فتحي الشيخ من القاهرة: تعد صناعة الإسمنت واحدة من الصناعات السيّئة السمعة عالميًا، لما ينتج عنها من ملوثات تضرّ بصحة الانسان والبيئة، لذا نالت لقب الصناعة القذرة، مما دفع بأوروبا إلى لفظها والتخلص منها نهائيًّا بعد ضغوط كبيرة وانتقادات حادة من جانب منظمات حماية البيئة والمجتمع المدني، أضف إلى قوانين البيئة الاوروبية الصارمة. نتيجة هذه الجهود مجتمعة تم إخراج هذه الصناعات تمامًا من اوروبا منذ فترة طويلة. لكن صناعة بهذا الحجم والانتشار كان لا بد لها ان تبحث عن مكان جديد أقل رقابة، واكثر تعاونًا، وبالتأكيد اقل حرصًا على البيئة وصحة مواطنيها، ففتحت مصر ذراعيها لهذه الصناعة الصناعة واصبحت خامس دولة منتجة للإسمنت، وتوافدت الشركات الاجنبية إليها باعتبارها جنة الاسمنت القادمة وسيطرت على اغلبية الشركات المنتجة، خاصة في ظل عدم وجود رقابة بيئيّة او صحيّة حقيقيّة.

تحولت مصر من دولة مستوردة للاسمنت تنتج 4 مليون طن سنويًا الى دولة مصدرة تنتج 48 مليون طن سنويًا لتتوطن هذه الصناعة في مصر بما تحمله من اضرار، ابتداءً من الغبار والاتربة المنبعثة من المداخن الى اكاسيد الكبريت والكربون وغيرها من المواد، وفق ما أكده الدكتور سميح عبدالقادر الاستاذ في المركز القومي للبحوث بمصر وخبيرالاتحاد الدولي للسميات، قائلاً: هناك اكثر من ملوث يخرج من صناعة الاسمنت، لعلّ اخطرها هو مادة الديوكسين التي تنتج من غبار المداخن وتنتشر كرذاذ في الجو مما يضاعف من مشاكل مرضى الربو، وتزيد ايضًا من نوباتوازمات التنفس، كما تؤدي إلى التهاب رئوي، ومن الممكن ايضًا أن تؤدى إلى الاصابة بسرطان الرئة. ويؤكد الخبير الدولي لـquot;إيلافquot; أن العالم كله مهتم بهذه المادة لخطورتها حيث ان 10 ملليغرامات منها تؤدي إلى موت محقق للانسان، وخطورة هذه المادة لا تكمن في تأثيرها المباشر على الانسان، ولكن من خلال تراكمها في جسم الانسان هذا الى جانب الاكاسيد الكربونية وما لها من تأثير خطر على الانسان والبيئة كأول اكسيد الكربون باعتباره مادة سامة للكائنات الحية اضافة إلى مضاعفة تأثيرها مع ثاني اكسيد الكربون في الجو، حيث تؤدي إلى رفع درجة الحرارة وقصر فترة الشتاء وهو ما يعرف بالاحتباس الحراري، يضيف الدكتور احمد محمود استاذ امراض الصدر اضرار اخرى قائلا: غبار الاسمنت مهيج للجهاز التنفسي واستنشاقه لمدة طويلة يؤدي إلى الاصابة بالتحجر الرئوى،والنزلات الشعبية المزمنة وكذلك الربو الشعبي وتمدد الرئتين وايضًا الاصابة بسرطان الرئة في حالات كثيرة جدًا وتزداد هذه الامراض في المناطق التي تتركز بها صناعة الاسمنت مثل حلوان ويزداد هذا المرض بشكل كبير عند الاطفال بنسبة تكاد تكون ضعف الكبار وتؤكد الدراسات الطبية ان اول اكسيد الكربون يؤدي الي التسمم بينما ثاني اكسيد الكبريت للسعال والحساسية، اما الازوت الارضي فله تأثير مسرطن في حين تؤدي الادخنة إلى الاختناق. وتفيد بعض الدراسات بأن الغبار الناتج عن مصانع الاسمنت يلحق أضرارًا بيئية واسعة بالأرض والزرع وقيعان البحار والأنهار، حيث تشكل في حالة البحار المجاورة طبقة رغوية شبه هلامية تقضي بالكامل على المحيط البيئي في تلك المناطق البحرية.


وافقت الحكومة المصرية خلال العامين الماضين على إنشاء20 مصنعًا جديدًا، وصرحت بعمل 12 رخصة لمصانع جديدة هذا العام إلى جانب ال15 مصنعًا الموجودة بالفعل؛ معلِّلة ذلك برغبتها في كسر الاحتكار وزيادة فرص الاستثمار، ورغم تأكيد المسؤولين المصريين على أن إنشاء تلك المصانعِ مطابقٌ للمواصفات الدولية، إلا أن البنك الدولي أكَّد في تقرير له أن القاهرة تخسر سنويًا 20 مليار دولار؛ نتيجة تدهور الوضع الصحي والبيئي بعد إنشاء مصانع الأسمنت، والتي تصل كمية المواد عاليةِ القلويةِ الناتجة عنها إلى 4.2 مليون متر مكعب، وهي مواد شديدة الضرر على الإنسان، مشيرًا إلى أن هناك 4 ملايين و700 ألف مواطن يصابون بالأمراض، ويموتون بسبب الملوثات الناتجة عن صناعة الأسمنت في العالم، منهم 2 % في مصر وحدها، التي تحتل المركز الخامس على مستوى العالم في تلوث البيئة بسبب تلك المصانع.

كل هذه الاسباب جعلت الدكتور بهاء بكري رئيس المكتب التنفيذي لحزب الخضر يطالب بتفعيل القوانين الموجودة بشكل افضل قائلا: إذا كانت مصر فتحت الابواب للصناعات التي تخلصت منها دول العالم المتقدمة لأنها صناعات مضرّة بالبيئة وصحة الانسان، وتعاملت معها مصر على انها تضيف في مجال الاستثمار بغض النظر عن الاضرار التي تسببها، لذلك يجب على الحكومة المصرية على الاقل نقل المصانع من المناطق السكنية وهناك خمس مناطق سكنية على الاقل بها مصانع اسمنت على راسها منطقة حلوان جنوب القاهرة بها اكثر من مصنع وان تحاول الحكومة المصرية تطبيق الاشتراطات البيئية على كل الشركات المنتجة للاسمنت.

بالنسبة إلى نقل مصانع الاسمنت خارج الكتلة السكنية كان مجلس الوزراء المصري أصدر قرارًا العام 2005 لنقل المصانع الملوثة من داخل القاهرة لخارجها كما تم تشكيل لجنة لإعداد الدراسات اللازمة وتحديد الإجراءات المطلوبة ولكن عمر مهنا رئيس مجلس إدارة شركة السويس للأسمنت، وهي احد الشركات التي لها مصانع بمنطقة بحلوان جنوب القاهرة، صرح منذ ايام قليلة بأن اللجنة الخاصة بوضع الخطة الزمنية لنقل مصانع الأسمنت خارج محافظة حلوان وتوطينها في مناطق أخرى بعيدًا من مناطق الكثافة السكانية لم تجتمع بعد ولم يتم تحديد موعد لاجتماعها.


وبالنسبة إلى تطبيق المعايير البيئية على هذه المصانع يقفز سؤال مهم اذا كانت هذه المعايير قادرة على الحد للاثار السيئة لهذه الصناعة لماذا لم تقم بها الدول المتقدمة في اوروبا،على الرغم ممّا تمتلكه من إمكانات مادية وتقنية عالية؟