أعادت أحداث الشغب التي جدّت في إستاد القاهرة خلال مباراة فريق الترجي الرياضي التونسيّ مع مضيفه الأهلي المصري في دوري أبطال إفريقيا لكرة القدم الجدل حول عنف الجماهير وأسبابه وطرق التصدّي له، وفيما يلي يحاول الباحث الاجتماعيّ التونسي جابر القفصي في مقابلة مع quot;إيلافquot; تشخيص ظاهرة شغب الملاعب.

إسماعيل دبارة من تونس: رغم تسجيل ارتياح نسبيّ ساد الساحتين الرياضيّتين المصرية والتونسية عقب إصدار النائب العام المصري قرارا بإخلاء سبيل المشجعين التونسيين الـ14 الذين اعتقلوا نهاية الأسبوع الماضي بتهمة القيام بأعمال شغب خلال مباراة فريقهم الترجي الرياضي مع مضيفه الأهلي المصري في دوري أبطال إفريقيا لكرة القدم، فإنّ الحادثة التي quot;ألهبتquot; المشجعين في البلدين أعادت وبقوة إحياء الجدل حول أسباب شغب الجمهور والعنف الرياضيّ الذي يمارسه بعض المتعصبين للأندية في الملاعب العربيّة.

ولم تفلح العبارات quot;الرسميّةquot; التي نقلتها وكالة تونس إفريقيا للأنباء عن الخطوة quot;التي تحققت بسبب العلاقات الودية بين مصر وتونس على جميع المستويات وكافة الأصعدة، ولتجنب أن تنال تلك الأحداث الفردية من صفو العلاقات بين البلدينquot;، في إقناع المهتمين بالظاهرة أو الحدّ من تخوفاتهم.

وقالت وكالة الأنباء التونسية، إن الإفراج عن المحتجزين من الجماهير التونسية جاء بعد اتصال تم السبت بين الرئيس المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، على هامش القمة العربية الاستثنائية حيث تم الاتفاق خلاله على إخلاء سبيل جماهير نادي الترجي.

وأكد مبارك وبن علي على quot;ضرورة أن تكون الرياضة عاملاً إضافياً لتعزيز العلاقات الأخوية بين البلدين والشعبين الشقيقينquot;.

وللجماهير التونسية رصيد حافل بالشغب والعنف في الملاعب سواء داخل تونس أو خارجها، ففي تموز (يوليو) من العام 2008 شهد ملعب quot;رادسquot; في تونس العاصمة أعمال شغب مماثلة اندلعت في أعقاب مباراة الدور النهائي لكأس تونس لكرة القدم وجمعت فريقي النجم الرياضي الساحلي والترجي الرياضي، وأدّى العنف حينها إلى جرحى وخسائر مادية جسيمة، وفي 2009 اشتبك متعصبون للنجم الرياضي الساحلي مع مناصري أحد الفرق الليبيّة في مدينة quot;سوسةquot; الساحلية مما أدى إلى عدد كبير من الجرحى.

أما في العام 2006 فقد سقط عشرات الجرحى في مواجهات وتراشق بالحجارة بين مشجعي فريقي النجم والترجي، عندما حصل احتكاك بين مشجّعي الفريقين على الطريق السريع الفاصل بين تونس العاصمة ومحافظة سوسة.

وفي العام 1999 قتل 18 مشجعاً في مباراة جمعت كلاًّ من الترجي الرياضي والأولمبي الباجي.

وتذهب تحليلات المراقبين عادة إلى اتهام وسائل الإعلام بالتحريض والتجييش ضدّ الفرق والجماهير، في حين يذهب متابعون آخرون إلى تفسير ما يحدث في ملاعب تونس بـ quot;الانغلاق السّياسي والإعلامي وغياب أطر الحوار والتنفيس وإبداء الرأي لدى الشبابquot;.

يقول الباحث الاجتماعيّ المتخصّص في قضايا الشباب جابر القفصي لـquot;إيلافquot; إنّ من أسباب انتشار ظاهرة العنف في الملاعب هو انقلاب القيم حيث أصبحت التضحية من اجل الفريق وفدائه بالروح والدم والمال والوقت بديلا على التضحية من اجل الوطن والمدينة والعشيرة والشرفquot;.

ويرى القفصي أنّ quot;الهويةquot; أصبحت محلية وشخصية يختارها الفرد كما يشاء ولا دخل للآخرين فيها وهذا نتيجة لتنامي الفردانية و طغيان الميولات الخاصة والاهتمامات الفردية والانتماءات المصطنعة والهشة على حساب الانتماءات التقليدية المعروفة.

الباحث الاجتماعي جابر القفصي:

quot;ظاهرة العنف في الملاعب تتعولم وهنالك استنساخ لسلوك وتصرفات quot;الهولينزquot; في الملاعب العربيّةquot;.

ويتابع: quot;لو سألت احد المتحمسين للترجي مثلا عن مدى استعداده للقيام بمثل هذه التضحيات من اجل الوطن أو من اجل الحصول على عمل أو المطالبة بحقوقه لضحك من قولك وقال لك quot;ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكةquot;.

ويعتقد القفصي أنّ ظاهرة العنف في الملاعب مرتبطة بما يسميه مؤّسس علم نفسية الجماهير غوستاف لوبون بعلم نفس المجموعات آو الطوائف حيث يفقد الفرد حريته واستقلاليته ويخضع لنوع من العدوى المتصاعدة للرؤى والتصرفات وتضعف درجة سيطرته ومراقبته لنفسه ولمواقفه ويصبح أكثر عاطفية واقل عقلانية وتتحرك فيه الغرائز والمشاعر التي تدعوا للغضب والانتقام والبطولة وهي كلها سلوكات غذاها التلفزيون حيث أن هؤلاء يتلذذون الحديث عنهم عبر التلفزيون لاسيما في مجتمعاتنا الحديثة.

وهو الأمر الذي أدى إلى عولمة ظاهرة العنف في الملاعب واستنساخ سلوك وتصرفات الهولينز في الملاعب عند جمهور الفرق الكبرى والعريقة التي مطلوب منها عند جمهورها أن تصنع الحدث وتلفت الانتباه إليها حتى ولو كانت النتائج سلبيةquot;.

ويرفض الباحث الاجتماعيّ جابر القفصي المعالجة الأمنية التي عادة ما تكون حاضرة في مثل هذه المواقف العنيفة ويقول:quot;المعالجة الأمنية تدل على عقلية أمنية عقابية لا تتصدى لأسباب المشكل بل تقفز على النتائج وهي نتيجة منطقية للهرسلة اليومية الإعلامية عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بواسطة البرامج الرياضية حتى أصبحت مخدرا وماردا خطيرا لا يمكن السيطرة عليه حين ينطلق من عقاله.

لقد انقلب السحر على الساحر وصارت الكرة التي أريد بها أن تخدر الناس وتصرفهم عن الانشغال بالشأن العام والاهتمام بالسياسة والحكم، مصدر قلق وشغب وإزعاج للدولة. هذا فضلا على أن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم بل هي صيرورة أكثر من عشرية من التساهل والتغافل وغض البصر عنها وعن تمظهراتها، والآن تريد بعض الحكومات أن نعالج تراكم سلوكيات خاطئة منذ أكثر من عشر سنوات في يوم وليلة وببضعة إجراءات أمنية ومحاكمات ومعاقبات للأندية.

العام الماضي، قدّم وزير الشباب والرياضة التونسيّ معطيات وأرقام حول العنف في الملاعب وتعهد بإصدار تقرير عن سبل معالجة هذه الظاهرة المؤرقة، لكن التقرير لم ير النور بعدُ.

وبحسب البيانات الرسميّة، تشهد الملاعب التونسية إجراء 26550 مقابلة رياضية سنويا، وانه خلال الموسم الرياضي2007 / 2008 تم تسجيل 797 تجاوزا غير رياضي وبلغت حالات العنف المتبادل بين اللاعبين 327 حالة وتم الاعتداء على الحكام من قبل اللاعبين بالعنف الجسدي في 68 حالة وبالعنف اللفظي في 221 مرة وسجلت حالات اعتداء على المسيرين بالعنف المادي على الحكم في 17 مناسبة وفي 61 مرة بالعنف اللفظي.

ويُحمّل عدد من المتابعين المسؤولية الكبرى فيما يحصل للإعلام الرياضي الذي تغلب عليه التغطية المثيرة وغير المنضبطة قبل المباريات من خلال التحيز لبعض الفرق دون غيرها.

ويرفض كثيرون اعتبار ظاهرة شغب الملاعب quot;ظواهر مرضيةquot; أو quot;ميولات شخصيةquot; أو اعتبارها quot;نتيجة لتصرفات معزولة لأشخاص غير أسوياءquot;، بل يُرجّحون أنها تصرفات محكمة التنظيم تخضع إلى مجموعة من القواعد والاتفاقات والتقاليد فهي عبارة عن ثقافة فرعية ما فتئت تتطور يوما بعد آخر، نتيجة لرتابة العالم اليومي للمدرسة أو العمل أو حتى حالات البطالة. فالفرد الذي لا يحس برضا تام عن سير حياته اليومية أو الذي عجز على أن يحتل مركزا اجتماعيا معينا أو عجز عن فرض شخصيته في الواقع المعيشي يمكن أن يلتجئ إلى هذه الثقافة قصد التعويض وتصعيد كل ذلك التوتر وعدم الرضا الذي يشعر به.

بالنسبة للحلّ المرجوّ لظاهرة عنف الملاعب، يرى الباحث جابر القفصي أنه يتمثّل في quot;فتح هذا الملف أمام الرأي العام وإعداد موائد مستديرة لتدارس الموضوع من كل جوانبه وإشراك الجميع بمن فيهم الأحباء والمتعصبون الرياضيون وأهل الاختصاص من علماء نفس واجتماع وانثروبولوجيا وجريمة، إضافة إلى تكوين رأي عام جديد عبر المسلسلات والأغاني والبرامج والنصوص التربوية والمسابقات وغيرها لتغيير النظرة للرياضة وللمنافسة والتسابقquot;.

وبحسب القفصي دائما ، فإنّ النظرة الحالية للرياضة وللمباريات الرياضية تركز على النتيجة وتقدس الأرقام القياسية والإمكانيات الخارقة للعادة، ومن هنا صارت الغاية تبرر الوسيلة وتحقيق النتائج على حساب أخلاقيات وقوانين اللعبة وهذه العقلية التي تطلب من اللاعب أن يتجاوز طاقاته من اجل النتيجة قد قضت على كل معنى سامي ورفيع للرياضة وجعلت منها مجرد ماكينة لربح المال وتحقيق الشهرة وتحريك الجماهير العريضة وخلق الأحداث التاريخية حيث أن ترشّح فريق عربي لكأس العالم بات أهم ألف مرة من حرب تموز أو قصف غزة لمدة 40 يوما أو تهويد القدسquot;.