عمر عزيمان

يعد عمر عزيمان الذي اختاره العاهل المغربي الملك محمد السادس، مساء الأحد الماضي، رئيسًا للجنة الاستشارية الموكّل إليها إعداد تصوّر لنظام الجهوية المزمع تطبيقه في البلاد مستقبلاً، أحد الوزراء القلائل الذين احتفظ بهم رئيس الوزراء الأسبق،عبد الرحمن اليوسفي، في حكومة التناوب التوافقي، التي شكلها في ربيع 1998، تتويجًا للتصالح التاريخي بين المعارضة القديمة والعاهل الراحل الملك الحسن الثاني.

الرباط: لما سئل رئيس الوزراء الأسبق،عبد الرحمن اليوسفي، وهو يساري، خلال حديث صحافي خص به هيئة الإذاعة البريطانية، عن الأسباب التي جعلته يتخلى عن حقيبة العدل، وهو منصب سيادي بامتياز، وأساس الملك، كما يقال. أجاب اليوسفي، بما معناه: quot;لو لم يتم اختيارالملك الحسن الثاني، عزيمان، للمنصب ذاته، لضمنت اسمه في القائمة التي عرضتها على جلالتهquot;.

وقبل هذا التصريح الشهادة، قام اليوسفي، وهو انذاك أمين عام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض، بخطوة غير مسبوقة في التقاليد السياسية المغربية، إذ زار الوزير عزيمان، في مكتبه بوزارة العدل، ما فهم في حينه أنه دعم لمخطط الإصلاح الذي باشره بحماسة الوزير المشرف على قطاع العدل، دون أن يؤتي كل النتائج المأمولة، فقد اصطدم عزيمان، بواقع عصي، لم ينجح السابقون واللاحقون، الحزبيون والمستقلون، في تغييره.

ومن المؤكد أن اليوسفي، كان واعيًا بمغزى الالتفاتة الإنسانية التي خص بها الوزير عزيمان، فالمشهور عن هذا الأخير أنه ذو سيرة وسيرة نقية بيضاء، لا غبار عليها، بل كان محسوبًا على المعارضة، متعاطفًا مع حزب الاتحاد الاشتراكي، فضلاً عن أنه أستاذ ذو سجل أكاديمي حافل بالمنجزات على صعيد البحث العلمي في مجال القانون التجاري الدولي الذي تخصص فيه. لفت عزيمان، أنظار السلطة العليا في البلاد، بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، خاصة بعد انتخابه لفترة وجيزة رئيسًا للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان.

وبتلك الصفة كان مثيرًا للانتباه، أن يدعوه الملك الحسن الثاني إلى مرافقته في إحدى زيارته الأخيرة للجزائر، ما فسح المجال لاحقًا لكي يصبح الناشط الحقوقي quot;عزيمانquot; رويدًا رويدًا، قريبًا من مربع السلطة التي بدأت تتفهم المطالب الحقوقية.

ويروى في هذا الصدد أن وزير الداخلية الراحل ادريس البصري، هو الذي أقنع الملك الحسن الثاني، بالصيد الثمين الذي عثرعليه في كلية الحقوق بالرباط،، حيث تقاسم الرجلان، البصري وعزيمان، مهنة الأستاذية في الكلية التي كانت مرتعًا لأفكار اليسار في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ومن هيئة التدريس بها، استقطب البصري بعض العناصر التي أصبحت نافذة في عهده.

وحينما أراد الملك الحسن الثاني، أن يقطع بأسلوبه وطريقته مع ما يسمىquot; سنوات الرصاصquot; وإماطة اللثام عن الفترات المعتمة في تاريخ المغرب الحديث، لم يجد مرشحًا أفضل من عزيمان، فعينه أول وزير لحقوق الإنسان، ما اعتبر في حينه دليلاً على رغبة الملك الراحل الصادقة في الانفتاح والقطع مع تركة الماضي الذي جر عليه متاعب شتى في الداخل والخارج، مصدرها الهيئات الحقوقية التي درجت على اتهام نظامه بخرق حقوق الإنسان، والتضييق على الحريات الفردية والاستبداد السياسي؛ وكلها تهم مبالغ فيها، ولكن ملفات من قبيل معتقل quot;تازمامارتquot; السري، أضعفت موقف الملك الراحل في الدفاع عن نفسه وتبرئة عهده.

اعتقد عزيمان، وقد صار وزيرًا للعدل، من 1997 إلى 2002، أنه سيكمل العمل الذي بدأه في وزارة حقوق الإنسان، مدعومًا بغطاء سياسي جديد، وفرته حكومة التناوب، وشخصية اليوسفي الوازنة في الفضاء الحقوقي الوطني والدولي. يصعب القول إنه فشل أو نجح في إصلاح منظومة العدل، وربما يكمن خطأه في أنه وجه بعض النقد واللوم لمن هم فوق النقد والمحاسبة أي القضاة، فثار عليه بعضهم. لم يجد من يحميه من غضبتهم غير الملك الحسن الثاني، لأنه كان موقفنا أن وزيره لا يريد إلا الإصلاح الذي يتوخاه الملك في قرارة نفسه.

لم يمكث، عزيمان في الظل كثيرًا، فبعد انتهاء ولاية حكومة اليوسفي، نادى عليه الملك محمد السادس وأعاده إلى الواجهة الحقوقية في ديسمبر( كانون الاول) 2002 باختياره رئيسًا للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الهيأة التي أشرفت على تدبير الملف الحقوقي، برعاية من الملك الراحل والملك الحالي، بتوازن مع مطالب الفاعلين في الميدان ومقتضيات السلطة.

لم تعد الحاجة إلى خدمات عزيمان في الداخل، فقد أتاح العهد الجديد في المغرب، الفرصة لظهور ناشطين وفاعلين حقوقيين، أعربوا بأشكال مختلفة عن رغبتهم في الانخراط في ورش الإصلاح التي يقودها الملك الشاب. هكذا خلف، معتقل يساري سابق هو المرحوم ادريس بنزكري، عزيمان، في رئاسة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ليدخل هذا الاخير تجربة العمل الدبلوماسي، سفيرًا لبلاده في مدريد منذ يونيو (حزيران) 2004 إلى الآن.

كان تعيينه في إسبانيا، رسالة إلى هذه الأخيرة من قبل العاهل المغربي، بعد أن توترت العلاقات بين الجارين. وتزامنت سفارة عزيمان مع عودة الاشتراكيين الإسبان إلى السلطة، الذين قدروا حسن اختيار ملك المغرب لممثل له في إسبانيا، يتمتع بأفضل الخصال، عدا أنه من مواليد مدينة تطوان (1947)، وهي حينئذ العاصمة الإدارية للحماية الإسبانية على شمال المغرب.

لم يكن السفير عزيمان غريبًا على الأوساط الفكرية والمحافل الأكاديمية في إسبانيا،بدليل أنه اختير في مارس (آذار)2007 عضوًا شرفيًا بمؤسسةquot; كارلوس الثالثquot; تقديرًا لمساهماته في مجال التفاهم بين إسبانيا وبلاده، وقبل ذلك بسنة، تسلم عزيمان، جائزة المنظمة الإسبانية quot;منتدى الأطر العلياquot; التي يتولى رئاستها الشرفية ملك إسبانيا خوان كارلوس، ويضم quot;المنتدىquot; حوالى 650 شخصية مؤثرة في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والأديان.

وقد يكون من سوء حظ السفير عزيمان أن لمعانه الأكاديمي، لا يساعده على النجاح دائمًا بمثل ما يريده في المجال العملي، فخلال وجوده في مدريد، اندلعت أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين الجارين،لا تقل خطورة عن الأزمة السابقة في صيف 2002 حين عاودت إسبانيا احتلال جزيرة quot; ليلىquot; الصخرية المهجورة. هذه المرة، مس النظام الإسباني، كرامة المغاربة في الصميم، حينما قام الملك خوان كارلوس وعقيلته، بزيارة غير مسبوقة إلى مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين اللتين يطالب المغرب باستعادتهما سلميا، لإضفاء الطابع الاستعماري الدائم عليهما.

استدعى المغرب سفيره عزيمان، الذي ظل أكثر من شهرين ينتظر في العاصمة الرباط انقشاع غيوم الأزمة بين البلدين الجارين ليعود إلى منصبه. اختيار العاهل المغربي له، ليشرف على إعداد تصور لنظام الجهوية في البلاد، في غضون ستة أشهر، موفق بأكثر من معنى، فهو رجل الحوار الهادئ والانكباب على الملفات الدقيقة، كما أنه سينجز المهمة الموكولة إليه مستعينا بنخبة من المفكرين المرموقين وبشخصيات وفعاليات من عالم الاقتصاد والمال والإدارة الحكومية، تجمع أغلبهم الرغبة في تطويرهياكل البلاد من منظور حديث، يوازن بين عراقة الماضي واستشراف المستقبل.

وبما أن طبيعة المهام الجديدة فكرية وأكاديمة في إطار التنظير والابتكار السياسي، فإن الفريق الذي يقوده عزيمان، مؤهل لإنجاز العمل على أحسن ما يرام. والجدير بالتذكير هنا أن قائمة أعضاء المجلس الاستشاري للجهوية، لا تضم أسماء يمكن أن تمثل عرقلة لما يريده الملك محمد السادس من أرضية فكرية خلاقة، تكون قاعدة لانطلاق بلاده نحو آفاق أرحب، ميزتها العقلانية والواقعية السياسية بما تعنيه من إصلاح المشهد المؤسساتي والدستوري والمجالي.