كامل الشيرازي من الجزائر: تمثل مدينة بونة القديمة وهي ذاكرة محافظة عنابة حاليا (800 كلم شرق الجزائر)، نافذة مفتوحة على الماضي الحضاري للجزائر، وتعكس المواقع الأثرية بهذه المنطقة محطات فارقة تضرب بجذورها في عمق التاريخ وتكشف عن بصمات الحضارات النوميدية والرومانية والعربية الإسلامية والعثمانية التي تعاقبت على البلاد، وتركت معالم أثرية تصنع الهوية التراثية للسكان المحليين.
بونة القديمة وكنيتها quot;هيبون الجميلةquot; (نسبة إلى الامبرطور الروماني هيبو ريجيوس)، قريبة من مصب وادي سيبوس، تأسست بحسب جمهور المؤرخين 1200 سنة قبل الميلاد على يد الفينقيين، واتصل أهلها بالقرطاجيين الذين استبسلوا في الدفاع عن بونة خصوصا عندما احتلها الملك النوميدي (غايا)، بيد أنّ المدينة تحوّلت في وقت لاحق إلى مقرّ رئيسي لحكام الدولة النوميدية، وصارت أيضا في وقت وجيز منطقة رومانية شهيرة بثراء أهاليها، وكان ميناءها quot;الأفروديسيومquot; شاهدا على حركية تجارية مستمرة، بيد أنّ بونة سرعان ما سقطت بيد الوندال الذين حاصروها لأشهر طويلة، ليخلفهم البيزنطيون سنة 533 م، قبل أن يفتحها العرب المسلمون عام 697م ويسمونها quot;عنابةquot; لكثرة أشجار العنب بها، وظلت quot;هيبونquot; مثلما يحلوا للكثيرين تسميتها، مستقرة حالمة إلى أن اقتحمها الغزاة الفرنسيون سنة 1830 وبقوا فيها إلى غاية استقلال الجزائر في يوليو/تموز 1962.
ويقول الرواة إنّ بونة كانت عاصمة الفكر المسيحي وكبار رموزه، على غرار القديس أوغسطين (354-430 م) الفيلسوف ورجل الدين الذي بنى الفكر اللاهوتي الكاثوليكي، تماما مثل أعلام آخرين أمثال:quot;ثيوجينسquot;، quot;فيدينتيوسquot;، quot;ليونتيوس فاليريوسquot;، وتزخر بونة المشابهة لمدينة صور اللبنانية، بمعالم أثرية عالمية أبرزها كنيسة القديس أوغسطين.
ويشير الباحث quot;إدريس بوذيبةquot; إلى أنّ بونة تتشكل من بقايا مباني تروي أساطير الأزمنة الغابرة منها سوق المدينة وحمامات وصهاريج وميدان، إضافة إلى حي مسيحي، بينما يتجسد العمق التاريخي للحضارة العربية الإسلامية بعنابة من خلال معلم مسجد أبي مروان الشريف الذي يعود بناؤه إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وأشرف عليه رجل العلم والتقوى quot;أبو الليث البونيquot; سنة 1033م، وتم تحويل المسجد الذي يضم ضريح الرجل الذي بناه خلال الحقبة الاستعمارية إلى مستشفى عسكري من قبل إدارة الاحتلال الفرنسي، ويعتبر هذا المسجد أحد أقدم المعالم الإسلامية الموجودة بالجزائر، إلى جانب مسجد سيدى بومدين وزاوية سيدي عقبة بمدينة بسكرة، وضريح ابن زكريا يحيى بعاصمة الحماديين quot;بجايةquot;.
وتعد زاوية سيدي إبراهيم بن تومي إلى جانب جامع الباي بصمة أخرى من بصمات الزخم الحضاري لمنطقة بونة، وتعدّ هذه الزاوية أهم المواقع الدينية بالمدينة وأشهر أقطاب الطرق الصوفية بالمنطقة، ومأوى للمسافرين، كما تعدّ عنصرا يسهم في ترقية السياحة الدينية التي تستقطب قوافل من التلاميذ والطلبة والباحثين والزوار الذين تغريهم أيضا ما تكتنزه بونة من عديد المواقع والمعالم التاريخية كالمدينة العتيقة quot;القصبة quot; التي تكتنز العديد من المباني القديمة التي تعود إلى العهد العثماني، إضافة إلى quot;حصن المعذبينquot; الذي بُني ما قبل الفترة العثمانية والقلعة الحفصية التي تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي لتكون مركزا دفاعيا حصينا للمدينة، علما أنّ هذا الموقع تعرّض إلى تدمير كبير إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، شأنه شأن العديد من المرافق التاريخية.
وتضم بونة الجميلة التي استفادت قبل ثلاث سنوات من عمليات ترميم وإعادة تأهيل، متحفا يحفظ قطعا أثرية رومانية تتمثل في أواني منزلية فخارية وقطع نقدية وفضيات ونحاسيات وصفائح الفسيفساء الأرضية والجدارية والزخارف الفنية وغيرها من نفائس الأمس.
- آخر تحديث :
التعليقات