الحركات والمنظّمات والاحزاب القائمة على الاستبداد والعنف لا تفسد فقط الشعوب، وتسمّم حياة الافراد والمجتعات فيها ، بل تشوّه اللغة لتقول الكلمات مايتناقض مع معانيها ومدلولاتها٫وهذا ما حدث مع النازية على سبيل المثال لا الحصر.لذلك حال انهيارها شرع المثقفون والمفكرون الألمان &في "تطهير" لغة غوتة وشيللر وهولدلرين ونيتشة من الشوائب التي علقت بها عندما كان هيتلر قائدا مطلقا للرايخ الثالث ، وغوبلز وزيرا للدعاية يحرق الكتب ، ويطلق حملات قمع مسعورة ضدّ من كانت تلصق بهم تهمة "التفسّخ والإنحلال" في مجال الفن والادب والفكر. وقد ابرز التّاريخ المعاصر تحديدا أن الانظمة الشموليّة بمختلف اشكالها هي اكبر مهدّد للفكر وللغة اذ أن عمل هذه الانظمة لا يقتصر فقط على منع خصومها من حرية التعبير بل تجبرهم على الصمت،او تملي عليهم ما تريد نشره وتمريره من افكار وآراء وأطروحات حتى ولو كانت مضادة لمصالحهم العامة والخاصّة..وهي تلجأ الى كلّ وسائل الرّدع والترهيب لكي تعزل المجتمعات التي تحكمها عن العالم الخارجي بهدف زرع الأوهام والاكاذيب التي تساعدها على البقاء في السلطة لأمد طويل.
وعندنا في تونس ، يحدث راهنا تشويه وإفساد للغة، وترهيب للفكر والمفكرين . ف"النهضة" مثلا لا تعني النهوض بالمجتمع بما يحقق له المزيد من الرقيّ والتقدم والتمدن،بل تفيد عند جماعة حركة "النهضة" الارتداد بالمجتمع الى الوراء ليصبح الماضي مثالا للحاضر والمستقبل ،ولتكون مظاهر الجهل والتخلف والإنحطاط سمات المجتمع. و"النهضة" لدى جماعة حركة النهضة تعني أيضا العمل على تجريد الشعب من قدراته على بناء الدولة الحديثة التي يطمح اليها، والقادرة على أن توفر له الحرية والتقدم والعيش الكريم ،ليتحول الى مجرد قطيع مطيع وذليل .
فالمجتمع التي تسعى حركة النهضة الى بعثه للوجود ،مجتمع مصطنع فيه تعشش الاوهام والاكاذيب، وفيه" يضمحلّ الفرد، ويكفّ عن توهّم أنه انسان حرّ" بحسب تعبير الكاتب البريطاني الكبير جورج أورويل.
و"الثورة" تصبح عند جماعة النهضة والجماعات اليسارية المتطرفة مبررا للفوضى والعنف، ،وتدمير كلّ مظاهر التمدّن ، وترييف المدن، وحثّ العامة والدهماء على التخريب ، وترهيب المواطنين، وترويعهم :وباسم الثورة يزيّف التاريخ، وتطمس الحقائق، ويبسط على الواقع غطاء أسود يمنع من كشف خفاياه وتضاريسه. وهذا ما يعكسه عداء حركة النهضة للزعيم الحبيب بورقيبة على سبيل المثال لا الحصر.فمنذ وصولها الى السلطة وهي تناور و تمارس مختلف أنواع الخداع والتزوير بهدف تقزيم دوره في التاريخ التونسي المعاصر، وتشويه الانجازات المهمة التي تحققت لتونس وللتونسييّن في فترة حكمه.
و"الحق في الكرامة" هو في الحقيقة وسيلة للإستيلاء على المال العام ،ونهب ثروات البلاد ،وتبيض ماض موسوم بالجريمة والعنف ،وتبرئة من كانوا ضالعين ذات يوم في التآمر على الدولة ،وعلى مؤسساتها .
و"الحرية" هي التسيّب ، وتشريع قوانين الغاب.واعتمادا على أنهم كانوا من ضحايا النظام السابق ،تصبح الحريّة مبرّرا لقادة النهضة وانصارها،ومعها اليساريون بأن يفعلوا ما يشاؤون وما يريدون من دون حساب ولا عقاب.
ومن افظع الجرائم التي ترتكب تجاه اللغة هو أن تجبر على تبرير الكذب والنفاق والخداع ،وعلى تلميع صورة واقع بائس ومزر.وقد عوّدنا "الثورجيون" الذين برزوا خلال الخمس سنوات الماضية على أن يقولوا ما لا يفعلون ،وان يستعملوا اللغة لكي تقول ما يتناقض مع واقع الحال.والامثلة على ذلك كثيرة .غير أن واحدا منها يكفينا.فبعد انهيار نظام زين العابدين بن علي، انبرى هؤلاء يبشرون التونسيون بان بلادهم ستكون مثالا يقتدى به في العالم الثالث.بل سوف تتمكن من ان تلتحق بسرعة بالبدان المتقدمة.ومن بين "الثورجيين" من وعد التونسيين ايضا ببناء قنطرة تربط تونس بصقلية.وثمة اخر اوهمهم بانه سيضمن للعاطلين عن العمل منحة شهرية على غرار البلدان الراسمالية الكبيرة .غير أن الواقع سرعان ما أثبت بطلان هذه الوعود الجميلة.وها تونس تصبح في عهد"الثورة المباركة" بحسب تعبير "الثورجيين" من أكثر البلدان في العالم تخلفا ووساخة وتعفنا .فيها انعدم &الإهتمام بأبسط قواعد البيئة ، وفيها تنتتشر الأمراض &والأوبئة بشكل لم يسبق له مثيل.حتى القمل عاد الى الرؤوس بعد أن قضى عليه بورقيبة في العقد الاول من استقلال البلاد.واما العاطلون عن العمل فقد تضاعفت اعدادهم بشكل مفزع خصوصا بعد تعطل الحركة السياحية.وها الفقر يصيب حتى الطبقة المتوسطة التي كانت عماد نظام بن علي فلا ينتفع من "ثورة الكرامة والحرية والعادالة" غير من اتخذوها وسيلة للوصول الى السلطة،والحصول على الثروة ، ومعهم اللصوص الكبار والمافيات والمهربون ومصاصو دماء الفقراء في الاوقات العصيبة والازمات الخانقة
اما الامر الخطير الاخر فيتمثل في مواجهة جماعة النهضة والسلفيون الفكر بسلاح التكفير .وفي كلّ مرّة ينطق فيها خصومهم بفكرة أو برأي يتناقض مع أطروحاتهم ،ويزعزع أركان دوغمائيتهم الأصولية المتطرفة ،يلجأ هؤلاء الى تكفيرهم ،وعليهم يشنون حملات هوجاء في المنابر العامة وفي المساجد.وتحت تأثير مثل هذه الحملات، اغتيل المناضلين شكري بلعيد،ومحمد البراهمي،وأصبح البعض من المناضلين ،والمثقفين،والصحافيين مهددين هم أيضا بالتصفية والإغتيال!ولا يزال جماعة النهضة والسلفيون يترصدون الفرص الفرص ليشهروا من جديد سلاح التكفير في وجه كل الذين يعارضون أطروحاتها .وهم يفعلون ذلك رغم ان النهضة امضت على دستور يقرّ بمدنيّة الدولة،وبحرية التعبير والفكر ضمانا لنجاح الديمقراطية التونسية الناشئة .
وتبيح حرية التعبير للعديد من الوجوه البارزة في الاحزاب "الثورية" الجديدة ان يلجاوا الى العبارات السوقية والمبتذلة للرد على خصومهم،او انتقادهم.ويتم ذلك من اعلى المنابر الاعلامية .واكثر هؤلاء لجوءا الى مثل هذه الاساليب هم جماعة حزب المؤتمر الذي يقوده الرئيس المؤقت السابق محمد المنصف المرزوقي .
وأخيرا &رد احدهم ،وكان وزيرا لاملاك الدولة في فترة حكومة "الترويكا" التي تزعمتها النهضة ، على التصريحات التي ادلى بهاالرئيس الباجي قايد السبسي خلال الزيارة التي اداها الى كل من الكويت والبحرين متضمنة انتقادات مبطنة الى النهضة واليساريين المتطرفين ،قائلا بان "الباجي قايد السبسي لا يصلح ان يكون رئيسا للدولة التونسية بل نادلا في حانة!”...ولله في خلقه شؤون وشؤون!
&