عبد الحفيظ العبدلي من برن: رغم اعتراض الآلاف من السكان المحليين، أعطت حكومة كانتون برن الأسبوع الماضي موافقتها على تشييد مئذنة بالمركز الإسلامي بمنطقة لانغنتال، لتصبح بذلك المئذنة الخامسة التي يرخّص ببنائها في سويسرا.
وتزامنت هذه الخطوة التي أعلن عنها يوم الخميس 2 يوليو 2009 مع تحديد الحكومة الفدرالية لموعد إجراء الاستفتاء العام حول المبادرة التي تقدمت بها أطراف يمينية متشددة، الداعية إلى تضمين دستور البلاد نصا يحظر بناء المآذن على التراب السويسري.

وقد أثارت هذه المبادرة منذ الإعلان عنها السنة الماضية انزعاج العديد من الأطراف، بما في ذلك المنظمات الإسلامية في البلاد، ونأت الحكومة السويسرية بنفسها عن المبادرة، ودعت في مناسبات عدة إلى رفضها.

ويتفق المراقبون، سويسريون، وعرب، ومسلمون من أعراق أخرى على أن هذه المبادرة تهدد التعايش السلمي في البلاد، وتعود بالمجتمع إلى أجواء الحروب الدينية، وأنها لا تمثّل بأي شكل من الأشكال إحدى الأولويات الملحة للأقلية المسلمة في سويسرا.

لكن فهم طبيعة هذه المبادرة ودلالتها يختلف من فئة إلى أخرى، فهناك من يرى أنها زوبعة في فنجان، وهناك من يرى أنها تعبير قاطع على أن quot;روح الحروب الدينيةquot; لا تزال تتحكم في لاشعور فئات واسعة في الغرب.

معركة وهمية
هذا على الأقل هو رأي رجائي أزيري، تاجر ألباني ببرن، وعلي لغروني، رسام تشكيلي مغربي من أصول سويسرية، وفوزية أسعد، أديبة مصرية، تقيم على ضفاف بحيرة ليمان على الحدود الفرنسية.

وترى هذه السيدة التي تجاوز عمرها السبعين وقضت عقودا طويلة مقيمة في سويسرا أن quot;مشكلة المآذن، لا معنى لهاquot;، وأن quot;للجالية العربية والمسلمة مشكلات أخرى، أكثر أهميةquot;. وتقول هذه الأديبة والفيلسوفة المصرية التي قضت سنين طويلة في دراسة الفكر الشرقي القديم: quot;ليس في أصول الإسلام ما يدعو إلى التمسك بفكرة المآذن، والزينة في معمار مراكز العبادة، وعادة المآذن والمقابر الضخمة تقليد جذوره مسيحية غريبة عن الإسلام الذي يدعو إلى البساطة والزهدquot;.

هذا بالنسبة للمطالبين بها، وأما بالنسبة للداعين إلى حظرها، تقول: quot;يعتقدون أنهم يصدرون في رفضهم للمآذن عن ذاتية مسيحية خالصة، وهذا غير صحيح. يجب أن يتذكّر هؤلاء أن المسيحية قد جاءتهم من الشرق، وإذا كانوا يعتقدون أنهم سيحافظون على هويتهم المسيحية بالتضييق على الأديان الأخرى، فهم واهمونquot;.

أما رجائي أزيري، فيرى في تصدّر قضية المآذن لمطالب المسلمين في سويسرا quot;دليلا قاطعا على أن ما يتحكّم في تفكيرهم هو التمسك بالمظاهر، لأن المسلمين اليوم ليسوا بحاجة إلى المآذن، بل إلى التعليم، وكسب ثقة المواطنين المحليين، والاندماج في المجتمع، والمشاركة بفعالية وإخلاص في بناء هذا البلدquot;.

ويضيف السيد أزيري ذي الأصول الألبانية: quot;لقد فتحت سويسرا أبوابها للمسلمين للعمل والاستقرار، وأقل ما يقال أن المطالبة الآن، وفي هذه الأجواء الدولية المشحونة، بتشييد مآذن ليس بالأمر المناسبquot;.

هذا على مستوى التقدير الواقعي، وأما الموقف الديني، فيحاجج هذا الألباني بالرجوع إلى العصر النبوي، ويقول: quot;حينما لم يكن الجو مناسبا لهدم الكعبة، وإعادة بناءها على قواعد إسماعيل، قال الرسول لأصحابه: لو لا أن القوم حديثو عهد بالإسلام، لهدمت الكعبة وأعدت بناءهاquot;. ويعقّب السيد أزيري، على هذا الأثر النبوي قائلا: quot;المشكلة أن المسلمين اليوم لا يفقهون هذه الحِكَمُ النبوية!quot;.

ولا يختلف كثيرا موقف علي لغروني، الرسام التشكيلي المغربي الذي يعتقد أن مسالة المآذن مشكلة مغلوطة من الأصل، قائلا: quot;نحن في بلد غير بلدنا الأصلي، ورغم أن قناعاتنا الدينية تفرض علينا التزامات معينة، فإنه يبدو لي أن فرض المآذن في البلدان الغربية مسألة صعبةquot;.

وفي لغة متسامحة تميل إلى التيسير والتمسك بجوهر المعاني لا بأشكالها، يضيف لغروني: quot;بإمكان المسلمين أن يغضّوا الطرف عن مسألة المآذن، وهذا لن يحول بينهم وبين أدائهم لإلتزاماتهم الدينيةquot;.

وخلاصة هذا الموقف إذن هو أنه لا التمسّك بالمآذن يصدر عن موقف إسلامي أصيل، ولا المسيحية الحق تشكل الذاتية الخالصة للداعين إلى حظرها، مما يضفي على هذه المعركة طابعا سياسيا خالصا.

البعض الآخر من أبناء الأقلية المسلمة يرى أن المبادرة في حدّ ذاتها تشكّل صدمة. ويرى فيها صابر، طبيب عربي يعيش في سويسرا منذ عقديْن تقريبا، في الصدى الإيجابي الذي وجدته لدى طائفة هامة من الشعب السويسري، ومن خلال ما يكتب في الإعلام والمنتديات الإلكترونية: quot;انبعاثا للمارد الصليبي من عقاله، وتعبيرا عن شعور جماعي كامن لا يزال يتحكم في لاشعور فئات واسعة من المجتمع الأوروبيquot;.

وبالنسبة إليه، تستند هذه المبادرة إلى رؤية تعود إلى 1000 سنة خلت، حيث ترتد شريحة من المجتمع الأوروبي على كل التطوّر الذي شهده الغرب على المستويات المعرفية والنفسية والفلسفية خلال القرون الأخيرة.

ولا يبعد الدكتور هشام أبو ميزر، رئيس أهم تجمّع للمنظمات الإسلامية في سويسرا، كثيرا عن هذا الفهم لفحوى المبادرة، فيقول: quot;بعد حوارات مطوّلة ومباشرة مع الداعين لحظر المآذن، تبيّن لنا أن الهدف محاربة توسع الإسلام في سويسرا، وكانوا يكررون باستمرار القول ان الوضع لم يعد يطاقquot;.

ولا يعتقد السيد أبو ميزر بالتالي أن تتوقف المسالة عند حظر المآذن، ويضيف: quot;لقد قالوا بصريح العبارة أن مشكلتنا هي الإسلام، وما المآذن إلا رأس الحربة في الصراع ضد وجود المسلمينquot;.

ويعود بنا طالب عربي يواصل دراسته العليا في كلية القانون بجامعة نوشاتيل، تحدثنا إليه حول هذه المبادرة، إلى أزيد من مائة سنة إلى الوراء، قائلا: quot;إن النقاش الدائر اليوم حول المآذن يتنزّل ضمن سياق من التمييز والتضييق على الأقليات الدينية غير المسيحية، ظهر في سويسرا وتواصل منذ القرن التاسع عشرquot;.

ويضيف هذا الطالب: quot;إن أوّل استفتاء شعبي نظّم في سويسرا يوم 15 سبتمبر 1892، كان حول quot;حظر ذبح الحيوانات دون صعقها مسبقا لإراحتهاquot;. وكانت تستهدف في المقام الأوّل أتباع الديانة اليهودية، الذين تمنع عليهم ديانتهم أكل اللحم غير المذبوح. وشكلت نتيجة الاستفتاء صدمة للمدافعين عن قيم التسامح والتعايش الديني، إذ صوّت لصالح نص المبادرة 60.1% من المستفتين، و10 كانتونات، وكانت نسبة المشاركة حوالي 50%quot;.

ولا يشك أحد اليوم كما يقول هذا الباحث quot;في أن تلك المبادرة كانت ستهدف بالأساس التضييق على الأقلية اليهودية، خاصة وأن تلك المبادرة قد صاحبتها إجراءات تقييدية أخرى كمنعهم من الحصول على حق الإقامة الدائمة، وهو حق اقتصر منحه على الأجانب من أتباع الكنائس المسيحيةquot;.

الإحتكام إلى دولة لقانون
أمام هذا الإختلاف في تقدير الموقف، تبدو إستراتيجيات مواجهة هذه المبادرة اليمينية أيضا متباينة، وكذلك كانت الأجوبة حول رد الفعل الممكن للأقلية المسلمة في سويسرا في حالة أُقرّ حظر المآذن، فالسيد رجائي ازيري يرى في هذه الحالة أنه quot;ليس أمام المسلمين من حل إلا الحوار والإقناع، والتدرّج وكسب ود السكان المحليين إلى حين تبنى جسور الثقة، ويقتنعوا بأننا نحن أيضا أبناء هذا الوطن، نقدّر مصالحه، ونحترم قوانينه، وأننا قوة بناء وليس قوة هدمquot;.

في المقابل، يتمسك الطرف الثاني بالقول ان مطلب بناء المآذن ليس فيه أي وجه من وجوه الإستفزاز، وأنه في نهاية المطاف لا يتجاوز كونه مجرد مطلب يلتزم المعايير العمرانية والقانونية. ويتساءل الدكتور صابر، الطبيب العام في لوزان: quot;لماذا يُسمح لاتباع الديانات الأخرى، مثل البوذية والهندوسية، ببناء وتشييد معابد لا علاقة لها بالعمران المحلي، في حين يصادر هذا الحق عندما يتعلق الأمر بالمسلمينquot;.

ويقول باحث القانون الدستوري بجامعة نوشاتيل الذي فضّل عدم الكشف عن هويته: quot;في كل طور من أطوار هذه المبادرة، على الأقلية المسلمة أن تتمسك بمنطق وآليات دولة القانون، وأن تترك الجدل في هذه المسألة للمثقفين والأدباء وأصحاب الرأي من أمثال طارق رمضانquot;.

هذا المنطق القانوني في التعامل مع القضايا لا يفرّق من حيث المبدأ بين الحق في السكن والتعليم والخدمات الصحية، والحق في التمتع بحرية العبادة وحق المعاملة بالمثل أمام القانون.

بين هذيْن الرؤيتين في تقدير الوضع، تتراوح توجهات الأقلية المسلمة في سويسرا، لكن مما لاشك فيه أن الأشهر القليلة القادمة، وحتى موعد إجراء الإستفتاء في 29 نوفمبر من هذه السنة، سيحتدم النقاش حول موقع الإسلام والمسلمين في المعادلة السويسرية. أما بعد الإستفتاء، فاتجاهات الوضع مرهونة بقرار الشعب السويسري، خاصة أننا نعيش في عالم هو أقرب ما يكون إلى قرية صغيرة، وتخشى الدوائر السويسرية الرسمية من المفاجآت غير المحسوبة.