بيروت: لا يخفى على كل من تابع وسائل الإعلام المصرية الرسمية والخاصة منذ بداية إنتفاضة الشباب المصري- والتي حولتها وحشية رجال الأمن المركزي في قمع التظاهرات الى إنتفاضة شعبية، تطورت الى ثورة كاملة على النظام- بأن الجهاز الأمني المصري حاول السيطرة على كل شيء بدءاً من وسائل الإتصال وإنتهاءً بالإعلام، في محاولة لإخفاء الصورة الحقيقية عن العالم الخارجي، لكن المحاولة فشلت والثورة إنتصرت.
قناة دريم ومنذ اليوم الأول للأزمة رفضت الدخول في فخ التزييف الإعلامي، فـ quot;منى الشاذليquot; مقدمة برنامج quot;العاشرة مساءquot; رفضت يوم 26 يناير quot;أن تكون شيطاناً أخرس أو محرضاًquot;، وبدأت حلقتها بتمهيد قالت إنه quot;لابد منهquot;، ووصفت الموقف الذي يمرون به بأنه من quot;أصعب المواقف المهنيةquot; التي يمكن أن يتعرضوا لها في حياتهم.
وأضافت: quot; أن أي شخص يمارس مهنة الإعلام يفترض أن يكون شغله الشاغل هو تطبيق مبادئ هذه المهنة وقناعاته، لكنها اليوم في وضع صعب لأن برنامجها بالإضافة الى وسائل إعلام أخرى - رغم أنها مرت في السابق بظروف quot;متوترة، ومحتقنة، وملتهبة، وحساسة، وشائكةquot; الى آخر ما يمكن من تسميات- لكن الوضع اليوم مختلف لأنهم وضعوا أمام خيارات لا يفترض بهم أن يواجهوها.
ووضحت أن الولاء للمهنة ولطريقة عرض المعلومات التي يتعلّمها الإعلامي ويرتضيها ضميره، والحفاظ على البلد وأمنه وسلامته، وطمأنينة مواطنيه، وعدم إجهاض أي مشروع أو مطالبة بالأفضل لبلدنا، أمور مترافقة ومشروعة ولا يفترض أن يكون عليها نقاش.
لكن الواقع مختلف فالإعلامي المصري اليوم مخيّر بين واحد من الأمور الثلاثة سابقة الذكر، ووصفته بالإختيار quot;الصعب والمستحيلquot; والـ quot;ظالمquot;، وشددت بالقول: quot;نحن نكنّ الولاء لمهنتنا، ولبلدنا، ولأهلنا، ولمستقبلنا، ولسنا مضطرين إلى الإختيار ، أو تقبل أي نوع من الإتهامquot;.
وتستطرد: quot;الحقيقة أنك في هذه اللحظة إما أن تتهم بإثارة الشغب والتحريض على التخريب، أو إنك تتهم بإجهاض تحرك بدأ سلميا من مواطنين عاديين يطالبون بمطالب مشروعةquot;.
وتضيف: quot;وكأنك مطالب بأن تختار بين أن تكون شيطاناً أخرس أو شيطاناً محرضاً، ونحن لن نختار أياً من هذين الخيارين، لأن الوضع بالنسبة لنا وببساطة واضح وكالتالي: نحن نعرف أننا لا نمتلك الحقيقة، والإعلام بشكل عام لا يمتلك الحقيقة، فمهمة الإعلام المقدسة هي العرض، والسؤال quot;لكل الناس، ولكل التيارات، من كل الإتجاهاتquot; هذه هي مهنتنا المقدسة، مهنتنا ليست الرد على الإتهامات، او محاولة دحض تهم تلقى علينا جزافاً، وكأنك مخير ما بين ضميرك المهني وخبرتك، وما بين الحفاظ على أمان وإستمرارية منبر إعلامي يشاهده الملايين، الإختيار صعب وقاس وظالمquot;.
وتكمل معلنة موقفها بالقول: الوضع سيكون كالتالي: نحن وكما نفهم مهنة الإعلام عيون وآذان وحواس تسمع وتري وتفهم الجميع الحاكم والمحكوم ، ولسنا مضطرين إلى إعلان ولائنا في كل ثانية، ولسنا مضطرين إلى الإجابة عن أية أسئلة ليس لها محل من الإعراب، أسئلة من فصيلة quot;انتم تريدون إشعال البلد؟ ما عاش ولا كان من يشعل بلدنا. ما عاش ولا كان الذي يفكر في أذية بلدناquot;.
أو أسئلة من نوع quot;لماذا تعارضون الإصلاح؟quot; أيضاً ما عاش ولا كان من لا يفكر في الخير، وفي مستقبل أولاده وأحفاده، ومن لا يغير للأفضل، بكل الطرق المشروعة والسلمية. وتختم جملتها بالقول: لسنا مضطرون إلى الإجابة على هذه الأسئلة، وإذا كان أحدهم سيضطرنا لذلك فالإنسحاب أفضل وأسهل لنا، بدلاً من التعرض للضغط ، والإضطرار للإجابة على ألف سؤال ودحض ألف إتهام.

الشاذلي ختاماً تختار الأصعب وتعلن: لا نريد أن ننسحب، نريد دائماً أن نكون في الموقع الذي يعرفه الجميع ممن يفهمون في الإعلام ، الإعلام الذي يفترض أن يكون quot;طاقة نورquot; ، quot;طاقة معرفةquot; ، quot;طاقة تنبيهquot; ، quot;طاقة تحذيرquot; ، quot;طاقة تبريرquot; ، quot;طاقة حزمquot; ، طاقة تدفع بالأمور نحو الأفضل وليس الى الأسوأ.

وتحدثت عن التغطية الإعلامية منتقدة السياسة التي حاول النظام وقياداته الأمنية والإعلامية فرضها عليهم بالقول إن إخفاء الحقيقة مسألة مستحيلة، فإن تغاضت عنها وسيلة أو أكثر فهذا لا يعني انها لن تصل، فأحدهم سيضيء عليها بشكل او بآخرquot;. (وكان معها حق فهو ما فعلته قناة الجزيرة مثلاً).
ووضعت يدها على الجرح وشخصت الوضع بالقول إن الغائب عن المشهد هو quot;المعالجة السياسيةquot; ، لم نر خطوة سياسية للمعالجة والإحتواء، ربما لان هناك عرفا سائدا بأن من لا يقدم على خطوة سياسية أو يفضي الى مشهد مزعج لا يحاسب من أحد، الإعلام هو الطرف الوحيد الذي يتعرض للمحاسبة، وإذا سال سائل لماذا؟ فالجواب هو: العلم عند الله.
وأضافت أن المشهد من الممكن إحتواؤه لأن البلد فيه quot;عقلاءquot; - ولكن خاب ظن quot;منىquot; لأن البلد يومها خلا من العقلاء وسيطر عليها البلهاء، الذين كتبوا نهايتهم بأنفسهم.

هذا التمهيد المهم الذي قامت به الشاذلي بعد انسحاب محمود سعد في ظل توجيهات أنس الفقي لوسائل الإعلامفي طريقة معالجتهم للأزمة كان مهماً جداً في إنقاذ مستقبلها ومستقبل القناة الإعلامي، فالتزامهم الحياد والموضوعية quot;قدر الإمكانquot; رغم الترهيب والتهديد، منحهم شعبية كبيرة في الشارع المصري الذي لم ينس من أوصل صوته وعبر عنه، ومن تخلى عنه ووقف الى صف النظام.
وفي الوقت نفسه فإن إعلان الشاذلي وبكل صراحة حقيقة الموقف، سد على النظام فرصة تكميم فاههم بشكل كامل، أو إغلاق المحطة، وكان توقيته ذكيا، وهذا الإلتزام بالمصداقية أكسب المحطة إحترام الجميع في الداخل والخارج.
وانعكس في تحقيقها أكثر من سبق إعلامي بدءًا من إستضافة quot;وائل غنيمquot; فور خروجه من أمن الدولة، وهو اللقاء الذي أثار ضجة كبيرة، ووضع المحطة في دائرة الضوء محلياً، وعربياً، وعالمياً.
تلاه لقاءمهم جداً بالإعلامي quot;محمد حسنين هيكلquot; بعد أقل من ساعتين من تنحي مبارك، وضع خلاله رؤية كاملة لمستقبل البلاد وما يجب أن تكون عليه الخطوات المقبلة، وهو صوت كان من بين الأصوات التي أراد الثوار سماع ما يريد قوله وطالبوا به.
ثم تلاه لقاءمهم أيضاً مع الإعلامي حمدي قنديل الذي كان ممنوعاً ومكروهاً من النظام، ثم إنفراد بلقاء رئيس الوزراء المصري الأسبق كمال الجنزوري كسر فيه الصمت بعد أكثر من 11 عاماً على إقالته المفاجئة من منصبه، والتي بقيت أسبابها سراً طيلة هذه الفترة.
وبالأمس وجهت الشاذلي لمشاهديها رسالة مهمة: quot;تحصيل الحقوق أمر مشروع، لكن التوقيت عامل أساسي، وعلى المصريين اليوم أن يمنحوا الأمور بعض الوقت ليكون التغيير ممكناً، ولا تسقط البلاد في فخ الفوضى والخراب، وتضيع مكتسبات الثورة، وطالبت الجميع بضبط النفسquot;.
وإستقبلت بعدها وزير المالية في حكومة تسيير الأعمال ليجيب على العديد من الأسئلة المهمة التي تدور في ذهن المواطن المصري حول المستقبل الإقتصادي للبلاد، وكان من الواضح خلال اللقاء التقدير الذي تحظى به quot;منىquot; اليوم من الطرف الآخر، الذي كان في السابق يحاول قمعها هي وغيرها، فهي إنتصرت في النهاية وكسبت إحترام الشارع والحكومة الجديدة، بحيث لم يجد ضيفها الوزير غضاضة في الإعلان بأنه من متابعي برنامجها بشكل مستمر، وبأنه يرى فيه مؤسسة إعلامية قائمة بحد ذاتها، وهو إطراء ردت عليه الشاذلي بالقول بأسلوب لطيف: quot;لا تعتقد ان هذا الإطراء سيجعلني أكثر رأفة بكquot;.
جميع هذه الإنفرادات الذكية كانت محصلة سلوك إعلامي محترم وضع المحطة وإعلامييها في دائرة الضوء بشكل لافت خصوصاً خارج مصر. ولا ننسى الإشارة الى موقف الإعلامية quot;دينا عبد الرحمنquot; مقدمة quot;صباح دريمquot; الذي كان مشابهاً ومتسقاُ مع موقف الشاذلي وتحدثنا عنه في تقرير سابق، وكذلك وائل الإبراشي الذي أطل متأخراً بعض الشيء لكنه يفتح اليوم ملفات الفساد في برنامجه quot;الحقيقةquot;، وجيهان منصور، وبلال فضل الذي كان في صلب الثورة من الأساس وفي ميدان التحرير طوال الوقت.
قد يعتقد البعض أننا ننحاز لدريم أو للشاذلي بسبب تناولنا موقف المحطة في أكثر من تقرير خلال مراقبتنا التغطية الإعلامية للقنوات العامة والخاصة المصرية، والقنوات الإخبارية العربية، لكن الحقيقة يجب أن تقال إن هذا الموقف الذي إتخذ باكراً في وقت كان الوضع لا يزال غامضاً، فيه شجاعة وعبرة لكل إعلامي راهن على طرف دون آخر في بداية الأزمة، وهو يدفع الفاتورة اليوم لأنه راهن على الجواد الخاسر، أو لأنه بان منحازاً وبعيداً عن الموضوعية والحياد وخسر تقدير المشاهد.

الإعلام المصري يستعيد عافيته
الإعلام المصري عاما وخاصا إستوعب الدرس وهو ينفض اليوم غبار الماضي، ويعود إلى ريادته، وبدأ ممارسة دوره في التوعية، والإرشاد، والتصحيح.
فلن ينسى أحد خوف العاملين في التلفزيون المصري بعد حصاره من المتظاهرين وقلقه من العقاب على كم التعتيم، والكذب، وتشويه الحقائق الذي مارسه بحق الثوار، وهو الموقف الذي دفع بالتلفزيون المصري الى تقديم إعتذار علني على شاشته لسياسته السابقة والتي لا ذنب للعاملين به فيها، فهم كغيرهم من القطاعات كانوا مجبرين تحت وطأة الترهيب على العمل بهذا الأسلوب. وتعهد أن يكون صوتاً للشعب لا بوقاً للسلطة.
ولن ينسى أحد الموقف المخزي لقناة المحور التي تورطت في خدعة كان هدفها تشويه سمعة الثوار بإتهامهم بالحصول على تمويل وتدريب إسرائيلي.