عبد الجبار العتابي من بغداد: في بغداد، قريبا من قلبها، في الجانب الغربي منها، في طرف قصي من الكرخ، لا تجد عائقا في أن تسير في شوارعها راجلا او راكبا، أو التجول والتوقفت امام العديد من الاشياء اللافتة للنظر فيها. في الصيف والشتاء وفي النهار والليل الذي يقول عنه البغداديون: عدنا نعرفه بعد غياب طويل عنه واعتقدنا اننا نسيناه.
اغلب الجسور في بغداد تعبرها مشيا، ماداً رأسك الى نهر دجلة حيث البنايات الجديدة والقديمة، المؤسسات الحكومية وغير الحكومية. والاشجار على اختلاف اشكالها، وطالما تطلعت الى الجدران والاسيجة والحواجز والسيطرات، والى الاماكن التي تعرضت للتفجيرات وما زالت اثارها باقية.
ها هو العام 2009 يرفع قبعته ليمضي، وقد تعرضت فيه الى ضربات قاسية كما حصل طوال اكثر من ست سنوات، لكن لا بد من النظر بعين اخرى وهي تودع عقدا جديدا كان مترعا بالاحزان والقسوة.
قلت للاعلامي عماد جاسم الذي يعمل في قناة (الحرة) : ونحن على الطرف الاخير من عام 2009، كيف ترى بغداد ؟، قال : بغداد حبيبتنا وعزيزتنا، ويحزننا هذا الخراب الذي يجتاحها، لكنني لا اجد ما يليق بها سوى قول السيد مصطفى جمال الدين (بغداد ما اشتدت عليك الاعصر / الا ذوت ووريق وجهك اخضر)، وحين قلت له : كيف يمكن لك ان تتصورها في العام المقبل ؟ قال : اتصور.. ان بغداد ستجاهد لتخلح ثوب الحداد وسيسعى ابناؤها من المتنورين لبنائها لذلك بينما يكون الصراع مع مع الظلاميين الساعين لابقائها بثوب الحداد، اتمنى ان يحدث الانقلاب ويختفون الى الابد، هؤلاء الاغبياء ممن ارجعوا البلاد الى الخلف، وان يظهر عشاق الجمال لقيادة البلاد ).
كنت قد تجولت في بغداد، في اطرافها وصميمها واسواقها والشوارع الخلفية منها، في الكرخ والرصافة، من مدينة (الشعلة) الى مدينة (الصدر) ومن (بغداد الجديدة) الى (السيدية) و(البياع) ومن مدينة (الشعب) الى (الكرادة) ومن (الاعظمية) الى مدينة (الحرية) و(الكاظمية) الى (المنصور) وما حولها، وحدقت في بناياتها ودكاكينها التي لم تزل اغلبها تحتفظ بمسمياتها، او تحاول ان تواكب الجديد والحديث في شكلها وتعاملاتها،ومررت بمنطقة (علاوي الحلة) المثيرة للدهشة ووقفت امام كراجها الكبير القديم، كان علي ان اذكر عدد السيارات في بغداد صار يضاهي عدد السكان ربما، ما زالت بقديمها وحديثها تنزل الى الشوارع، فيما اصبحت سيارات (الكيا) (المكرو باص) تسبح في انهار الشوارع بعد ان انطفأ بريق سيارات (الكوستر واللاندكروزر والتاتا سيئة الصيت)، كما كانت لي جولات في العديد من المدن داخل هذه الحدود، ولا اخفي انني اكتشفت ان هذه المدن والمحلات لا زالت عابقة بسحرها القديم وان اضافت اليها التكنولوجيا اشياءها الجديدة، تتشابه في الكثير من الاشياء، ولكنك ستجد المقاهي الشعبية تحمل ذات النكهة وما زالت (استكانات) الشاي (السنكين) تنتشر على (الطاولات) الصغيرة، وتسمع منها (تفضل عيوني، وعليكم السلام اغاتي، والله بالخير عيني)، وبالامكان ان تشم رائحة (الباجة) في كل تلك المحلات،كما يمكنك ان ترى (فحل البصل) وهو يثرم ليقدم مع ماعون الباجة حسب طلبك، كما لا يمكنك ان تدخل مطعما عاديا دون ان تجد ذاكرتك عائدة الى ما قبل عشرين عاما على الاقل، (تمن ويابسة) و (تشريب) والكباب والمعلاق والتكة، ووسط هذا كله تجد المواطن العراقي على الرغم من غرائب الحياة التي يعيشها والخوف من المجهول، تجده يمزح في كل التفاصيل، يضحك ويبتسم، ويصنع النكتة، ويتحدث في السياسة، يسب من يشاء ويشتم من يشاء ويعلو صوته في اي قضية ويسخر من اي شيء.
الزميلة الصحفية افراح شوقي من جريدة المدى تقول: بغداد لم تزل وردة يانعة في القلب.. بسحرها الذي لاينضب واصالتها التي كتبها التأريخ، وكل مامر عليها يزيدنا اصرار على التمسك بها، انها امّ روؤم لنا...تعرضت وماتزال لغدر القائمين عليها وبدلا من رعايتها جاروا عليها وحملوها كل خلافاتهم وصراعاتهم وصارت بقاياها تثير الالم والذكريات، حب بغداد وسحرها يتضح جليا لكل من غادرها مرغما او مختاراً، فيعود كأنه فارق عشيقته او امه ويصير يلتذ بالتبحر في معانيها ومعالمها ويسترجع ذكريات صباه وشبابه كأنه يتواصل مع جذوره التي حرم منها.
وحين قلت للزميلة افراح : ماذا تتصورينها في العام الجديد فقالت : مانأمله لها في عامها الجديد ان تتواصل بالصبر وتتحمل بنيها كما تحملتهم بالامس عسى ان تحمل لها الايام بعض سعاداتها وألقها التليد الذي سيشهد له الجميع، ان بريقها باق امد الايام صلبا كصلابة وعراقة حضارتها الحاضرة دوما لدى الجميع وستكون فيئا يستظل به الادباء والفنانون وكل الاطياف والاجناس لانها حاضرة الزمان وحكاية الدهر التي لاتمل.
كان معي المطرب جواد محسن في جولة ما، تجولنا في مناطق بغداد القديمة في علاوي الحلة ودخلنا المقاهي الشعبية مثلما احد مطاعم (الباجة) ومررنا من فرن للخبز البغدادي الابيض وشممنا رائحته الزكية، كما توقفنا في احد الاسواق امام العديد من دكاكين باعة الخضر والفواكه، كان يقول لي جواد : بغداد.. اغنية الزمان التي ما زالت تتردد على شفاهه في سرائها وضرائها، ست سنوات عجاف وها نحن نرى الناس يمارسون حياتهم كأنها اعتيادية، العراقي ليس من عادته الاكتئاب، فهو يتغلب على الظروف ويتأقلم مع الحياة في صعوباتها، توقف امام اي شخص لا تعرفه ومازحه فسوف يمازحك، ويتجاذب معك اطراف الحديث في اي قضية تريد ومن ثم يبوسك قبل ان تذهب، لذلك بغداد.. ليست مدينة عادية،ومواطنوها لبيوا اعتياديين، نحن نحزن لما اصابها لاننا ابناؤها، لا تسرنا الكثير من المشاهد اليومية فيها، والتي بعضها امتداد لسنوات طويلة، ولكن المدن العظيمة تقوم من رمادها وهذا ديدن بغداد، واضاف : منذ ست سنوات وبغداد تستعيد بعضا من حيويتها، وانا اعتقد انها في عام 2010 ستبدأ من جديد، ستنهض بقوة، وتتألق وتزيح عن كاهلها عذابات السنوات العجاف.
سرت في اغلب شوارع المدينة الرئيسية والفرعية وتوغلت في العديد من (درابينها) مشيت في شارع (حيفا) الذي استعاد وعيه ولم تعد لعلعة الرصاص تسمع فيه، وشارع (الرشيد) الذي اصبح ينوء بالفوضى وتهدمت اجزاء منه، وشارع (السعدون) الذي رفعت عن صدره الكتل الكونكريتية لكنه لم يزل بحاجة الى ان ينفض عنه الغبار والالوان الرمادية وتستعيد دور السينما فيه ألقها، و(الربيعي) الذي تجهم بعض الشيء، و(الجمهورية) الذي امره امر، الذي يحتاج الى اعادة ترتيب شاملة، وشارع (الصناعة) المختنق بالدخان والانحسار بعد ان اصبحت الجامعة التكنلوجية هدفا للارهابيين، وشارع (النهر) الجميل الذي ذهب رونقه، و(ابو نؤاس) الذي بدأ يتنفس العافية ووجدته يتغنى بالوطن بكلمات اشعر انني سمعتها منه : (خمرة وعليك أتعلمت / كل يوم أشربك للصبح/ منك ولا مرة أسكرت)، كما مشيت في العديد من شوارع الاحياء التي تمتليء بالناس لكنها تشكو التراكمات والصخب، والحفر و (الطسات)، في كل ذلك تشعر ان الناس يحتاجون الكثير مثلما تحتاج هذه الامكنة والشوارع، تراهم يتعاملون مع الحياة بسلاسة وطيبة، يغضبون وبسرعة تجدهم يهدؤون.
قلت للفنانة اسماء صفاء : حدثيني عن بغداد كما هي مرسومة في نفسك، فقالت : اضجر وأحزن ان اغادر بغداد، واشتاق اليها مع اول يوم اسافر فيه فأنا في كل مرة اراها احلى، وأظل ادور في شوارعها للا هدف ولا ارجع الا في الليل، ولا تهمني الازدحامات بل انها تجعلني أتأمل الامكنة من حولي بشكل افضل، وان كان بعض افراد السيطرات يزعجونني بمفردات فيها قلة ذوق.
عن امنياتها لبغداد في العام المقبل، قالت : اتوقعها في حال افضل واتمنى ان اراها في خير دائما، اتمنى ان ترفع كتل الكونكريت وان تفتح الشوارع المعلقة وان تتحسن الكهرباء، الانسان العراقي قوي وصبور وطيب وشجاع، وسعادتنا ان هذا الشعب لا ينهزم رغم المحن فقد تعودها واصبح المثل القائل (لا تعلم اليتيم على البكاء) ينطبق علينا، انتهت اكبر المحن وما سيأتينا سنقول عنه انه قدر من الله.
توقفت عن احد الباعة في منطقة البياع، وسألته عما يتمناه لبغداد في العام الجديد، فقال : انا لست من بغداد بل من المحافظات وجئت لاعمل لان في بغداد فرصا كثيرة للعمل، وانا احب بغداد، الناس في بغداد يضحكون دائما ويمزحون مع بعضهم، ساعاتهم ليست سواء، لكنهم طيبون، والاندماج معه سهلا، يحبون الضحك والمزاح ولا يؤذون احدا، واتمنى في السنة المقبلة ان تزال الحواجز الكونكريتية وينتهي الارهاب والتفجيرات وتنظف المدينة وتصبح اجمل مدينة في العالم.
كما كنت قد عبرت جسر (الجادرية) مشيا، ونظرت من جانبيه الى (جامعة بغداد) المطفأة في الليل والى (السفارة الامريكية) المضاءة، وعبرت جسر (الجمهورية) وتطلعت الى بناية (وزارة التخطيط) الحمراء وكيف ان اعمال الترميم اضاعت ملامح الرصاص الذي اخترقها ولوثها، كما لفت نظري ان الطريق الى النفق العابر الى (الحارثية) من امام (فندق الرشيد) اصبحت سالكة، وان جدارية (جواد سليم / نصب الحرية) في الباب الشرقي ما زالت يستقبل العابرين اليها من الجسر، وعبرت جسر (السنك)، فلم يسرني منظر (مسرح الرشيد) الذي بقي هيكلا، ولم يعجبني اغلاق الطريق المؤدي الى الصالحية، وأزعجني الزحام على الجسر وفي منطقة (السنك) التي تحول نصف الشارع فيها الى رصيف، واسعدني منظر العمال في بناية الاتصالات التي تعرضت للتدمير، كما عبرت جسر (الاحرار) وانزلقت من عينيّ الدموع على ما شاهدته من خراب في مبنى (وزارة العدل)، لم يعجبني منظر الصالحية الفوضوي، كما لم يعجبني منظر النهر الممتليء بالحشائش، ولم تعجبني ايضا منطقة (حافظ القاضي) والصخب الذي فيها، كما عبرت جسر (الشهداء) وتلمست ذلك الهدوء على الرغم من ان ساحة الشهداء تغيرت ملامحها كثيرا، وما زال باعة السمك يقفون ببضاعتهم (الحية) على الارصفة يجاهرون بأنواع السمك، كان الجسر كهلا وحوله تتداعى الاشياء، وكان الطرف الرصافي منه مجرد حطامات، فيما المدرسة المستنصرية ما زالت نائمة، كما خطوت على جسر باب المعظم،احسسته غريبا ثمة خراب فيه لم يزل بعد، وفي نهايته ثمة اشتغالات على الارض ضيعت ملامح المكان، اما جسر (الصرافية) فلا زالت الاحزان تحيط به على الرغم من اعادته من جديد للحياة، كما وجدت جسر (الائمة) يبتسم بعد ان فتح ذراعيه لاحتضان العابرين.
هناك.. ألتقيت الشاعر صباح الهلالي، توقفنا ننظر المدينة من عدة نواحي، ثم قلت له : كيف ترى بغداد في ايام عامها الاخير، فقال : انا ارى بغداد نظرة واحدة، حتى في ايام الذبح والقتل والتفجير اراها امرأة جميلة جدا وبملابس عروس او على الاقل بملابس مرتية وانيقة، نحن شعب يتمتع بنعمة النسيان والدليل انه الشعب الوحيد في العالم الذي يقبل اخذ (الفصل) او ما يسمى بـ (الدية) حين يكون لديه قتيل، فننسى القاتل بعد مرور شهر وشهرين، لذلك نحن شعب يمتلك الكثير من الطيبة التي تصل الى حد الغباء احيانا، ولاننا شعب خلاق ومبدع وطيب فقد رسمنا بالالوان على الحواجز الكونكريتية!!.
وعن تمنياتها لبغداد خلال العام المقبل قال الهلالي : ما زلت اراها بثوب العرس الذي اراها فيها دائما.
التعليقات