كشف خبراء ومحللون حاورتهم quot;إيلاف من الجزائرquot; عن الأسباب العميقة التي تقف وراء فشل مشروع الاتحاد من اجل المتوسّط الذي تقدّم به الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كصيغة للشراكة والاندماج بين دول شمال المتوسط وجنوبه. وتوقع الخبراء أن يستمرّ تعثر الاتحاد لسنوات طويلة.

الجزائر: عرف مشروع الاتحاد من اجل المتوسط تعثرا في بداية انطلاقته، ظهر من خلال جملة من المؤشرات التي أكدت احتمال فشله، في خضم العراقيل التي كانت ولا تزال العازل بين الطرفين العربي والغربي، خاصة بعد نشوب خلافات بين دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط حول قضايا مصيرية يؤجل الاتفاق حولها - حسب خبراء استضافتهم quot;إيلافquot;- نجاح مشروع ساركوزي إلى أجل ليس بالقريب.

وتظهر بوادر فشل الاتحاد من اجل المتوسّط بعد فشل العديد من مشاريع الاندماج بين دول ضفتي المتوسط، أين تسعى دول الشمال من خلالها إلى إعادة مجدها الضائع ومستعمراتها التي ترى ضرورة العودة إليها، مدعية رعايتها للاتحاد في الوقت الذي يظهر فيه الانفراد بالقرار تارة و توزيع الأدوار بين دول الشمال تارة أخرى.

و لعلّ ما يعزز فرضية فشل مشروع ساركوزي، جملة من المعطيات السابقة التي ستقف حتما ضد إمكانية تحقيقه مستقبلا، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالماضي التاريخي ومخلفات الاستعمار وعدة معوقات أخرى كالصيغة التنافسية بين الدول الأعضاء، عوض المسعى التكاملي، ناهيك عن التباين والتناقضات الحاصلة بين دول الجنوب في مختلف الميادين.

حرق للمراحل وقفزة في الهواء

يرى عمار جفال الخبير الاستراتيجي ومدير معهد العلاقات الدولية في الجزائر في لقاء مع quot;إيلافquot; أن فشل مشروع الاتحاد من اجل المتوسط يعود إلى عدة أسباب، أبرزها تجاوز التمهيد كونه يشكل أرضية ضرورية لأي مشروع كان لضمان الانتقال إلى مستويات أخرى، انطلاقا من تطوير التعاون في مختلف المجالات (اقتصاد، تواصل ثقافي، علمي..) بالإضافة إلى انطلاق مشروع ساركوزي بشكل جماعي، في الوقت الذي أثبتت فيه تجارب التعاون الإقليمي السابقة أنها بدأت بنواة محدودة شكلت نقطة استقطاب قوية، وتتوسع لتشمل دولا أخرى كلما أتاحت الفرصة ذلك.

الخبير الاستراتيجي ومدير معهد العلاقات الدولية بالجزائر عمار جفال

ويؤكد عمار جفال أن تجربة هذا الاتحاد تعد قفزة في الهواء، بعد حرقه كثيرًا من المراحل، عوض أن تكون الانطلاقة من أرضية صلبة سبق التمهيد لها، كما أن المشروع أخذ بالجانب السياسي كأول نقطة.
وهو ما ترفضه دول الجنوب، معتبرة الملف السياسي تدخلا في شؤونها الداخلية داعية إلى دعم الجانب الاقتصادي التنموي الذي تجاهلته دول الشمال، التي تطرح قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية ضمن أولويات قضاياها المستعجلة حفاظا على مصالحها.
غير أن هذا ـ يضيف محدثنا ـ لا يمنع فتح باب النقاش بين الطرفين ومعالجة مختلف القضايا المطروحة في إشارة منه إلى أن هذه النقاط من مصلحة دول الجنوب التي يجب أن تقتدي بالآخرين في كيفية خدمة مصالحها والدفاع عنها.

مصالح متباينة

واستبعد من جهته خير الدين العايب الخبير الجزائري في الشؤون الإستراتيجية في مقابلة مع quot;إيلافquot; نجاح أو تقدم مشروع ساركوزي نظرا لتباين مواقف دول شمال حوض المتوسط (فرنسا، ايطاليا واسبانيا) خاصة مع رغبة هذه الدول الثلاث في تعزيز مكانتها ومصالحها الإستراتيجية في مستعمراتها السابقة وهذا على حساب مصالح دول المنطقة.

وهي النظرة الضيقة - حسب الدكتور العايب - التي تفطنت لها دول الجنوب في مؤتمر برشلونة عام 1995، بعد إعلان الدول الثلاث عن عزمها إنشاء قوة عسكرية أوروبية تشرف على أمن حوض المتوسط من دون إشراك القوى الدولية الخارجة عن الحوض خاصة الولايات المتحدة الأميركية، في الوقت الذي كانت فيه دول الجنوب تطالب بأن تكون المسائل الاقتصادية والعلاقات التجارية أساس الفضاء المتوسطي، بهدف أن يساهم مشروع الاتحاد في دعم اقتصادها المتعثر والحصول على سيولة مالية من البنك الأوروبي للاستثمار لتحريك مشاريعها الراكدة.

و يضيف خير الدين العايب أن أجندة الدول الأوروبية المتوسطية وفي مقدمتها الأجندة الفرنسية التي تلح على ضرورة الاستقلالية عن المظلة الأميركية، و أن تترك لها الحرية في إدارة شؤون حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي يعتبر في منظورها منطقة نفوذ إستراتيجية مهمة لها امنيا واقتصاديا - بعد تخوفها من احتمال أن تبسط الولايات المتحدة الأميركية نفوذها على المنطقة المتوسطية ndash; و هي الأطماع التي انكشفت بدليل أن دول الشمال لا تزال إلى يومنا هذا تطالب أميركا بسحب صواريخها الإستراتيجية من بعض الدول الأوروبية على أساس زوال الخطر الشيوعي.

تركيا والقضيّة الفلسطينيّة

و في ما يخص تعثر انضمام تركيا إلى الاتحاد من أجل المتوسط، يشير الخبير خير الدين العايب إلى أن هذا القرار تقف وراءه بعض الدول الأوروبية و على رأسها فرنسا لعدم رغبتها في انضمام دولة إسلامية لها سوابق تاريخية تجلت في وقوف الدولة العثمانية إلى صف تركيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

في الوقت الذي لا تزال فيه الحكومة التركية تلح على ضرورة انضمامها للمشروع بكونها حسب الخبير على دراية كاملة مثلها مثل دول الجنوب من أن انتعاش اقتصادها مرهون بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنها تربطها علاقات أمنية وعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية إلا أن اقتصادها لا يزال هشا.

وعن القضيّة الفلسطينيّة التي لم يتمكن الاتحاد من اجل المتوسط من ايجاد دور له في أفق حلها، أشار الخبير الاستراتيجي عمار جفال إلى أن موقف المجموعة الأوروبية في هذه القضية كان قريبا جدا من مواقف عدة قوى عربية، متهما في السياق ذاته بعض الأنظمة العربية الحاكمة بالتواطؤ مع إسرائيل، في حين يحمل الحكومة الفرنسية ما يعرفه الوضع الأمني في الساحل الإفريقي من تأزم، كونها الصانعة و المسؤولة أخلاقيا وتاريخيا عن الخراب السائد في دول المنطقة، و التي تسعى فرنسا الآن إلى المبالغة في ما يخص نشاط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ومحاولاتها تهويل و تضخيم الوضع بما يبرر تدخلها في هذه المنطقة، التي تعاني ضعف الدول و فراغ القوى و شساعة مساحتها.

وهو الأمر الذي عقّد التحكم فيها و فرض السلطة عليها ومهد لظهور سلطة موازية كالعصابات و أصحاب النفوذ، و هو الوضع الذي وجدت فيه فرنسا ضالتها مشيرا إلى تضخيمها للوضع الأمني ومحاولتها خلق quot;غول وهميquot; و مبالغتها في تهديدات القاعدة، كرد فعل طبيعي و حتمي بعد أن عبرت دول أخرى من بينها أميركا عن نيتها في الدخول و الاستثمار في المنطقة.

سياسة ساركوزي الأمنية ...عائق آخر

وبخصوص السياسة الأمنية التي ينتهجها الرئيس ساركوزي في الحرب على القاعدة في منطقة الساحل الإفريقي بقرارات انفرادية، و التي من شأنها أن تكون إحدى معوقات مشروع المتوسط، يؤكد الدكتور خير الدين العايب أن إعلان الجزائر لقيادة قوة استخباراتية لمكافحة ما يسمى فرع القاعدة المغاربي، اعتبرته فرنسا تهديدا لمصالحها الإستراتيجية، فراحت تضغط على بعض دول المنطقة كموريتانيا لكي تتعامل معها أمنيا، بهدف إفشال هذه القوة، باتخاذها قرارات عشوائية تتعارض مع قرارات دول الساحل.

خير الدين العايب الخبير في الشؤون الإستراتيجية

وأضاف الدكتور العايب أن مثل هذه السياسات الفرنسية العشوائية تهدد بشكل أو بآخر أمن دول المنطقة، وتزيد من قوة تنظيم القاعدة الذي وجد ضالته في عمليات الاختطاف خاصة مع استعداد بعض الدول في دفع الفدية، ما جعل الجزائر تتبنى مشروع تجريم دفع الفدية للجماعات المسلحة، و التي تمثل نسبة 95 بالمائة من مصادر تمويلها من أموال الدول الغربية التي تدفع على شكل فدية مقابل الإفراج عن رعاياها المختطفين من طرف ما يسمى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

وعليه يجمع الخبراء أن هذه المعوقات التي سبق لنا ذكرها، من شأنها تعطيل نجاح مشروع الاتحاد من اجل المتوسط، لعشرات السنين القادمة، في حالة مواصلة الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا في تطبيق سياسة الهروب إلى الأمام، وتجاهلها مطالب دول الجنوب، خاصة تلك المرتبطة بقضاياها المصيرية، على غرار السيادة الترابية، ناهيك عن ضرورة إشراكها في مختلف القرارات المهمة للطرفين، ودعمها في الجانب الاقتصادي على اعتبار أن الاقتصاد عمود الأمن والاستقرار، بالإضافة إلى القضايا الدينية والقومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ما يستوجب على دول الشمال إعادة ترتيب بيت الاتحاد عن طريق دراسة أولويات دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط.