&ظاهرة الإنتحار حرقا أصبحت من الظواهر الخطيرة في تونس منذ أن فعل ذلك محمد بوعزيزي في السابع عشر من شهر ديسمبر(كانون الاول) 2010 مشعلا انتفضات شعبية ادت الى انهيار نظام زين العابدين بن علي في ظرف اسبوعين .وتزداد هذه الظاهرة آستفحالا بسبب تازم الاوضاع ، وانسداد الافاق، وانعدام الامل لدى فئات واسعة ، وخصوصا لدى الشباب. ويمكن القول ان الانتحار حرقا بات الوسيلة الافضل للتعبير عن الاحتجاج والغضب ، والتعبير عن الحيف والظلم ،ورفض التهميش والاقصاء والاهمال. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية اقدم عشرات من الشبان والكهول والنساء من مناطق مختلفة من البلاد على الانتحار حرقا في الاماكن العامة،أو امام مقرات المؤسسات الحكومية .وخلال الاحتجاجات الاخيرة التي هزت تونس في مطلع العام الحالي، عادت ظاهرة الانتحار حرقا للظهور من جديد في منطقتي &القصرين وجندوبة بالشمال الغربي للبلاد.ولعل هدف الذين ارتكبوها لم يكن فقط الاحتجاج على أوضاعهم السيئة، بل الحصول على الشهرة التي اصبح يحظى بها محمد بوعزيزي حيث سميت شوارع وساحات باسمه.اما عائلته فقد استفادت من فعلة ابنها العاق حيث مكنتها الحكومة الكندية من الحصول على اوراق الاقامة في مونريال.واخيرا &شاع خبر يقول بان والدته فتحت مطعما تونسيا هناك.اما شقيقته فقد صرحت بانها تشعر ان الاقامة في كندا هي بمثابة"ولادة جديدة" بالنسبة لها!

وقد احالتني ظاهرة الانتحار حرقا الى البحث في ما ترمز إليه النّار لدى الفلاسفة والشعراء.وبداية ،عليّ أن أشير الى ان الملكة ديدون (تعني المراة الشجاعة) ،او عليسة التي اسست قرطاج عام 814 قبل الميلاد ، لتجعل منها عاصمة للفينيقيين انتحرت حرقا لانها لم تتمكن من الزواج من الامير التي كانت تعشقه لتتحول قصتها الى اسطورة بديعة عند فيرجيل ، شاعر الرومان الاعظم .وكان إنباذقولس الاغريغنتي ، الذي ولد عام492 قبل الميلاد بمدينة أغريغنتا بصقلّيّة ،والتي كانت انذاك واحدة من أهمّ مدن العالم الغريقي . فيلسوفا، وشاعرا، وطبيبا ،ومهندسا ينتمي إلى الطبقة الرستقراطيّة .غير أن ذلك لم يمنعه من أن يكون مدافعا شرسا عن الديمقراطيّة حتى الرّمق الاخير من حياته،وأن يصرف جلّ اهتماماته لخدمة مصالح مدينته ،وكامل جزيرة صقلية.ولإنباذوقلس نظريّة في نشأة الكون تقول بإن هناك قوّتين تتصارعان دائما وأبدا ،وهما الكراهيّة والحب.وهما تتأدّيان بالتّناوب إلى الانفصال و الاتحاد &بين العناصر الاربعة الاساسيّة والتي هي النار والهواء والتراب والماء.وهو يعتقد أن النار تفتن الإنسان لأنها مدمّرة ومطهّرة في نفس الوقت .فهي بإمكانها أن تحرق مدنا وغابات بأكملها .كما أنها تحمي من البرد ،فتنعش الناس في فصول الشّتاء ، وتساعدهم على تحمّل الصّقيع و على مواجهة العواصف. وتكون النار رمزا للتّحوّل والتجّدد.وتقول الاسطورة إن إنباذقلس فضّل في النهاية ان يلقي بنفسه في اللّهيب.ولعلّه فعل ذلك معتقدا أن النار ستمنحه حياة جديدة بعد أن تحوّل جسده إلى رماد.وفي كتابه الشّهير"الجموع والقوّة"،يفرد إلياس كانيتي الحائز على جائزة نوبل للاداب فصلا بديعا عن النّار ورموزها ودلالاتها.وهو يقول بإنّ النّار تنتشر بسرعة فائقة،وألسنة لهبها تتفاعل مع بعضها البعض.ومن جملة ما تتميّز به هو العنف الذي تتعامل به مع الغابات، ومع السّهوب ، ومع مدن بأكملها.وحتى عندما تكون هناك مسافة تفصل بين الأشجار ،أو البنايات،فإنّ النّار تتمكّن من الجمع بينها ملتهمة إيّاها.ويضيف إلياس كانيتي قائلا بإنّ النّار مدمّرة ،غير أنه باستطاعتنا ترويضها ومكافحتها وإطفاء لهبها .والماء عدوّها ألأساسيّ.وفي الاساطير القديمة ،يمكن أن ينتهي العالم بحريق هائل ،أو بطوفان شبيه بطوفان نوح.ورغم الخوف الذي تبثّه النّار في قلوب جموع الناس عند اشتعالها،فإن النار تفتنهم أيضا .وهذا ما كان يحدث مع هنود "النافاهوس" في المكسيك الجديدة.فقد كان هؤلاء يوقدون نارا هائلة وحولها يرقصون من غروب الشمس إلى شروقها من دون آنقطاع.وهم يؤدّون رقصاتهم الوحشيّة شبه عراة ، ملوّحين بعصيّ في رؤوسها الرّيش .وهم يضطرون أحيانا للزّحف على بطونهم للاقتراب أكثر من النّار .كما يحاولون أن يشعلوا الرّيش الذي في رؤوس عصيّهم.وعند طلوع الشمس يرقص هنود"النافاهوس" رقصتهم الاخيرة ملقين على أجسادهم العارية الرّماد والجمر وقد بدأ ينطفئ.ويفسّر إلياس كانيتي طقوسهم هذه
قائلا:”إنّهم - أي هنود "النافاهوس"- يرقصون النّار ذاتها،وهم يصبحون النّار .وحركاتهم شبيهة بلهبها .وما يمسكونه بأيديهم لكي يشتعل ،يمنحهم الشعور بانهم يشتعلون أيضا.”.ويشي كانيتي أن التّاريخ يخبرنا أن هناك مدنا في مناطق من العالم تعرّضت للحصار الطويل.فلمّا تيقّن سكانهاباستحالة &النجاة ،أشعلوا النيران فيها ليموتوا وسط الحريق الهائل.وهذا ما حدث مع سكّان مدينة تالة التونسيّة .فعندما حاصرهم القائد الروماني ميتيلّوس خلال حروبه مع القائد البربري يوغرطة على مدى أربعين يوما ،جمعوا كل ّ ما يملكونه من أشياء ثمينة في قصر المدينة الكبير.ثمّ أقاموا حفلا بهيجا.وبعد ان أكلوا وشربوا وهم يغنّون ويرقصون ،أشعلوا النار في القصر ،وفي منازلهم .فلمّا دخل جيش ميتيلّوس المدينة، لم يجد غير أكوام من الرماد.وفي القرون الوسطى ،كان المتشدّدون المسيحيّون يحرقون أعداءهم لأن النار عندهم ترمز إلى الجحيم الذي هو مأوى الهراطقة والفجّار.ويروي كرابلين قصّة أمرأة في منتصف العمر ،تعيش وحيدة .وكانت مهووسة بإشعال الحرائق منذ طفولتها.وقد حوكمت أكثر من مرّة بسبب ذلك ،وفي النهاية أرسلت الى مصحة للأمراض العقليّة لتمضي فيه عشرين عاما.ومع ذلك ظلّت عاجزة عن السّيطرة على نفسها ،فكلّما رأت عود ثقاب،أستبدّت بها الرّغبة في إشعال النّار.فما كان يفتنها ويستهويها هو رؤية النار .وكان الشّاعر الالماني نوفاليس يرى أن الحبّ شبيه بالنار .وهو يشبّهه بجسدي العاشقين عند التحامهما أثناء الجماع ،وباحتكاك قطعتي خشب يتسبّب في إشعال النّار.لذلك فإن النار تحيل إلى الرّغبات المكبوته. ويجاري الشاعر الالماني آلآخر راينار ماريا ريلكه نوفاليس في رؤيته للنار ،ويقول إنها-أي النار- تشبه النار التي تحرق قلب العاشق المتيّم.والعاشق الحقيقي هو الذي يشتهي أن يموت بنار عشقه.وهذا ما يحيلنا إلى التراث الشّعبي التونسي حيث نجد العاشق يحترق بنظرة واحدة من الحبيبة.وعادة ما يشّبّه العاشق عين الحبيبة بالنّار التي تحرق قلبه،بل جسده كلّه.والعاشق في أغنية شعبيّة مشهورة يقول بإن الحرائق تتوالى من دون ان يتمكّن حريق من إطفاء حريق آخر.ويضيف بأن حرائق عشقه تزداد حدّة من يوم إلى آخر ،غير أنه لن يكون قادرا على إطفائها . ونعلم أن حبيبة مسيكة، المغنيّة اليهودية التونسية فائقة الجمال، أحرقها أحد عشاقها بعد أن ضبطها مع غريم له في فراش الحبّ لأن الحبيبة التي تخون لا تستحقّ غير ذلك العقاب الأليم .وفي كتابه "التّحليل النفسي للنّار"،آهتم الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار(1884-1962)بالنّار ودلالاتها النفسيّة والفلسفية في الاساطير ،وفي أعمال الشعراء والفنّانين.ويشير باشلار إلى أنه فتن بالنّار مذ كان طفلا يقرأ على ضوء الشموع ،والمصابيح في قريته الصّغيرة الكتب التي تروق له ، ويعدّ فروضه المدرسية. وعندما آشتهر كفيلسوف دَرس الاساطير، والاحلام ، والخيال البشريّ من خلال الماء،والنّار،والتراب،،والهواء.وفي كتابه :"التّحليل النفسي للاحلام"،يعود باشلار إلى اسطورة بروميثيوس الذي سرق النّار من الآلهة ليهبها للبشر، فعاقبه "زيّوس" ربّ الرّعد والصّواعق والامطار على فعلته تلك ،وقيّده بالأصفاد &لكي تظلّ النسور تلتهم كبده إلى ما لانهاية.و كانت أسطورة بروموثيوس مصدرا للعديد من الاعمال الشهيرة في مجال ألأدب والفن في الازمنة القديمة والحديثة.ويشير باشلار أيضا إلى انّ النّار تحضر بقوّة في أشعار الرومانسييين،وفي كتاباهم النثريّة. ويكتب قائلا:"النّار والحرارة تمنح وسائل التّفسير في المجالات الأكثر تنوّعا لأنهما بالنسبة لنا فرصة لاستحضار ذكريات لا يمكن ان تمحى من الذاكرة،وتجارب شخصيّة بسيطة ومصيريّة.من هنا يمكن القول إنّ النار ظاهرة متميّزة يمكن ان تفسّر كلّ شيء(...)النّار هي الحيّة دائما،وهي حميميّة وكونيّة.وهي تعيش في قلوبنا،،وتعيش في السّماء.وتصعد من أعماق المادّة،وتهدى كما لو أنها الحبّ.وهي تنزل في المادّة ،وتتخفّى ، وتكْمن مثل الكراهيّة والرّغبة في الإنتقام. ويضيف باشلار قائلا:"قرب النّار علينا أن نجلس،وأن نستريح من دون ان ننام.لا بدّ ان نقبل الحلم الخاصّ موضوعيّا".والنّار بالنسبة لباشلار هي رمز الشيطان ،ولهب جهنّم .كما أنها مطهّرة .فهي تحرق الأعشاب. &اليابسة ،والفضلات التي تطلق روائح كريهة ...