot;المبيّضquot; وquot;المطهر العربيquot; وquot;المنجّدquot;، وquot;المجبّرquot;.

في سياق ذلك قابلت إيلاف عددا من أصحاب هذه المهن الذين عرفونا عليها والمشاكل التي يعانون منها في ظل التطور بالوسائل الحديثة الصناعية التي حجمت مهنهم وجعلتها في طريق الإنقراض.

المبيّض

يحدّث أسد quot;إيلافquot; عن مهنته من داخل محل صغير في منطقة الشياح ببيروت؛ محل مليء بأوان نحاسية على مختلف أنواعها لم يعد يتسع لها المكان من كثرتها. بدأ المعلم أسد ممارسة مهنة التبييض في السبعينات حيث تعلمها من والده وهو من قرية جنوبية تشتهر بهذه المهنة قديماً. يقول أسد إن مهنة التبييض مهنة شرقية قديمة تختص بتنظيف النحاس على أنواعه عندما يتأكسد ولا يعود صالحاً للإستعمال.

هناك كثير من الزبائن الذين ما زالوا يستعملون هذه الأواني النحاسية كالطناجر الكبيرة في الطبخ وخاصة في الافراح والمآتم والمناسبات الإسلامية التي تقدم فيها الولائم، وطبعاً بعد الإنتهاء من الطبخ تحتاج هذه الأواني إلى التنظيف ويتم التنظيف عادةً بالتبييض.

فينقع المبيض الحلة بماء النار وينظفها بعدها بماء ثم يضعها على نار يحميها على درجة عالية من الحرارة، بعدها يجلب القصدير ويضع منه على المكان الذي يريد تبييضه، فإن كان يريد تبييضها من الداخل يضع القصدير عليها من الداخل أما إذا كان يريد تبييضها من الجهتين فيضعه من الخارج والداخل.

ويضيف أسد أن الأواني النحاسية إن لم تتبيض كل فترة لا تعود صالحة للإستعمال وتعرض الشخص للتسمم إذا ما طبخ بها وهي تبدو أنها بحاجة للتبييض من مادة الجنزير التي تظهر عليها.

تبييض التحف النحاسية

وهناك نوع آخر من التبييض يحدث quot;إيلافquot; عنه المعلم أنور الذي يستعرض معنا التحف النحاسية داخل محله الموجود في quot;طريق صيدا القديمةquot; بجانب عين الرمانة في بيروت. يقول أنور إن هذه المهنة أصبحت من المهن التراثية القديمة ولكن لها زبائنها الخاصيين الذين لديهم هواية في التحف النحاسية القديمة؛ quot;فكثيرا ما يأتي أشخاص إلى محلي طالبيين أن أبيّض لهم ثريات وشمعدانات ومصابيح وتماثيل أثرية كانوا قد توارثوها من أجدادهم وتحتم عليهم التقاليد أن يحافظوا عليها لأنها تعتبر إرثا عائليا إلى جانب قيمتها المالية المرتفعة وجمالها الأثريquot;.

يضيف المعلم أنور أن عملية التنظيف لهذه التحف تكون مختلفة عن تبييض الأواني الأخرى وطريقتها أصعب، أولاً يفصل المبيّض سلك الكهرباء من التحفة وبعدها يفككها إلى قطع صغيرة ويضع كل قطعة على فرشاة كهربائية خشنة ثم ينظفها على فرشاة ناعمة وبعد ذلك يضع دواء اشبه بمادة الصابون خاص بالتبييض. وعند الإنتهاء من تنظيفها يقوم بتلميعها جيداً وبعدها يجمعها لترجع جديدة تبرق مثلما كانت من قبل.

المجبّر العربي

الحاجة خديجة في العقد السادس تقطن في منزل صغير مؤلف من غرفة في بيروت وليس لديها أولاد. تحدث quot;إيلافquot; عن كيفية تعلمها لهذه المهنة الخاصة بالرجال (التجبير هو تغطية الطرف المكسور في جسم الإنسان بالجبس)، فتقول خديجة إنها كانت في السنوات الأولى لزواجها تقطن وزوجها في منزل مجاور لمجبّر عربي شهير وكانت تتردد على ذلك المنزل لزيارة جارتها زوجة المجبّر وهذه الأخيرة كانت تتقن مهنة التجبير من زوجها.

وفي يوم من الأيام سافر المجبّر إلى قريته فتولت زوجته المهنة عنه وكانت تنادي الحاجة خديجة لمعاونتها في التجبير، فتعلمت منها وأتقنتها حتى أصبحت أبرع من زوجة المجبر في هذه المهنة، حتى ان الزبائن الذين كانوا يأتون إلى المجبر وزوجته أصبحوا يأتون إليها.

بعدها إنتقلت لتسكن في بيتها الحالي في سبعينات القرن الماضي وفي أول الأحداث للحرب اللبنانية؛ quot;كنت أجبّر مجاناً بعدها أصبحت أتقاضى مبلغا يجعلني أعتاش من ورائه ولم أزل إلى يومنا هذا أزاول هذه المهنةquot; تقول خديجة.

تكمل الحاجة خديجة أن مهنتها اليوم أصبحت شبه منقرضة بسبب التصوير الشعاعي والأدوية والعمليات؛ quot;فأغلب الناس إذا ما تعرضوا لكسر ما يهرعون إلى المستشفى للعلاج وهي أضمن لهمquot;.

وهي تعالج الرضات وحالات الأرجل والأيدي المشعورة التي لا تتطلب مستشفى. كما أنها تعالج هبوط الرفش في الكتف فتنصب للمصاب عصاة حديدية تغرز في جوانب الباب من الأعلى يتعلق بها وبعدها تضع له دواء خاص لتمزق العضلات. أما إذا كانت الرجل أو اليد مشعورة فإنها تضع عليها من الجانبين قطعة كرتونية وتربطها بشاش تضع بداخله قطع ثلج بعدها تلفها برباط خاص.

أما إذا كانت متورمة فإنها تنصح المريض أن يأخذ حبة دواء ضد الإلتهاب، ومعظم من يأتي إلى الحاجة خديجة هذه الأيام من الطبقة الفقيرة التي لا يسمح لهم وضعهم المادي أن يتعالجوا في المستشفيات أو لدى الطبيب المختص.

المطهّر العربي

وفي شبه عيادة صغيرة في برج البراجنة في بيروت يعرّف quot;إيلافquot; المطهر القانوني حسن حجازي المجاز من قبل وزارة الصحة في سنة 1970 عن مهنته على أنها عبارة عن مهنة طبية. فالمطهر يقوم بختان الطفل الذكر حتى يبعد عنه الميكروبات والجراثيم، وهذه المهنة ndash;برأيه- أصبحت شبه منقرضة والذين يمارسونها في يومنا هذا يعدون على الأصابع، بسبب المستشفيات الحديثة التي يفضل الأهل ختان أطفالهم فيها.

ويقول المطهر حجازي إن على من يريد أن يزاول هذه المهنة أن يكون لديه خبرة كبيرة في هذا المجال لأنها مهنة دقيقة وخطيرة على الطفل فأي غلطة قد تعرض الطفل للنزيف والموت.

وينصح كل من يريد ختان ولده أن ينتظر بضعة أيام بعد الولادة quot;أحسن للولد وأكثر إفادةquot;. ويضيف أن كثيرا من الأهل ما زالوا حتى الآن يجلبون أطفالهم إليه بالرغم من وجود المستشفيات، quot;فهم يفضلون المطهر العربي بسبب التقاليد المتوارثة في عائلاتهم ويعتقدونه أحسن من أي طبيب في أفخم مستشفىquot;.

والملفت للنظر في عيادة المطهر حسن أن كل جدرانها مزينة بصور الأطفال الذين أجرى لهم عملية الختان من مختلف المناطق في بيروت وعلى مدار السنوات الماضية إلى يومنا هذا.

المنجّد العربي

جمال من رأس بيروت منجّد عربي قديم وشهير في منطقته يمارس مهنته المتوارثة عن والده منذ سنوات طويلة، يتحدث جمال quot;لإيلافquot; عن مهنة التنجيد من داخل محل صغير في منطقة برج أبو حيدر في بيروت فيقول بحسرة: quot;إن مهنة التنجيد قديمة جداً وأصبحت شبه منقرضة فلا نجد في المنطقة إلا منجد عربي واحد إذا وجد بعد ان غزت المراتب واللحف والوسادات الجاهزة كل البيوت، ولم يعد الجيل الجديد يهتم على ماذا سينام أو ماذا سيضع تحت رأسه، المهم أن يرتاح من عناء تفتيق وغسل وتنشيف الصوف أو القطنquot;.

يضيف جمال أن مهنة التنجيد هي عبارة عن quot;صناعة الفرش الصوفية والقطنية وكذلك اللحف والوساداتquot;. ويتم ذلك بإحضار القطن أو الصوف للمنجد بعد غسله جيداً وتنشيفه فيعمل المنجد على تنظيف القطن والصوف من الأوساخ على آلة كهربائية تفصل الأوساخ عن القطن والصوف (هذه الآلة حديثة الصنع فقد كانت في ما قبل عملية التنظيف تتم على يد المنجد)، وكذلك عملية quot;النفشquot; (تنعيم القطن والصوف عبر الضرب بقضيب غالبا) تتم على آلة حديثة ولكن ليس عند كل المنجدين فمنهم من يستعمل قضيبا من الخيزران خاصا لنفش القطن والصوف حتى يصبح ناعما، بعد ذلك يضع المنجد القطن أو الصوف بحسب الطلب في القماش المفصّل والمحاك مسبقاً، وعند الإنتهاء من تعبئته يبدأ بتخييطه بالإبرة والخيط على الطريقة المعروفة للتنجيد، بعدها يصبح منجَداً جاهزاً للتسليم إن كان مرتبة أم لحاف.

يقول جمال إن النوم على القطن والصوف quot;يفيد الجسم ويريحهquot;. وينصح كل مريض يعاني من مرض الديسك أو التكلس أن ينام على مرتبة من الصوف ووسادة صوفية فإنه سيتحسن quot;لأن المراتب والوسادات الجاهزة لها مضار كثيرة تؤذي الظهر والرقبة وتعرّض الشخص لآلامهماquot;.

أما من يتردد إلى محله فمعظمهم من الأشخاص الذين ما زالوا يهتمون بصحتهم ويتبعون تقاليد اجدادهم، وأكثرهم من ربات البيوت لأن الموظفات ليس لديهن وقت لهذه الأمور quot;فهي شاقة وبدون فائدة بنظرهن مع وجود كل شيء جاهز في الأسواق... فلم التعب!؟quot; يسخر جمال.

إستعرضت إيلاف عددا من المهن التي لم تعد رائجة كالسابق أو اتخذ التحديث إليها سبيله فمسحها من السوق كليا او كاد. مهن ما زالت تجد رواجا لدى المستخدمين وتقل يوما بعد يوم في عدد متقنيها حيث تتخذ في معظم الأحيان طابع الوراثة عمن سبق ولمن سيأتي. توارث يؤدي كل مرة إلى استخدام لأدوات عصرية يمهد لزوالها.