تعاني منطقة البتاويين في وسط بغداد من الإهمال بعد أن كانت من أجمل احياء العاصمة العراقية. وتستطلع إيلاف فيالتحقيق التالي تاريخ هذه المنطقة التي كانت مزارع خس وبناها اليهود العراقيون قبل هجرتهم فيمنتصف القرن الماضي ليقطنها المسيحيون الذين هجروها بدورهم منذ العام 2003 بعد أن طالتهم يد الإرهاب.

عبد الجبار العتابي من بغداد: الداخل الى هذه المنطقة الآن، غير الداخل اليها قبل أربعين عامًا، فصورة البنت الحسناء التي كانت تتصف بها عفا عليها الزمن واسدل ستائر الشيخوخة على ملامح الدهشة والجمال والدلال. فكل شيء تغير فيها، كل شيء، إلا تلك البقايا الباقيات من آثار تغطت ببراقع سود من سخام نفثه الزمن عليها. وهي تحتاج الى تأمل كثير لقراءة تعابير الحُسن التي لا يمكن استجلاء بعضها بسهولة إلا بعدم التحسر والشعور بالالم.

وكثيرًا ما كنت أتردد في الدخول الى هذه المنطقة خلال السنوات الست الاخيرة، كنت أمر عليها من اطرافها واعاينها عن بعد، واحيانًا ادفع نفسي بعض الامتار داخل شوارعها، وانظر الى بيوتها المتهالكة التي قسا عليها الزمن فمنحها ألوانًا قاتمة وتهرؤات في خشبها الذي ما عاد يقوى على تحمل مشاق السنين وضرائب المناخات والطقوس.

كنت اخشى الدخول الى المنطقة بسبب ما كنت اسمعه عنها من انها لم تعد كما كانت تمتلك محبتها وطيبتها وأمنها، على الرغم من انها تقع في قلب بغداد. وقد سمعت عنها اخبارًا ليست سارة عنها، هذا ما جعلني اتوجس خيفة في رسم خطواتي على ارضها. لكنني قبل ايام حاولت (المغامرة) للدخول الى هذه المنطقة التي تخيفني بدون سبب مقنع، فقررت الدخول اليها والسير في شوارعها وطرقاتها والكشف عما فيها من اسرار وقراءة واقعها.

اسمها وحده يثير التساؤلات، ولا بد انه يدفع الى العودة الى أسماء محلات القديمة التي اشتهرت بأسماء من يسكوننها، لذلك ما زالت تلفظ غلط، يقال اسمها (البتاوين) للسهولة واصبح شائعا على غير (البتاويين).

بدأت من جهة الباب الشرقي، وقفت على طرف الشارع الرئيس الذي يمتد فيها، عاينت المكان من خلال الشارع المواجه لحديقة الامة، بعضه يمثل جزء من المنطقة من حيث البيوت القديمة، وجزء لا ينتمي من لوجود بنايات عالية، لاسيما تلك القريبة من ساحة التحرير، ودرت حول المكان وصولاً الى ساحة الطيران ومنها شارع النضال الممتد طويلاً، انه عالم من فوضى الزحام والخراب والاندثار والاطيان ومناظر لا تعرف السرور واصبحت قطعة من مدينة صناعية، فيها كل اشكال التصليحات للسيارات وسواها، ومحال تجارية مكتئبة بأغطية الدهوانت والزيوت.

مع اولى خطواتي غطست اقدامي في (السيان) وهو الطين الاسود اللزج الكثيف. تطلعت الى الشارع في امتاره القريبة كان الطين هذا يمتد على طول المكان، وحين دفعت نظري الى الرصيف كان هنالك العديد من الاشخاص بسحنات مختلفة يقفون على الجانبين، قرب مطعم او مقهى او بائع يقف بمعداته البسيطة او محل تصوير، فيما كانت اعالي البنايات مكفهرة وكئيبة، لاسيما منها التي يعود تاريخها الى سنوات بعيدة. الجديد منها لا يدهش العين وعمارته سيئة للغاية. توغلت قليلاً، ليس من جديد سوى اكوام النفايات والطين والارصفة التي تزدحم بالعابرين والواقفين والبائعين وثمة كلاب تختلط بالناس، والارصفة لم يعد هنالك فرق بينها ونهر الشارع في التعب والخذلان.

المحال التجارية في الشارع العام الذي تحول الى سوق طولي، كانت مختلفة ومتنوعة من باعة الخضر والفاكهة الى اسواق المواد التموينية العادية الى مطاعم ومقاهي وباعة شاي وسجائر، ومختبرات تصوير ومحال بيع الهواتف النقالة وغيرها، ولكنها تشترك في فوضى المكان، ومع الامتداد الى وسط الشارع يبدأ زحام اشد حيث تكتظ المنطقة بالمتبضعين وبالاسواق والعربات وزحام السيارات.

توقفت عند رجل يقف امام باب داره وسألته عن احوال المنطقة : فقال على الفور : غير جيدة، ثم استدرك : الا ترى كيف صارت ؟ وهي المنطقة عشت فيها منذ السبعينيات وكانت انذاك من اجمل مناطق بغداد. واضاف : جئت اليها نازحا من الشمال وكان فيها الكثير من العوائل المسيحية. اما الان فلا يوجد الا القليل، فقد هجرهم الارهاب والعنف بعد عام 2003، واصبحت مدينة عابري السبيل، بامكان اي شخص ان يستأجر فيها بيتا او غرفة ولا يهم من اين يكون. الان انا حزين اننا اصبحنا نرى اناسًا لا نعرفهم في الشارع. وبصراحة احيانًا ينالنا الخوف منهم، فلا نستطيع الخروج الى الشارع كما كنا في السابق فالوجوه التي نراها تخيفنا. واضاف : المدينة تملأها الاوساخ ولا احد يهتم بها وهي في قلب بغداد.

والبتاويين قسمان، القسم الاول الذي يبدأ من الباب الشرقي (مقابل حديقة الامة) وينتهي بأمتداد ساحة النصر، الذي يضم أيضا (القصر الابيض)، فيما القسم الثاني يبدأ منها ويمتد بعيدا الى ساحة الاندلس والى ساحة الفردوس عرضا، على طول يقال انه كيلومتر، كما يشار الى ان البتاويين تمتد عرضا الى نهر دجلة غربا. وهذه المساحة ما هي الا منطقة زراعية في الاصل، يوم كانت بغداد لا تمتد هذا الامتداد، وقد اخذت المنطقة اسمها من المزارعين الذين سكنوا فيها في القرن التاسع عشر، وهم من النازحين من قرية تحمل اسم (بت) تقع على النهروان شمالي محافظة ديالى. فيقال للشخص الذي ينتمي لتلك القرية انه (بتاوي)، وبصيغة الجمع كانت الاشارة اليهم بأنهم (بتاويين) نسبة الى هذه القرية، وشاعت التسمية لتكون ملاصقة، وهؤلاء المزارعون مارسوا عملهم كما يبدو في هذا المساحة من الارض وحاولوا العيش من زراعتها، لذلك صار المعروف عن هذه المنطقة حين النظر الى البعيد انها كانت مزارع لنبات الخس!!

أتوقف عند محل صغير لبيع المواد الكهربائية، لفت نظري فيه الرجل الكبير في السن، فوجدتها فرصة للتحدث معه ومعرفة معلومات واسرار عن هذه المنطقة، وبالفعل كان الرجل (يحيى حميد العبيدي / من مواليد 1929) يمتلك الكثير منها، فأشار الى انه يعمل في هذه المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، وان هذا المحل الصغير مصدر رزقه لاكثر من (35) عامًا.

كنت احاول ان اشحذ ذاكرته ليأتيني من اعماقها ما اشاء، لكنه بدأ هكذا وقد اطلق حسرة : (صارت البتاويين مو زينة، سمعتها صار مو موزينة !!)، وعلى الفور سألته : لماذا ؟ فأجاب : (لان اهلها الاصليين غادروها وراح يسكنها كل من يبحث عن سكن ومنهم الغجر، اشكال وألوان، فأصبحت في حالة سيئة، في هذه المنطقة كان يسكن اليهود والمسيحيين والمسلمين، الاكثر اليهود ثم المسيحيين، وبعد تهجير اليهود كان المسيحيون الاكثر، ولكن في السنوات الاخيرة غادرها اغلب المسيحيين وصارت المنطقة مسكنا لكل من يبحث عن بيت او غرفة للايجار، وبالاخص منهم الغجر الذين كانوا ممنوعين من السكن في داخل المدن)، وحين طلبت منه ان يشحذ ذاكرته ويذهب الى اخر نقطة فيها يستذكر شيئًا عن البتاويين، قال : (لا زلت اذكر وانا طفل صغير تلك المرأة اليهودية التي لا تستطيع الانجاب، والتي كانت تشتري من ابي واعمامي السمك المسكوف، حيث كانوا اول من اسس مطاعم السمك المسكوف وكان مكانهم قرب (مدرسة العقيدة). هذه المرأة جاءت الى ابي ورأتني وتمسكت بي، ولانها تحب الاطفال، وكان عمري اربع سنوات، كانت تعبر بـ (البلم) الى بيتنا في كرادة مريم وتأخذني الى بيتها ثم تعود بي الى بيتنا وما زلت اتذكر انها كانت تعطيني (الجكليت التوفي) والنستلات، وما زلت اذكر انهم كانوا يقدمون في الكازينو مشروبا اسمه (سيفون ليمون) عام 1935 وشايا ايضًا ويأكلون السمك المسكوف، ولا زلت اذكر ايضا (داود السمرة) مدون قانون العراق في الثلاثينيات وابنه الدكتور احسان، وعيادته كانت هناك (واشار الى نهاية الشارع)، وغادروا المنطقة عام 1948 ).

واضاف حين سألته هل يتذكر متى بنيت المنطقة : بدأ البناء في منطقة البتاويين بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بعد ان بدأ النزوح الى هذه المنطقة بعد (الفرهود) الذي كان عام 1941، وكان اليهود يسكنون في منطقة (ابو سيفين). كانت البتاويين مناطق مزروعة بـ (الخس) وكانوا يرغبون ان يسكنوا منطقة (كرادة مريم) في جانب الكرخ، جاءوا الى البتاويين هربا من القتل،وقد حموهم الفلاحون الذين كانوا في هذا المكان، كما اذكر في (صوبنا / كرادة مريم) حماهم رجل اسمه (عبد علي)، وهذه المزارع ماكانت لأحد وهي من املاك تابعة للحكومة ولكن لا تباع بالفلوس، وهي انذاك كانت قائمة على الاستحواذ، اي استحوذ على الارض التي تريد وازرعها وحين تخدمها تصبح ملكك، وان كان هناك سعر لها فهي بدراهم قليلة، المزارعون البتاويون هم بنوها لانها قريبة من نهر دجلة، وبنوا بيوتا لهم من الطين، جاء اليهود وسكنوا المنطقة وبنوها.

وتابع الرجل : كانت العلاقات مبنية على المحبة واليهود مجاملون، واذا اخلصت لهم يخلصون لك حد العبادة. اضرب لك مثلاً عن خالي الذي كان يعمل لديهم سائقا، في الفرهود خالي نقل لهم بضائعهم من محلاتهم التجارية التي تسمى (مغازات)، ومن ثم ترك العمل معهم ليستقل بنفسه، لكنهم ظلوا يمنحونه راتبًا شهريًا، وذات يوم تعرض خالي الى حادث في سيارته بمنطقة الحصوة، فجاء اليهودي الذي كان يعمل لديه خالي ليخبرنا ومن ثم يذهب اليه، وفي المكان نفسهباع السيارة المحطمة واشترى له غيرها.

سألت الرجل عن الفرهود ولماذا حصل ضد اليهود فقال : لما حدثت الحرب العالمية الثانية صار العراق مع المانيا التي كانت ضد اليهود، و(جماعتنا) العراقيون هجموا عليهم لـ (يفرهدوا) بيوت اليهود ويقتلونهم، وهذا غير صحيح أبدًا.

واضاف: ما كانت البيوت تبنى بالطابوق حتى ثلاثينيات القرن العشرين مثل ما عليه (قصر شعشوع). بيوت بغداد كانت من جذوع النخل والخشب وفوقها يضعون حصران (البواري) (جمع بارية) وفوقها تراب. اليهود اول من بنى بالطابوق، هم بنوا البتاويين عندما جاءوا اليها هاربين من بعد الفرهود، بنوها على طراز بغدادي قديم. البتاويين اول حي يبنى بالطابوق بعد قصر شعشوع (يعود القصر لرجل يهودي اسمه الياهو شعشوع، ويقع القصر على شاطئ نهر دجلة في منتصف الطريق بين بغداد والاعظمية، استأجره الملك فيصل الأول ملك العراق لسكناه الخاص العام 1920)، ومن بعد ذلك بسنوات قام الوصي عبد الاله باستيراد معمل الطابوق المثقوب (المزرف)، واليهود هم اول من انشأ معامل الطابوق!

واختتم حديثه : بعد الاحتلال الامريكي للعراق 2003 جاء رجال ونساء يهود ودخلوا البتاويين يتفرجون على المنطقة وبالتأكيد يستذكرون ماضيهم فيها، انا رأيتهم، كانت معهم امرأة كبيرة في السن، لكنني لم اتحدث معهم، وتوقفوا عند المعبد الذي يسمى (التوراة) مكان عبادتهم الذي اعطوه فيما بعد مساطحة ولكنه ما زال ملكًا لهم.