لم يعرف الفلسطينيون عقدًا أكثر إضطرابًا ودموية من العقد الذي يطوي سنواته مودعاً، ولا تشابه في quot;سنوات الدماءquot; إلا مع حروب مضت عامي 1948، 1967، إذ شهد العقد الماضي جملة أزمات وصراعات ما زالت تلقي بظلالها الثقيلة على الوضع الفلسطيني الداخلي بل والاقليمي والدولي أيضًا. ويجد الفلسطينيون أنفسهم يطرقون باب عامهم الجديد من العقد التالي من الالفية الثانية، بيدين اثنتين، إحداهما من قطاع غزة والثانية من الضفة الغربية، فلم تعد هناك يد فلسطينية واحدة، بعدما انقسمت دولة فلسطين المنتظرة حتى قبل ان تولد، إلى شطرين، كل منهما يقوده منهج سياسي يؤمن القائمون عليه بأنه الطريق المثلى لاسترداد حقوق الفلسطينيين الضائعة بين طيات الزمن.

رام الله: لقد عرفت الأراضي الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة الكثير من التطورات والاحداث والتي بمجملها تحمل الطابع الدموي والمأسوي، ما زاد من تعقيد المشهد ورفع منسوب تفشي حالة اليأس في صفوف المواطنين، الذين كلما خرجوا من quot;ورطةquot; دخلوا في اخرى أكثر صعوبة ومأزومية. وسنحاول هنا استعراض أبرز ما شهدته الضفة الغربية وقطاع غزة خلال العقد الذي نقف على عتبات وداعه.

quot;الأرض اختمرتquot;

شارون خلال زيارته لباحات المسجد الأقصى التي أدت لنشوب الانتفاضة الثانية

والى ذلك صرفت المواجهة بين اسرائيل وحماس، التي تصاعدت في اواخر تلك السنة، الانتباه عن المسيرة السياسية، إذ شنت إسرائيل في يوم 27 كانون الاول 2008 حربا مفاجئة على قطاع غزة، عرفت باسم quot;الرصاص المصهورquot;، وبدأت بهجوم جوي واسع قتل خلاله العشرات من الفلسطينيين، وبخاصة رجال الأمن التابعين لحماس، ولم تنته الحرب إلا عند حصيلة زادت عن 1500 قتيل وآلاف الجرحى.

قبل نحو شهرين، (28 ايلول/ سبتمبر) كان الفلسطينيون على موعد مع الذكرى العاشرة على نشوب الانتفاضة الثانية، التي بدأت حينما دخل رئيس المعارضة الإسرائيلية آنذاك آرييل شارون باحات المسجد الأقصى، وكانت حينها الأرض قد اختمرت تماماً لا سيما بعد فشل محادثات كامب ديفيد بين الجانبين.

لقد تصاعدت أحداث العنف، وقتل الالاف من الفلسطينيين والمئات من الإسرائيليين في هذه المواجهة الدموية، وهدمت الجزء الأكبر من البنى التحتية للمؤسسات والاقتصاد الفلسطيني، وأقدمت إسرائيل على حصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2001، وارتفعت الأصوات الإسرائيلية المطالبة بطرده أو تصفيته.

وفي 29 آذار 2002: غداة عملية عسكرية نفذتها منظمات فلسطينية، وختام القمة العربية في بيروت التي حُرم عرفات من حضورها، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي أوسع هجوم له في الضفة الغربية منذ حزيران 1967 ودمر الجزء الاكبر من مقر عرفات الذي بقي في المبنى الذي يضم مكاتبه تطوقه الدبابات الإسرائيلية. وتدخلت مصر مطالبة الأمم المتحدة بضرورة التدخل، ولكن عرفات بقي محاصراً حتى ليلة الثاني من أيار 2002 حيث رفع الحصار عنه، وكان سبق ذلك اعادة احتلال إسرائيل لمدن الضفة الغربية وفق ما أطلق عليه إسرائيلياً باسم quot;عملية السور الواقيquot;.

في تموز/يوليو 2003 تم التوصل إلى هدنة موقتة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد جهود مضنية قادتها مصر. حيث عين محمود عباس بتاريخ 29/4/2003 كأول رئيس وزراء فلسطيني، والذي نجح بدوره إلى تهدئه الأجواء قليلاً استعداداً للعودة لطاولة المفاوضات. لكن الأمور لم تذهب نحو الأفضل، بل واجهت حكومة عباس الكثير من الصعاب، واضطرت إلى تقديم استقالتها بتاريخ 6/9/2003، وهي لم تكمل الثلاثة أشهر.

quot;إسرائيل تنفصل، وعرفات يرحلquot;

الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات

فشلت جهود العودة لمباحثات السلام، وبدأ آرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في العام 2003، يتحدث عن خطة الفصل الأحادي الجانب، المعروفة باسم quot;فك الارتباطquot;، وتم العودة لحصار عرفات مجدداً، وصادق الكنيست على خطة الانسحاب، قبل يوم واحد من تدهور صحة عرفات، ونقله، بعد يومين، تقريبا، إلى باريس حيث حاول الأطباء تحسين وضعه الصحي وإنقاذ حياته في مستشفى بيرسي العسكري، وفي الساعة الرابعة والنصف من فجر الخميس الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 .أعلن المستشفى الفرنسي وفاة (أبو عمار)، عن عمر يناهز 75 عاما.

بعد هذه المرحلة، انتخب الفلسطينيون محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للسلطة الفلسطينية، ونجح الأخير في إقناع حركة quot;حماسquot; بالموافقة على هدنة مع إسرائيل، وهو ما تحقق بالفعل في آذار/مارس 2005، ولم تكد تمر أشهر قليلة حتى بدأ شارون في تنفيذ مخطط الإنسحاب احادي الجانب من غزة، وهو ما بدأ بالفعل بتاريخ 15/8/2005، حيث قامت إسرائيل بإخلاء جميع المستوطنات من قطاع غزة، ولكن ذلك لم يؤد إلى إنهاء العنف المتدحرج.

في بداية عام 2006، وتحديداً بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير، كان الفلسطينيون على موعد مع تطور جديد، تمثل في صعود حركة حماس لسدة الحكم، عبر بوابة المجلس التشريعي الذي حصلت على 74 مقعداً من مقاعده البالغ عددها 132 مقعداً، لقد شكل هذا الحدث صدمة لحركة quot;فتحquot; وللعالم أجمع. إذ عبّرت نتائج الانتخابات للسلطة التشريعية عن تكون اتجاهين مؤتلفين، لُحظا في ايام الانتفاضة الفلسطينية الاولى ونضجا في اثناء الثانية.

والتحول الدراماتيكي السابق، وبعيدا عن انعكاساته والتي اهمها تعزيز حالة الخلاف في البرامج السياسية والتوجهات بين حركتي فتح وحماس، إلا أنه مكن الحركة الأخيرة - منفردة- من تشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة، رفضت هذه الحكومة الاعتراف في إسرائيل أو حتى الاتفاقات التي وقعتها السلطة الوطنية معها، ما أزم الموقف ايضا مع تل أبيب، وقاد لاحقاً إلى حصار دولي ضرب على حركة حماس وحكومتها بهدف دفعها إلى القبول بعملية السلام.

ادى هذا الوضع إلى استمرار المناوشات بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وبخاصة في قطاع غزة، حيث كانت المنظمات هناك طورت صواريخ محلية الصنع باتت تطلقها على المستوطنات الإسرائيلية القريبة من القطاع، ولكن الحدث الابرز، تمثل بقيام حركة quot;حماسquot; بأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت من خلال عملية نوعية، ووقع ذلك فجر 25 يونيو/ حزيران 2006.

ردت إسرائيل على ذلك بهجوم واسع ضد قطاع غزة، قتل خلاله ما لا يقل عن 500 فلسطيني، وكان له ليستمر لولا إنشغال إسرائيل بالجبهة اللبنانية التي اشتعلت بعد قيام حزب الله بخطف جنديين من عربتهم على الحدود، ما أدى لإندلاع حرب لبنان الثانية. وعلى العموم بين التاسع والعشرين من ايلول 2000 والواحد والثلاثين من تشرين الاول 2007 قتل الجيش الإسرائيلي 4.304 فلسطينيين، بينما قتل الفلسطينيون 1027 إسرائيليا

الساحة الفلسطينية: صراع في جبهتين

أحد مظاهر التوتر الذي اندلع بين حماس وفتح

اللقاءات التي شهدتها مدينة القدس بشكل مكثف خلال السنوات الماضية بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والقادة الإسرائيليين، إنتهت في آذار / مارس العام 2009، مع صعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سدة حكم، فتوقفت مفاوضات السلام، بعد رفض إسرائيل تجميد البناء في المستوطنات. فيما أصر الفلسطينيون على شروطهم، متسلحين بدعم أميركي مصدره تسلم باراك أوباما مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، والذي دعا إلى ضرورة وقف الاستيطان، إلا أن البيت الأبيض عاد وغير من شروطه وخفف ضغوطه على إسرائيل لاستئناف العملية السلمية، ذلك كله دفع الرئيس الفلسطيني لإتخاذ قراره بعدم الترشح لفترة رئاسية ثانية.

تلك هي فلسطين في عشر سنوات مضت، دماء وإنقسام وتمزيق لما تبقى من وطن، وما يخشاه الفلسطينيون هو استمرار quot;مسلسل الحروب والدماءquot; دون الوصول حتى خلال العقد القادم إلى quot;دولتهم المستقلةquot; لتبقي تفاصيل المستقبل غامضة كحال عقود مضت.

مع الوقت اخذت الأمور تتعقد على الساحة الفلسطينية سواء أكان ذلك في علاقتها مع إسرائيل أم بين حركاتها الوطنية، إذ باتت وتيرة المناوشات الإعلامية بين حركتي فتح وحماس وما تحمله من لغة تخوين بارزة على نحو جلي، ما ساعد على إنطلاق أول شرارة للاقتتال الداخلي الفلسطيني بتاريخ 1/10/2006، وسمي هذا التاريخ بيوم quot;الأحد الأسود أو الداميquot;.

حيث وقعت اشتباكات في قطاع غزة بين عناصر من القوة التنفيذية التي أسستها حركة quot;حماسquot; أثناء تشكيلها للحكومة العاشرة، وعناصر من الأجهزة الأمنية التابعة لحركة quot;فتحquot; حيث راح ضحيتها 13 فلسطينيا وأكثر من 100 جريح.

وفي إطار جدل دبلوماسي اقليمي، طرح في عام 2007، على جدول الاعمال، موضوع إنهاء الخلاف الفلسطيني، قادت السعودية هذا الاجراء، ووقعت حركتا فتح وحماس اتفاق مكة الذي يضمن تشكيل حكومة وحدة فلسطينية أدت اليمين الدستورية في السابع عشر من اذار/مارس 2007.

لكن البرنامج السياسي لهذه الحكومة لم يشتمل على الاعتراف الصريح في إسرائيل أو الاتفاقات السابقة الموقعة معها. كذلك لم تؤدِ حكومة الوحدة عملها بالشكل المطلوب بسبب الاختلاف بين فتح وحماس على تقاسم الصلاحيات في مؤسسات السلطة الفلسطينية.

وذلك بموازاة تصاعد في درجة التحريض والاحتقان في صحافتي (فتح وحماس) ما مهد لإيجاد أرضية خصبة كانت مقدمة لوقوع اشتباكات أشد عنفًا بين الحركتين، انتهت بتاريخ 14/6/2007 عندما أحكمت quot;حماسquot; سيطرتها على قطاع غزة. الأمر الذي أدى إلى حدوث انفصال مادي وقطيعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإقالة الرئيس عباس لحكومة حماس، وتشكيله لحكومة بديلة بقيادة سلام فياض.

هذا الوضع أسس لمرحلة ساخنة في الخطاب الإعلامي أشبه بمرحلة عداء بين اكبر فصيلين فلسطينيين، وبات العالم يعتاد بمرور الوقت على سماع مصطلحات جديدة يتبادلها الطرفان في وسائل الإعلام، مثل: quot;الانقلابيين والخونة والزمرة الفاسدة، والأنجاس واللحدينquot;، وغيرها من الكلمات ذات الطابع الاستفزازي المحرض. إن سيطرة حماس على قطاع غزة عسكرياً قادت لتشديد الحصار المفروض على القطاع، وأدت إلى إنشغال حركة فتح في الضفة بإعادة نفسها، والإتكال مرة أخرى على العملية السلمية لإنهاء الصراع مع إسرائيل، وتحت رعاية أميركية عقد في تشرين الثاني 2007 مؤتمر انابوليس.

كان المؤتمر يرمي إلى دفع اتفاق مبادئ بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي حتى نهاية عام 2008، لكن بفعل الخلاف العميق على القضايا الجوهرية لم تتمكن المباحثات من التقدم، وبخاصة أن الإدارة الأميركية كانت في ذاك العام quot;بطة عرجاءquot; كون ايامها في الحكم كانت معدودة مع قرب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.

والى ذلك صرفت المواجهة بين اسرائيل وحماس، التي تصاعدت في اواخر تلك السنة، الانتباه عن المسيرة السياسية، إذ شنت إسرائيل في يوم 27 كانون الاول 2008 حربا مفاجئة على قطاع غزة، عرفت باسم quot;الرصاص المصهورquot;، وبدأت بهجوم جوي واسع قتل خلاله العشرات من الفلسطينيين، وبخاصة رجال الأمن التابعين لحماس، ولم تنتهي الحرب إلا عند حصيلة زادت عن 1500 قتيل وآلاف الجرحى.

اللقاءات التي شهدتها مدينة القدس بشكل مكثف خلال السنوات الماضية بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والقادة الإسرائيليين، إنتهت في آذار / مارس العام 2009، مع صعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سدة حكم، فتوقفت مفاوضات السلام، بعد رفض إسرائيل تجميد البناء في المستوطنات. فيما أصر الفلسطينيون على شروطهم، متسلحين بدعم أميركي مصدره تسلم باراك أوباما مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، والذي دعا لضرورة وقف الاستيطان، إلا أن البيت الأبيض عاد وغير من شروطه وخفف ضغوطه على إسرائيل لاستئناف العملية السلمية، ذلك كله دفع الرئيس الفلسطيني لإتخاذ قراره بعدم الترشح لفترة رئاسية ثانية.

تلك هي فلسطين في عشر سنوات مضت، دماء وإنقسام وتمزيق لما تبقى من وطن، وما يخشاه الفلسطينيون هو استمرار quot;مسلسل الحروب والدماءquot; دون الوصول حتى خلال العقد القادم إلى quot;دولتهم المستقلةquot; لتبقي تفاصيل المستقبل غامضة كحال عقود مضت.