حسّونة المصباحي: يبرز التّاريخ الثقافي والأدبي في تونس أن جلّ مبدعي تونس، وكتّابها، ومثقّفيها الموهوبين، الذين صنعوا مجد الثقافة التونسيّة ليست لهم شهادات جامعيّة. وحتى وإن كان البعض منهم قد حصل عليها فهو لا يعبأ بها عندما يتعلّق الامر بالابداع والفنّ.&

فابو القاسم الشابي مثلا، هو اشهر شاعر تونسيّ في القرن العشرين، لم يجدّد لغته، واسلوبه، وادوات تفكيره اعتمادا على شيوخ الجامعة الزيتونيين، حيث كان يَدْرُس، بل على مطالعاته الخاصّة في المجلاّت، والكتب القادمة من المشرق العربي، التي ساعدته على التعّرف إلى جبران خليل جبران، وايليا أبو ماضي، وطه حسين، والعقاد، وغيرهم من الذين لعبوا أدوارا أساسيّة في تجديد الثقافة العربيّة في العقود الاولى من القرن العشرين.
&
وبسبب عدم حذقه للغة الفرنسيّة، اعتمد صاحب "أغاني الحياة" على صديقه القيرواني محمد الحليوي، الذي أتاح له فرصة الانفتاح على الثّقافة الغربية، وعلى الشّعراء الرومانسيين الكبار في فرنسا وبريطانيا وألمانيا. فجاءت ثورته الشعريّة التي أغضبت المحافظين من رجال الدين واهل الثقافة، عاكسة للمجهود الجبّار الذي بذله، رغم عمره القصير، لتعميق ثقافته، ورؤيته للشّعر والفنّ.
&
لم يتسلّح الطاهر الحدّاد بأيّ شهادة جامعيّة لكي يكتسب حريّة فكرية نادرة في زمنه. تلك الحريّة التي سمحت له بأن يكتب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، مدافعا عن حريّة المرأة. فما كان من شيوخ جامع الزيتونة الاّ أن "كفّروه"، وحرّضوا عليه العامّة ليقذفوه بالحجارة، ويعتدوا عليه بالضّرب في الأسواق، وفي الاماكن العامة.
&
ونعلم أن جماعة "تحت السّور" الذين أحدثوا ثورة فعليّة في مجال الشعر والنّثر ونمط الحياة الثقافيّة والفنيّة لم يكن حظّهم من التعليم غير الشّهادة الإبتدائيّة او أقلها. وجميعهم طوّروا مواهبهم من خلال الاحتكاك ببسطاء الناس، وبالتجول في الاسواق العامة، وبالسّهر في المقاهي، وفي حانات اليهود والمالطييّن، وفي محال البغاء السريّ. وهذا ما تعكسه قصص وازجال علي الدوعاجي، وصديقه محمد العريبي.
&
وكان شيوخ جامع الزّيتونة يلعنون اؤلئك "الفتيان الفاسقين"، ويطالبون بـ"رجمهم" بسبب حياة التّهتّك التي كانوا يعيشونها، والتي غذّت خيالهم، وإبداعاتهم. أمّا الراحل البشير خريّف فقد حدّثني ذات يوم خريفي غائم وممطر أنه كان عطّارًا، وتاجر حبال في السّوق السّوداء خلال الحرب الكونيّة الثانية. بل إنه فكّر ذات مرّة عندما انسدت أبواب الرزق امامه بأن يعود إلى الجريد، مسقط رأسه، ليعمل مروّضا للأفاعي. وعاد فريد غازي من باريس بشهادة دكتوراه، غير أن الاساتذة الجامعييّن الاخرين ناصبوه العداء بسبب رفضه الإختلاط بهم، مفضّلا عليهم الفنانين والادباء البوهيمييّن، وقارئات الكف والرواة الشّعبييّن. وفي حوار مسهب معه، قال لي محمود المسعدي، صاحب رائعة "حدّث ابو هريرة"، قال..."إنّه استفاد من مطالعاته الخاصّة والمعمّقة لآثار عظماء أدباء الشرق والغرب أكثر مما استفاد من دراسته الجامعيّة في "السوربون".
&
يمكن القول إن غالبية الذين نهضوا بالحركة الادبيّة، والشعريّة منذ الإستقلال وحتى اليوم ليسوا من أصحاب الشهادات الجامعيّة الرفيعة. والجامعيّون أثبتوا قدرتهم في مجال الإبداع لا يفاخرون بشهاداتهم الجامعية مثلما يفعل كثيرون آخرون.
&
سقت هذه الخواطر لكي أطرح قضيّة هيمنة الجامعة التونسية على الثقافة في تونس. وهي هيمنة تتسع يوما بعد آخر لتصبح شبه شاملة. والامثلة على ما ذكرت كثيرة، فالجامعيّون يسيطرون على لجان الجوائز الأدبية، وهم مطلقو الأيدي في منّحها لمن يريدون. وغالبا ما يتمّ ذلك على أساس المحاباة والمجاملة والعلاقات، والمصالح الشخصيّة.
&
وهذا ما تعكسه جائزة "كومار"، وجائزة "أبو القاسم الشابي". والجامعيّون هم الذين يسيّرون المركز الوطني للترجمة. وبين هؤلاء من لا يكاد يعلم شيئا عن الثقافات والاداب الاخرى. ومن بين هؤلاء أيضا من لم تتجاوز ثقافته الدروس التي يكررّها أمام طلبته منذ عقود عدة. ونحن لا نكاد نجد مبدعا واحدا خارج الإطار الجامعيّ في "بيت الحكمة". بل ان البعض من اعضائها ليس في رصيدهم غير كتب هزيلة المحتوى، بحيث لا يقبل احد على قراءتها.
&
ويهيمن الأساتذة &الجامعيّون على الإذاعة الثقافيّة، وفيها يقدمون بشكل مملّ ما يلقونه من محاضرات. وعوضًا من ان يحدث جائزة لتشجيع الباحثين الشبان او الطلبة المتفوقين، قام رئيس جامعة منوبة بتأسيس جائزة مخصصة للاعلاميين، ولا هدف له من خلال ذلك غير شراء الذمم لتلميع صورته، والترويج لكتاباته. وهو ما لم تقدم اية جامعة في العالم على فعله!.
&
ولعلّ تونس هي البلد الوحيد في العالم الذي يمتّع فيه الجامعيّون بمثل هذه الحظوة، مستفيدين من ميزانيّة وزارة الثقافة اكثر من المبدعين وأهل الفن.
&
في المقابل تغلق ابواب الجامعات التونسية امام المبدعين التونسيين فلا يلتقون بالطلبة ابدا، ولا يعرضون كتبهم في مدارجها. وأخيرا كتب صديقي محمد المي مقالا ساخرا اشار فيه الى ان الجامعيين ينظمون ندوات يسمونها "ندوات علمية"، في حين هي غالبًا ما تكون خالية من العلم ومن المعرفة في معناها العميق. وثمة جامعيون متقاعدون منذ زمن طويل، غير انهم لا يزالون يستغلون شهاداتهم للسيطرة على الحياة الثقافية، وتوجيهها بحسب مصالحهم ورغباتهم. ويزداد نفوذ الجامعيين تعاظما بسبب المتزلفين اليهم من اشباه الادباء والشعراء الذين يبحثون عن الاعتراف ليس اعتمادا على مواهبهم وانتاجهم وانما اعتمادا على حسن علاقاتهم مع هؤلاء.
&
&
&