كانت أمستردام المدينة الوحيدة التي ترشحت لاستضافة الدورة الاولمبية التاسعة عام 1928، فنالت حق التنظيم والاستضافة، وأضافت جديدا إلى "طقوس" الألعاب تمثلت بايقاد الشعلة للمرة الأولى.

أقيمت الدورة التاسعة من 17 ايار/مايو إلى 12 أب/اغسطس على رغم ممانعة ملكة هولندا فيلهلمين التي اعتبرت الدورات الاولمبية تظاهرة وثنية، لكن استفتاء شعبيا قضى بعكس ذلك...

افتتحت الألعاب في غيابها بمشاركة 2883 رياضيا من 46 بلدا بينهم 277 امرأة، تنافسوا في 111 مسابقة. وشهد البرنامج مباريات في الملاكمة والمصارعة والدراجات وكرة الماء والجمباز والتجذيف والفروسية وألعاب القوى (بينها 5 مسابقات للسيدات) واليخوت والسباحة والغطس ورفع الأثقال والمبارزة والهوكي على العشب وكرة القدم.

ودخلت دول جديدة على خط المشاركة هي بنما وروسيا الشمالية ومالطا، وعادت ألمانيا إلى "العائلة" بعد تغييب استمر 16 عاما، لكن الترحيب الهولندي بحضور بعثتها والود الذي ظهر تجاهها قابله رفض فرنسي لدخول طابور العرض احتجاجا على ذلك، وأيد الاميركيون الموقف الفرنسي، وكان يرأس بعثتهم الجنرال الشهير ماك آرثر احد أبطال الحرب العالمية الثانية لاحقا.

وفي الترتيب النهائي للميداليات، بقيت السيطرة للولايات المتحدة فتصدرت برصيد 22 ذهبية و18 فضية و16 برونزية، في مقابل 10 ذهبيات لألمانيا و 7 فضيات و 14 برونزية، وحلت فنلندا ثالثة (8-8-9).

- مصر على السجل الذهبي -

وباتت مصر أول دولة عربية تدون اسمها على السجل الذهبي حيث توج إبراهيم مصطفى بالذهب في وزن خفيف الثقيل في المصارعة اليونانية-الرومانية، وأضحى أول فائز في الدورات الاولمبية من خارج "النادي الأوروبي"، ونال مواطنه سيد نصير ذهبية رفع الأثقال لوزن خفيف الثقيل ايضا، وحصد فريد سميكة الذي تدرب في الولايات المتحدة فضية الغطس من المنصة الثابتة وبرونزية المنصة المتحركة.

ورفع العداء الفنلندي بافو نورمي عدد ذهبياته إلى 9 في 3 دورات، وفرض جوني فويسمولر"طرزان" نفسه من جديد في السباحة.

وفاجأت الكندية بيريس وليامس الجميع بفوزها في سباقي الجري 100 م و200 م فضلا عن فوز فريق البدل 4 مرات 100 م بذهبية السباحة ومواطناتهن في البدل 4 مرات 400 م جريا... وحصل الفرنسي الجزائري الأصل محمد بوقره العوافي على ذهبية الماراثون... وحفظّت السجلات اسم الإيطالية ليويجينا جيافوتي التي أحرزت فضية في الجمباز وأصبحت اصغر متوجة اولمبية وهي في سن 11 عاما و 302 يومين.

ولان الدورات الاولمبية عادة ما تكون مصحوبة بالمفارقات راجت الأخبار ودارت حول بعض الوقائع والظواهر ولا سيما في ما يتعلق بمشاركة السيدات خصوصا في ألعاب القوى، وذلك طبعا عكس رغبة "المؤسس" البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان الذي أصبح هرما فآثر الراحة بعيدا من الجو المشحون، غير إن عبارته الشهيرة "إن مشاركة النساء غير عملية وغير هامة وغير صحية وتخلو من الناحية الجمالية" ظلت تتردد طويلا في أروقة الملعب التحفة الذي صممه يان ويلز واعتبر لاحقا معلما تاريخيا على رغم الحملات لهدمه... ومنح لاحقا الميدالية الذهبية للتصميم تقديرا لهذا "الابتكار".

ظل كوبرتان يطالب ان يقتصر دور الجنس اللطيف على الجانب البروتوكولي المتعلق بتوزيع الجوائز ومراسم التكريم... "لان بنيتها لا تقوى على تحمل مشاق التدريب المضني والجهد الكبير في المسابقات". وأثارت إقامة سباق 800 م للسيدات أسئلة كثيرة نظرا لاعتباره "كارثيا" على بعض المشاركات علما إن المتوجة الأولى فيه كانت الألمانية لينا روكيه باتشمان، وهي أضحت ثاني ألمانية تحرز ميدالية لبلادها في ألعاب القوى... فقد حذف السباق لاحقا من البرنامج ولم يعد أدراجه إلا في دورة عام 1960 في روما.

وترافقت تحفظات دو كوبرتان المستمرة على المشاركة النسائية مع وصية الوداع التي ناشد فيها الجميع المحافظة على المثل الاولمبية وفي مقدمها الهواية... هذه "المثالية" التي بدأت تتحول إلى كابوس بالنسبة لكثيرين، ويقع البعض ضحايا خرقها.

وتمثلت حالات الرفض الشديدة لأفكار دو كوبرتان الخاصة بمشاركة المرأة بحركة رائدة في فرنسا عام 1920 بطلتها تيريز بروليه، يومها كانت رياضة "الجنس اللطيف" كناية عن رقص إيقاعي أو جمباز إيقاعي في مدرسة أيرين بوبار...

ومن الأسماء التي رسخت في تاريخ "الاولمبياد التاسع" بطل المبارزة الفرنسي لوسيان غودين، فعلى رغم نيل الايطاليين حصة الأسد في مسابقات اللعبة، إلا إن غودين ابن الـ42 عاما حصد ذهبتي الحسام والشيش، انتصار انتظره 25 عاما، منذ إن حقق لقبه العالمي الأول عام 1903.

وفي الماراثون، فاجأ العوافي العامل في مصانع رينو الجميع، وسجل زمنا ممتازا مقداره 57ر32ر2 س، خاطفا اللقب من صاحب الأفضلية الأول الفنلندي مارثي مارتيلين والفرنسي غيوم تل الذي اكتفى بالمركز الـ29، وحشد من أقوياء فنلندا واليابان وأميركا الجنوبية، الذي نفذ منهم التشيلي ميغل بلازا، ولم يتفوق العوافي عليه إلا بفارق قليل، بفضل الخطوات السريعة والطويلة. والمفارقة إن الفوز الفرنسي تجدد بعد 28 عاما من احراز ميشال ثياتو لقب السباق في دورة باريس عام 1900... وتكرر بعد انتظار 28 عاما آخر، بفضل أنجاز ألن ميمون - الجزائري الأصل أيضا في دورة ملبورن عام 1956.

وأصبح أمير السويد اولاف الخامس أول بطل من عائلة مالكة عندما أحرز ميدالية في سباق اليخوت... ودشنت الهند أول ألقابها الستة المتتالية في الهوكي على العشب بفوزها إمام 50 ألف متفرج... ومهدت أوروغواي للقبها المونديالي الأول في كرة القدم عام 1930 على أرضها، بالذهبية الاولمبية في أمستردام.

واستعراض وقائع دورة أمستردام 1928، لا يكتمل من دون التطرق إلى ظاهرة الفنلندي - نورمي مجددا، والنموذج الفرنسي حول لادوميغ... ونهايتها الدراماتيكية، فضلا عن إيلاء التغذية المدروسة الاهتمام للمرة الأولى، وقد حملت باخرة الرئاسة الاميركية ل250 رياضية ورياضيا من الولايات المتحدة وجبات عدة وكمية كبيرة من المثلجات و 580 شريحة لحم تحتوي على الفيتامينات الكاملة!!

صحيح إن نورمي قطف ذهبية الاولمبية التاسعة لهذه الدورة من خلال فوزه في سباق 10 ألف متر وتسجيله رقما قياسيا جديدا إما مواطنه فيلهو ريتولا الذي ثأر منه في سباق 5 ألاف متر لكنه ظّل ذلك" التمثال الجامد" الذي يتجنب الآخرين والإدلاء بتصريحات أو حتى الابتسام حين تلتقط له الصور. وتذكر التقارير انه شوهد للمرة الأولى يضحك منذ عام 1920 في خضم سباق 3000 م موانع الذي خسره إمام مواطنه تينو لوكولا (9ر12ر8 د رقم اولمبي جديد)، حين تعثر في حفرة المياه ومد له منافسه دوكنسي يده ليساعده في المتابعة... فكانت لفتة شكر منه عبرت عنها معالم محياه التي انفرجت أساريرها!! غير إن هذا الشرود سهل فوز لوكولا.

- جيلو والمصير التراجيدي -

نورمي "انتهى" منبوذا بعد الدورة وأوقف دوليا بعدما اتهم بنيله 25 ألف دولار لقاء المشاركة في عدد من السباقات، فاستبعد عن الساحة العالمية... ولاحق المصير التراجيدي ذاته لادوميغ حتى قضى عليه.

كان لادوميغ الملقب ب "جيلو" المرشح القوي لنيل سياق 1500 م، ونافسه على الطليعة الفنلنديان بوريي وهاري لارفا ابن بلدة توركو مسقط نورمي... ويومها كان الفنلنديون مسيطرين على مجمل المسافات المتوسطة والطويلة وتحديدا منذ دورة أنتورب 1920.

وأطلق "جيلو" العنان لخطواته المطاطية الواسعة جدا، بعد محاشرته للارفا وتجاوزه، فهلل الفرنسيون في الاستاد ظنا منهم إن لا أحدا بامكانه بعد ألان تجاوز عدائهم، لكن لارفا استلحق الموقف وتقدم على لادوميغ بفارق مترين فقط عند خط النهاية ملحقا به خسارة غير متوقعة بقيت وانتصار البريطاني ايليس عليه عام 1927، الوحيدتان في سجله... وما عزز من بريق فوز الفنلندي تحقيقه رقما اولمبيا مقداره 2،53،3 د وطبعا أسهم لادوميغ كثيرا في تحقيقه.

وعلى غرار "الشائعات" التي روجت حول نورمي، ذكر إن لادوميغ قبض مبالغ طائلة حينذاك ليخوض سباقات في السويد، فأقصي عن الساحة ومنع مثل نورمي من المشاركة في الاولمبياد في لوس انجليس عام 1932.

وقد ورد في تحقيقات وتقارير صحافية في فرنسا تحديدا، إن عددا من عدائي الطليعة أمثال سيرا مارتن وجان كيلر لم يتضامنوا مع لادوميغ (26 عاما) الذي كان في أوج عطائه. وأصاب اقصاؤه ألعاب القوى الفرنسية في مقتل طوال عشرة أعوام فمع أفول نجمه عن المضمار برز جيل جديد ضم الاميركي ورد روف والنيوزيلندي لوف لوك...

وكان مجرد إعلان مشاركة لادوميغ الذي حقق أرقاما عالمية على المسافات من 1000 إلى 3000 م فضلا عن سباقات الميل والميلين وغيرها من القياسات الإنكليزية، يؤمن حشودا من المتفرجين... لكنه مضى بعد الخيبة ليسابق الخيول في السيرك أو يجري استعراضيا فوق بساط آلي على مسرح "ميوزيك هول" بباريس... وإزاء الموقف الرسمي منه، كانت أللفتة الشعبية المعنوية إذ استقبله نحو 400 ألف شخص يحييونه وهو يجري من "بورت مايو" إلى ساحة الكونكورد في العاصمة الفرنسية.

قصة لادوميغ هي القدر الساخر من الساعي إلى الفوز لينتقم إلى الأبد من طفولته المعذبة، إذ توفي والده قبل ثلاثة اشهر من ولادته... ولما حملته أمه طفلا عمره 17 يوما إلى جده المقعد، تعثرت قرب المدخنة واشتعلت النار بثوبها الطويل، فحمت الرضيع بما تبقى منه... وتوفيت لاحقا متأثرة بحروقها... لكن نار المجتمع حرقت مستقبل "جيلو".