دبابة أميركيةتسير في شوارغ بغداد
لم يكن العقد الذي مر به العراق والذي نودعه هذه الايام كالعقود التي عاشها في تاريخه الحديث وخاصة منذ تأسيس دولته الراهنة عام 1921 حيث شهد زلزالا سياسيا واجتماعيا افرز تداعيات لا مثيل لها على جميع الصعد الحياتية للعراقيين وحيث بدأ بحرب مع الولايات المتحدة وانتهى بالتحالف معها وانتقل من هيمنة الحزب الواحد المتسلط والمنغلق الى انفتاح سياسي وضع اقدامه على بداية رحلة شاقة نحو الديمقراطية مازالت تتعثر بسبب المحاصصة الطائفية والعرقية بكل ما افرزته لحد الان من فوضى ودماء وتطلعات مشروعة نحو مستقبل افضل.

لندن:دشن العراق هذا العقد عام 2000 ونظامه في مواجهة مع تحالف غربي تقوده واشنطن ولندن رفع شعار تخليص العالم من شرور اسلحة دمار شامل يملكها ذلك النظام الذي لم يكن يملكها في تبرير للموقف المضاد له والذي ظل يتبلور في كل مناسبة يرى فيه هذا التحالف مجالا للانتقام بضربات جوية وصاروخية بحرية دمرت على امتداد سنوات بدأت مع دخول العقد الذي سبقه عام 1990 امكانات البلاد وقدراته العسكرية والصناعية ومنشآته المهمة والاساسية في تقديم الخدمات للعراقيين.

بغداد عرفت انفجارات كثيرة في العقد الماضي
وبغض النظر عن مشروعية الموقف الاميركي البريطاني من ذريعة امتلاك النظام السابق ورئيسه صدام حسين لاسلحة الدمار او عدم مشروعيته التي بدأت تتكشف أخيرًا عبر استجوابات لصناع القرار قي بريطانيا مثلا فانها كانت مجرد ذرائع للتخلص من نظام هيمن على مقدرات العراق لثلاثة عقود ونصف العقد ورفع راية العداء لواشنطن ولندن وشن حروبا في المنطقة غيرت الكثير من الوقائع والمفاهيم فيها.

وفي هذه المواجهة بين النظام الذي حكم البلاد بقوة الاجهزة الامنية والمخابراتية وبين زعماء غربيين متعطشين للانتقام فقد ظل الشعب العراقي في خضم هذا الصراع هو الضحية الاول الذي يعاني ضغوط مأساوية هائلة بين رحى حصار اقتصادي قاس اتخذ طابع quot;شرعية دوليةquot; فافقره وكبل امكاناته واعاد به الى عقود التخلف والمعاناة وهجومات جوية صاروخية كلما راق للاقوياء المعادين ان يعتدوا مسلحين بذات quot;الشرعيةquot; التي مكنت من هيمنتهم على العالم الذي يعيش عهد القطب الواحد.

وبدأ العقد ببزوغ معارضة عراقية خارجية واسعة مدعومة ماليا ومعنويا من التحالف الغربي بقيادة واشنطن واجتمعت تحت مظلة quot;المؤتمر الوطني العراقي الموحدquot; ظلت ترفع وتيرة المواجهة مع النظام عبر وسائل اعلامية متعددة وتجمعات اتخذت من اقليم كردستان الخارج عن سيطرة النظام في بغداد منطلقا لنشاطات سياسية وعسكرية نجحت في اقلاق النظام وساعدت على انشقاق العديد من شخصياته العسكرية والمدنية عنه ضربت في عمق هيكلية النظام والعائلة التي تسيطر عليه.

المنطقة الخضراء في وسط بعداد

لكنه وبرغم ذلك لم تستطع هذه المعارضة بتشكيلاتها الواسعة المتنوعة وبعلاقاتها مع الداخل العراقي من زعزعة النظام الذي بنى قوته على اجهزة استخبارية وعسكرية سرعان ماتهاوت غندما قرر quot;العدوquot; الاميركي حسم امر اسقاط النظام عسكريا بعد ان فشلت المعارضة من تحقيق هذا الهدف.

ثم تصاعدت حدة المواجهة دبلوماسيا في الحصول على تخويل اممي باسقاط النظام بالترافق مع ضجة تحشيد الجيوش والاسلحة في الجار الجنوبي الكويت التي كانت معبرا لها الى العراق مطلع عام 2003 والتي مهدت لها واشنطن بقصف جوي من قواعد عسكرية متمركزة في دول قريبة على العراق وصاروخي من قواعد متحركة في المياه المحاذية.

وفي هذه الحرب المستعرة استخدمت الجيوش الاميركية والحليفة لها احدث التقنيات والاسلحة التي تم توصل اليها العلم العسكري والتي واجهها النظام العراقي بجيش متذمر مسلح بمعدات قديمة لم تحدث منذ اكثر من عشر سنوات فكانت المنازلة غير عادلة معنويا وتسليحيا سرعان ماتهاوت نتيجته حصون النظام التي بناها لحمايته وانفق عليها الاكثر من ثروات الشعب العراقي الذي افقرته هذه النفقات الباهظة.

ثم بدأت القوات الغازية تتقدم تدريجيا من جنوب العراق الى عاصمته بغداد مهيئة مواقع قدم لمعارضي النظام الذين دخلوا معها وعقدوا اول مؤتمر لهم في محافظة ذي قار(375 كم حنوب بغداد) قبل ان يسقط النظام الذي فوجيء بعدها بأيام في التاسع من نيسان (ابريل) 2003 والدبابت الاميركية تحتل وسط عاصمته بغداد في مشهد تتضارب مشاعر كل من شاهده بين الغضب من سقوط البلاد في دوامة احتلال جديد بعد عقود من رحيله.

طائرات قوات التحالف تحلق في سماء العراق

وبين امال بعهد جديد وتطلعت لامال بان يطوي فيه العراقيون حقبة اصطبغت بحكم الحزب الواحد والحاكم الواحد لسنين عديدة وبدء فجر من الحريات والامن الذي ينهي حقبة حروب زج فيها النظام شعبه في اتون نيرانها مع كل مانتج عنها من حصار اقتصادي وسياسي ودبلوماسي للبلاد التي ظلت تعاني منه منذ عام 1980 حيت تفجرت الحرب مع ايران ثم تبعتها حرب الكويت عام 1991 مع كل ماجرتهما على العراقيين من مآس وعدم استقرار واضطرابات محلية ومواجهات بين النظام ادت الى مقتل واعتقال الاف من العراقيين وشردت الاف اخرى الى خارجه.

وحين ظهر راس النظام صدام حسين على شاشات التلفزيون مودعا حفنة من المواطنين الذين التفوا حوله في اخر لقطات يظهر فيها زعيما للبلد الذي حكمه على امتداد 24 سنة ادرك العالم ان العراق هذا البلد الغني بابنائه وثرواته وموقعه الاستراتيجي وثقله في المنطقة واشغاله للعالم خاصة خلال الربع قرن الاخير قد دشن مرحلة انقلاب حقيقية في جميع اوضاعه السياسية والامنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقاته مع محيطه والعالم اجمع.. حقبة لم يكن احد يتصور كيف ستكون لعظم التحول وهوله والمتغير العجيب الذي تحقق.

فخلال ساعات من هذا التظور صحى العراقيون على حقيقة احتلال قوات اجنبية لبلدهم وتعيين حاكم اميركي لهم فكان quot;بول بريمرquot; الحاكم الجديد للعراق الذي خلف صدام حسين وسلطته الائتلاف وريثة لهيمنة حكم استمر 35 عاما لحزب البعث وحيث بدأ العراق من جديد خطوة الالف ميل للتخلص من هذا الوضع الذي وجد نفسه فيه على حين غرة.

وبدأت الخطى تتسارع لتغطية الاحتلال بمظلة عراقية فلم يكن على الساحة السياسية الجديدة غير حلفاء الامس القادمين من خارج العراق من قادة المعارضة بكل ارتباطاتهم الخارجية التي تشكلت عبر سنوات طويلة في المنافى ارتبطت خلاله بمؤسسات وسلطات الداعمين من الدول المضيفة والحامية لهم على احتلاف اجنداتهم وتصوراتهم للعراق الجديد والعلاقة التي ستربطهم بحكامه الجدد.
ثم شكل الحاكم المدني الاميركي الجديد بريمر مجلس الحكم العراقي من شخصيات تلك المعارضة الذين تناوبوا على السلطة الرئاسية له شهرا بعد آخر للتأكيد على ان ولاية الحاكم الفرد قد انتهت وحكم الاقلية quot;العائلية او المناطقية او المذهبيةquot; قد ولت ولارجعة لها.. وهكذا كان الهدف المعلن.. لكن الامر راق للاعبين فأسسوا لحكم الطوائف والاعراق الذي قاد العراق لاضطرابات امنية وسياسية واجتماعية خطيرة مازالت البلاد وبعد ست سنوات من التغيير تنوء تحت ثقل تراكماتها وتداعياتها الخطيرة.

جنود أميركيون ينفذون اقتحاما لاحدى المنازل في العراق

وبحل الجيش العراقي ومؤسسات الدولة التي نهبها المنطلقون من قفاص حكم الحرمان تحول العراق الى ساحة لكل الراغبين في الهيمنة على هذا البلد او السيطرة على اوضاعه على اقل تقدير كما استبيحت حدوده التي اصبحت مشرعة بغياب رقابة امنية اختفت ايضا فاختلطت الاوضاع وارتبكت مع تدفق الجماعات المسلحة شرقا وغربا لكل اجندته واهدافه ولكل انصاره وحلفاءه في العراق وليتخذ الصراع منحا طائفيا يبدو انه جاء اثر عدم استيعاب الاخرين للتغير الهائل الذي مكن قوى طائفية بعينها من الهيمنة على مقاليد امور البلاد للمرة الاولى منذ عقود وعقود في محيط يختلف عنها في هذا المنحى.

واتخذ الامر طابع مقاومة quot;المحتلين الكفارquot; مرة الذي رفع شعاره تنظيم القاعدة.. وطابع اشغال الاميركان عن ايران التي تتهدها ضرباتهم مرة ثانية.. ثم مئات الالاف من البعثيين الذين اقصوا عن السلطة التي هيمنوا عليها 35 عاما فشرعت قوانين لعزلهم واقصائهم عن الشؤون العامة من دون تمييز.. فكان الهدف حكام العراق الجدد لكن الضحايا لم يكونوا هم وانما المواطنين البسطاء الذين ظلوا صيدا سهلا للقتل والتشريد الذي تعددت وسائله وغاياته واستمر عدد الساقطين ضحايا من هؤلاء يتراوح بين 24 الفا و7 الاف في كل عام.

كما ادت مخاطر هذه الاوضاع واضطرابها الى الاسراع بتشريع دستور جديد للبلاد والتصويت له شعبيا فجاء يحمل معه ثغرات خطيرة اريد علاجها بتشكيل لجان لذلك لكن عملها ظل يتراوح بين الشد والجذب على امتداد السنوات الاربع التي تلته من دون أي نتيجة وليظل ولحد الآن احد معضلات العراق التي تحتاج لعلاج حقيقي ورغبة اكيدة في التغيير.

ثم تمت احالة اركان النظام السابق الى محاكمات بتهم جرائم ارتكبوها او تسببوا فيها للمواطنين افرزت لحد الان وبرغم تواصلها عن تنفيذ حكم الاعدام بعدد منهم يتقدمهم رأس النظام صدام حسين الذي كانت هذه الخطوة ضربة لاحلام انصاره في العودة الى السلطة من جديد.

ومع محاولات السياسيين الجدد تثبيت اقدامهم من خلال عمليتي انتخابات عامي 2004 و2995 فقد بدأ شكل جديد للنظام يتبلور تخلص فيه من سلطة الحاكم الاميركي وسلطة جديدة تحكم بما افرزته اصوات الناخبين وتوجهاتهم التي لم تكن بعيدة عن تأثيرات طائفية وقومية سعت لتحويلها الى توجهات ثم إلى واقع على الساحة السياسية.

وفي مواجهة نجاح السياسيين في التوافق على شكل النظام الجديد وفق مبدأ لاغالب ولا مغلوب وتقاسم السلطة بين الفرقاء الحاكمين فقد ازدادت توجهات الساعين الى عدم استقرالر البلاد شراسة وبدات ضرباتهم توجه الى اكثر من مكان ولاكثر من هدف كان الاخطر فيها ماحدث مطلع عام 2006 بتفجير مرقد الامامين الشيعيين في سامراء ولتتفجر اثرها حرب طائفية شرسة ادخلت البلاد في اتون صراع طائفي لم تر في خطورته وتهديده لامن البلاد ووحدتها مثيلا منذ قرون من الزمن.

وفعلا تحقق ماكان يريد له الساعون لضرب امن العراق واستقراره في هجرات داخلية وخارجية شملت بتداعياتها اكثر من اربعة ملايين عراقي هجروا من منازلهم ومدنهم مخلفين وراءهم مآسي مازالوا يعانون اثارها برغم التحسن النسبي في اوضاع البلاد وبرغم عودة الالاف منهم الى مناطق سكنهم الاصلية لكن الجراح مازالت غائرة برغم محاولات الصفح والنسيان التي لابد منها.

وبالترافق مع هذا ظل النظام الجديد ومنذ اربع سنوات مضت يتشكل وفق محاصصة طائفية بغيضة لم تستطع البلاد التخلص منها بسبب تمسك السياسيين بها واقعيا والاعلان عن رفضهم لها دعائيا.. وبهذا فان نظام المحاصصة حل ليخلف نظام الدكتاتورية الراحل ولتتشكل مخاطر على البلاد حاضرا ومستقبلا لاتقل عن مخاطر تلك الدكتاتورية.

فلم يبق للاخلاص والقدرة والكفاءة والاختصاص مكان لم تزحه المحاصصة التي اعترف بمضارها الحكام الجدد الذين يلقون عليها كل الاخطاء المرتكبة والضعف الحاصل في اوضاع البلاد وارباكاتها.. ولكن من دون اتخاذ خطوة نحو التخلص منها عمليا.

فكان من الأثار الاخرى لهذه المحاصصة تفشي الفساد المالي والاداري الذي ضرب كل الخطط الموضوعة للاصلاح الاقتصادي والخدماتي وظلت ثروات البلاد نهبا لمن ركبوا موجة النظام الجديد واحزابه وقواه وليصبح العراق ثالث اكبر دول العالم التي تعاني هذا الفساد الذي لم تستطع الدولة القضاء عليه نظرا لان المتورطين فيه هم من ضمن حلقات النظام الجديد وقواه الحاكمة.

وبسسب ذلك مازال العراقيون ومنذ ست سنوات مضت يعانون من فقدان للخدمات الاساسية الضروررية لحياتهم اليومية التي تحولت الى مصاعب ومتاعب دفعت بالكثيرين منهم بالافصاح عن حنينهم الى حقبة النظام السابق الذي كان يوفر لهم هذه الخدمات على الاقل.

ووسط كل هذا ظل المواطن العراق كالعادة هو الضحية وحيث الوظائف والمكتسبات حكر لاعضاء هذا الحزب ولانصار ذلك التيار فتحولت مصالح الحزب الواحد الراحل الى مصالح احزاب متعددة حاكمة.. والعراقي المخلص المستقل هو الضحية. ويرغم كل هذه التداعيات واثر اتساع التذمر الشعبي فقد لجأت بعض القوى الى الخروج باستحياء من عباءاتها الطائفية والعرقية وحاولت تنويع تحالفاتها للانتخابات المنتظرة في اذار (مارس) المقبل بقوى وتوجهات متعددة الطوائف والعرقيات لكنها تظل اقل من المطلوب كثيرا واضعف مما تستدعيه ظروف البلاد ايضا.

الرئيس الأميركي جورج يجتمع مع المسؤولين العراقيين وشيوخ العشائر عام 2009

وبالترافق مع هذا فان الدولة العراقية بدأت تتشكل على اسس جديدة ومؤسسات مختلفة مع جهود بناء قوات البلاد العسكرية والامنية بعيدا عن الولاءات الضيقة التي نخرت جسدها لدى المباشرة بتشكيلها مع بدايات عام 2004 ولتفرض سيطرتها وقدرتها على الاوضاع الامنية التي بدأت تتحسن برغم الثغرات والاختراقات التي مازالت تعاني منها.

لكن هذا تم وفق اتفاقات امنية مع المحتل القديم انسحبت بموجبه جميع القوات الغازية عدا الاميركية التي ستظل متمركزة في قواعد لها للتدخل في حال هددت مخاطر النظام الجديد وليتحول العدو القديم الى حليف عسكري قوي وشريك في التعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي.

وبأنتظار الانتخابات التشريعية التي يقترب موعدها وحيث العراقيون على موعد معها في اذار المقبل فأن الامال تتطلع لنتائج تساعد على اخراج العراق من اوضاعه الصعبة الحالية او على الاقل البدء بالتخلص منها وان كان الشك يلف هذه الامال لان البناء قام خلال السنوات الاربع الماضية على اسس خاطئة في بناء وتشييد الدولة الجديدة التي ستحتاج لسنوات عديدة اخرى اذا كانت الرغبات مخلصة للخروج منها.. وان كان هذا الامر لايبدو ظاهرا في الوقت الحاضر على الاقل.