فاطمة هاشم من صنعاء: مأساتها وما يكرّس من معاناتها بعد وفاة جميع أفراد عائلتها، وفي مقدمتهم شقيقتها وزوجها، هو عيشها وحيدة مع ابني شقيقتها المعوقين، وتحمّلها مسؤولية إعالتهما رغم معاناتها الشديدة من مرض روماتيزم المفاصل وآلام التقدّم في السن.
الحاجة تقية، 60 عاما، والتي صادفتها quot;السياسيةquot; في إحدى وسائل النقل العامة أثناء رحلة بحثها المريرة للتحقق من نبأ توزيع بعض المعونات والمساعدات الغذائية الخيرية التي سبق وأن سمعت عن توزيعها، تقول: quot;ماتت شقيقتي وزوجها في حرب 94 بسبب الصاروخ الذي وقع في حي الحصبة، وتركوا لي ولدين معوّقين اضطررت لإعالتهما والاهتمام بهما، حيث لا يوجد لهما أقرباء غيري، وبسبب تقدمي في السن، وحالتي الصحيّة المتدهورة بالكاد استطيع توفير لقمة العيش لي ولهما، بما تجوده أيادي الخير، إضافة إلى بحثي المستمر عن بعض المال لسداد إيجار الغرفتين التي أسكن فيها معهماquot;.

هناك الكثير من النماذج والقصص، التي تشير إلى حالات بعض المسنين في بلادنا ممن تقطّعت بهم السُبل ولا يوجد لديهم أهل ولا أصدقاء. ووفق واقع الحال، فإن أبرز ما يواجهونه من تحديات إلى جانب غياب دور الجهات المعنية في احتواء أمثالهم من ناحية أخرى، عدم قبول بعض المسنين بفكرة أن يكونوا نزلاء دُور المسنين القليلة، وتواضع ما يقدّم لهم من أهل الخير، فضلا عن تواضع الخدمات والرعاية الصحيّة في بلادنا بشكل عام.
ومع أن البناء الأسري المترابط، والاحتفاظ بالكثير من القيم والمفاهيم الأسرية التي تعزز من مفهوم التكافل الاجتماعي في مجتمع يقوم في تركيبته على ثقافة القبيلة التقليدي، وبناء علاقات أسرية وعائلية قوية من أبرز أشكال الدعم والحماية لكبار السن من الضعف والحاجة. ورغم عدم تأثرها باجتياح الكثير من القيم الاجتماعية للحياة المعاصرة عليها بما يقلل من معاناة المسنين في مجتمعنا، إلا أن ما يثير المخاوف لدى المهتمين في هذا الخصوص، هو بقاء أعداد من المسنين المقطوعين أسريا، في ظل قلة دُور رعاية المسنين ومحدودية ما تقدِّمه من برامج الرعاية والعناية الكاملة، وحيدين يصارعون الحياة وشظف العيش بعد وهن عظمهم وقلة حيلتهم.

واقع المسنين
يخلق التكافل الاجتماعي في مجتمعنا بيئة راعية للمسنين خاصة في بقاء الأسرة الممتدة بامتداد دور quot;الجدquot; فيها؛ كونه كبير العائلة، والمرجع المعرفي لأفرادها، خاصة فيما يتعلق بعادات وتقاليد الأسرة، وإهماله والتخلي عنه عار يلتصق بأبنائه ولعنة تحل عليهم مدى حياتهم، وكذا انتقاد المجتمع لهم، وكما يقول المثل الشعبي quot;يا ولدي لك ولدكquot;.
ويصنف المسنون في بلادنا حسب التقسيم الديموغرافي للتعداد السكاني، حيث يحدد المسن بأنه: شخص يتمتع بنعمة الحياة في الفئة العُمرية من 65 وما فوق.
وتحتضن بلادنا أربعة دُور للمسنين في أربع محافظات: (أمانة العاصمة، عدن، تعز، الحديدة)، وتؤكد الجهات المعنية عزمها إنشاء دُور في حضرموت؛ نظرا للكثافة السكانية، باعتبارها ستحظى بعدد من المسنين في السنوات المقبلة. فيما لا يتجاوز عدد المسنين في دُور الرعاية الخاصة بالمسنين -حسب المسؤولين- 200 مسن من الجنسين، جار عليهم الزمن وجفاهم الأهل وتخلى عنهم الأبناء.

نماذج
الحاجة سعدية، 100 عام، لم تنجب طيلة حياتها المئوية، وتوفي زوجها قبل خمس عشرة سنة، ولم يعد لديها صديق ولا قريب، تعيش اليوم حياة معيشية وصحيّة صعبة جدا، ورغم رعاية جيرانها لها إلا أن ما يقدّم لها في مثل هذا السن لا يرقى إلى مستوى ما تحتاجه من عناية ورعاية.
تقول إحدى جاراتها: quot;نعاملها كواحدة من العائلة، أعاملها مثل أمي وكذالك بقية أفراد أسرتي، نقدّم لها الرعاية حسب استطاعتنا، وبعض أهل الخير اعتمدوا لها راتبا ويقدمون لها بعض الرعاية لكن أظن هذه الرعاية غير كافية ولا بُد من إدخالها دور المسنين، وهذا يحتاج إلى معاملة طويلة، وقد حاول ذلك أخي وعدد من أفراد الحي دون جدوى نظرا للوساطة والمحسوبيةquot;.
بعد العثور عليه ميتا في إحدى الغرف (دكان عزابي) في أحد أحياء أمانه العاصمة، أفاد أهالي الحي أن المرحوم علي المطري، 86 عاما، لم يتزوج طيلة حياته، وكان مقطوعا من شجرة، وساهم عدم تعليمه في زيادة معاناته، وعاش حياة صعبة ومريرة جدا، حيث ظل يعتاش معتمدا على هبات ودعم الأصدقاء وأهل الخير.

وكذلك هو حال المسنة quot;دهماquot; التي تعيش في إحدى قرى محافظة صنعاء، والتي تعاني من أمراض الشيخوخة، وتعيش ظروفا معيشية وصحيّة صعبة بالاعتماد على معونات أهل الخير من أبناء القرية.
وحسب أحاديث أهالي القرية ممن يعرفونها جيدا، فإن دهما هي في الأساس من أصل يهودي، جاء والداها للعيش في القرية، ورُزقا بها وشقيقيها مهدية وعلي، الذين تُوفوا جميعا قبل ما يقارب العشرين عاما، وتركوها وحيدة تعاني مرارة العيش بدون أهل وأقرباء، مع أن إحدى العائلات في القرية بنت لها غرفة مستقلة في حوش منزلها، وتأكل وتشرب معهم، وكأنها أحد أفراد العائلة، وأهالي القرية، وحسب الأعراف القبلية، فرضوا كسوة لها على كل من زوّج ابنه.

تحديات
من أكبر التحديات التي تواجه المسنين في بلادنا عدم توفر السياسات والآليات والبرامج الخاصة بالاهتمام بهم صحيا ومعيشيا، فضلا عن تأثيرات التغيّر في القيم الاجتماعية وخاصة الناتجة عن صعوبة الظروف الاقتصادية العامة بالنسبة للكثيرين، وقلة حيلتهم، في تفاقم معاناة المسنين في ظل عدم وجود أي علاقات من أي نوع تربطهم بغيرهم، فلا أسرة ولا أبناء.
وأشار التقرير الرسمي عن أوضاع المسنين في بلادنا إلى أن هذه الفئة تمثل 3.43 بالمائة من إجمالي عدد السكان البالغ 22 مليون نسمة، وقالت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إن إجمالي عدد المسنين الحاصلين على المساعدات المالية بلغ 170.725 أسرة، رصدت لهم ميزانية تُقدّر بـ824 مليون ريال فصلياً، وهو ما يمثل نسبة 18 بالمائة من إجمالي الحالات المعتمدة لدى صندوق الرعاية الاجتماعية.
كما أشار التقرير الوطني الأول حول أوضاع المسنين في بلادنا إلى أن الصندوق يقوم quot;بإيصال هذه المساعدات إلى أماكن سكن المسنين في القرى والعزل أو توكيل من يريدون لاستلام مستحقاتهم في حالة عدم قدرتهم على استلامها, وإعفائهم وأسرهم من الرسوم الصحية والتعليمية بموجب بطاقة الصندوق التي يحملونهاquot;.

وبيّن التقرير -الذي حصلت quot;السياسيةquot; على نسخة منه- أن بلادنا تطبّق أحكام تأمين الشيخوخة والوفاة وإصابة العمل على أصحاب الأعمال الذين يستخدمون خمسة عُمّال فأكثر، وأن يكون تطبيقه على باقي أصحاب الأعمال، والذين يستخدمون أقّل من خمسة عُمّال، موضحاً أن معاش الشيخوخة حق في حالة quot;بلوغ المؤمَّن عليه سن 60 عاما، وبلوغ المؤمَّن عليها سن 55 عاما، على ألاّ تقل مدة الاشتراك في التأمين عن 180 اشتراكا شهريا، أي خمس عشرة سنة، أو في حالة بلوغ المؤمَّن عليه سن 45 عاما، ويشترط ألاّ تقل مدة اشتراكه في التأمين عن 24 اشتراكاً، أو حدوث العجز غير المهني المستديم أو الوفاة.

التقرير الذي صدر بعد خمس سنوات من تنفيذ خطة العمل العالمية للشيخوخة، أكد أن المرأة المسنة تعاني quot;وضعاً صعباً ونظرة نمطية مركبة؛ كونها مسنة وامرأة، وتزداد هذه الصعوبات شدة في مرحلة الشيخوخة خاصة أن فرص التعليم للمسنة كانت في الماضي أقل وشبه منعدمة، وكذا قلة انعدام الخدمات الأخرى. منوهاً إلى وجود quot;تفاوت نوعي في تقاسم الأدوار والمهام بين الجنسين في مختلف المراحل ويتضاعف مع انتهاء أدوارها الإنتاجية والإنجابية، وما ينجم عنه من مظاهر إهمال وتمييز بحكم النظرة النمطية في عدم قدرة المسنة على العمل والاكتفاء ببقائها في المنزل، أو تكليفها بأعمال داخل المنزل شاقة ومهينة لعمرها وللكرامة الإنسانيةquot;، حسب التقرير.
وقال التقرير إن تحسين وضع المسنين يحتاج لدراسات ومسوحات لوضع المعالجات الصحيحة، حيث quot;لا يوجد دراسة وطنية قامت بمعرفة واقع المسنين وتحديد احتياجاتهم والتعرّف على مشاكلهم وما يعانون من أمراض وعوز، وبالأخص أولئك الذين لا يوجد لهم أهل أو أقارب مهتمون بهم quot;وإن وجدوا فهم في حالة فقرquot;.

وتابع: quot;الضرورة تقتضي الوقوف بجد من قبل الجهات المعنية بالمسنين في الدولة ومنظمات المجتمع المدني العاملة في الجوانب الإنسانية، وكذا المنظمات الدولية، لا بُد أن تتكاتف الجهود لإيجاد حلول مناسبة لهذه الفئة المتنامية سواء بالتعرّف على قضاياهم وحالتهم واحتياجاتهم أو بتبنّي القوانين التي تكفل لهم الحقوق أو توفير الخدماتquot;.
ودعا التقرير إلى توفير قاعدة بيانات دقيقة من أجل إستراتيجية وطنية للمسنين، واستحداث إطار مؤسسي لرعايتهم، وإدماج احتياجاتهم صحياً واجتماعياً في خطط الدولة، وإيجاد تعريف واضح ودقيق للمسن وفقا للاحتياجات التنموية والاقتصادية والاجتماعية, وقيام جمعيات نوعية خاصة تُعنى بالمسنين، وإصدار قانون لهم وإضافة وتعديل في القوانين ذات العلاقة وتفعيل المواد التي لم تنفذ. وبحسب التقرير، فإن المسن هو كل من تجاوز الـ64 عاماً، وهم وفقاً للتقرير يحتاجون إلى quot;إيجاد أماكن وبرامج ترفيهية -خاصة المقيمين مع أسرهم- لقضاء أوقات فراغهم، وإقامة نوادٍ للمسنين.