شهدت تونس خلال شهر أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري موجة غير مسبوقة من الإضرابات عن الطعام التي شنّها مساجين سياسيون سابقون وطلبة وعاطلون عن العمل لهم مطالب مختلفة، الأمر الذي جعل الجدل يحتدم حول هذه الطريقة الاحتجاجيّة العنيفة التي ينتهجها البعض وقد تهدّد حياتهم بشكل جدّي.


تونس: لا صوت يعلو في تونس خلال الأسابيع الأخيرة فوق صوت منظمات حقوق الإنسان المحليّة والدوليّة وبلاغاتها المتواترة حول الإضرابات عن الطعام التي يشنها عدد كبير من النشطاء والمواطنين وصحافيّ سجين.

ورغم أنّ البلاغات الحقوقيّة تختلف في مضامينها، إذ أنّ بعضها يناشد المضربين إيقاف الإضراب خوفا على صحتهم، في حين تساند منظمات أخرى الإضراب أملا في تحقيق مطالب المضربين ودفع السلطات على التراجع، فإنّ الجامع بينها هو التحذير من تردّي الوضع الحقوقيّ في تونس مع تكثف الانتهاكات التي جعلت كثيرين يضحون بأجسادهم من أجل تحقيق مطالبهم التي تتعلق عادة بتحسين الظروف السّجنية لمن هم داخل السجون، أو الحصول على شغل أو جواز سفر أو رفع مظلمة لمن هم خارجه.

إضرابات بالجملة

وشهد شهر أكتوبر الجاري موجة من الإضرابات عن الطعام خاضها عدد من النشطاء والمساجين السياسيين والصحافيّ الفاهم بوكدوس، الأمر الذي دفع بمنظمات حقوقية إلى وصف تونس بـquot;العاصمة العالميّة لإضرابات الجوعquot;.

ودخل بوكدوس في إضراب مفتوح عن الطعام منذ الاثنين 10 تشرين الأول/أكتوبر الجاري مطالبا بإطلاق سراحه واحتجاجا على ظروف سجنه القاسية.

وكان الصحافيّ بقناة quot;الحوارquot; التونسيّ قد سجن لـ4 سنوات بتهم تتعلق بـquot;نشر معلومات من شأنها المساس بالأشخاص والممتلكاتquot;.

وتؤكد زوجة بوكدوس السيدة عفاف بالناصر أنه لا ينوي التوقف عن الإضراب حتى ولو كلفه ذلك حياته، موضحة أن quot;فاهم لا يكتفي بالامتناع عن الطعام والماء بل يرفض أيضا تناول الدواء، وهو يعاني من داء الربو وقد أصيب السبت الماضي بأزمة حادة استدعت نقله إلى المستشفى، وأنه مصر على مواصلة الإضراب عن الطعامquot; مشيرة إلى أن الأمر بالنسبة إليه quot;مسألة حرية أو موت.

وفي محاولة للضغط على الحكومة التونسية، أطلقت منظمة quot;مراسلون بلا حدودquot; حملة إعلامية واسعة النطاق بهدف إطلاق سراح الصحفي المسجون.

وفي بيان نشر على موقعها، نددت المنظمة بموقف السلطات التونسية وقالت إن وضع بوكدوس الصحي في تدهور مستمر، إذ عان في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي من أزمة الربو تبعتها نوبة قلبية كادت أن تودي بحياته.

وطالبت quot;مراسلون بلا حدودquot; الحكومة التونسية الإفراج الفوري عن الصحفي، متهمة إياها بعدم احترام اتفاقيات جنيف المتعلقة بحفظ حقوق السجناء والميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية رغم التوقيع عليها.

ولم يقف الأمر عند الصحافيّ بوكدوس بل تعداه إلى عدد كبير من المضربين، إذ يواصل سجين سياسي سابق يدعى محمد رحيم إضرابه المفتوح عن الطعام منذ يوم 9 أكتوبر وقد أفاد طبيبه الخاص أن حالته الصحية تزداد سوءا وتدهورا.

وسجل التقرير الطبي انخفاضا كبيرا في ضغط الدم وانخفاضا في دقات القلب وتواتر حالات الإغماء مما جعله يتنقل على كرسي متحرك، مع إصرار شديد على مواصلة إضرابه حتى تحقيق مطلبه المتمثل في quot;حرية التنقل والعملquot;.

كما يواصل سجين سابق عن حركة (النهضة) عبد اللطيف بوحجيلة إضرابه عن الطعام الذي بدأه يوم 11 أكتوبر من أجل حقه في quot;التداوي والسفرquot;.

وقد أفاد بوحجيلة في تسجيل فيديو نشر عبر الانترنت إنه quot;مصر على مواصلة إضرابه عن الطعام رغم تدهور حالته الصحيةquot;.

وكانت الشابة غزالة المحمدي من محافظة قفصة الجنوبيّة قد دخلت في إضراب مفتوح عن الطعام بداية الشهر الجاري أيضا، بسبب طردها من العمل على خلفية مساندتها لاحتجاجات اجتماعية شهدتها منطقتها في العام 2008.

وأعلنت غزالة محمدي وهي عضو بالحزب الديمقراطي التقدمي المعارض فك الإضراب عن الطعام الذي خاضته وتواصل أسبوعين كاملين للمطالبة بحقها في الشغل إثر تأكيد الأطباء على أن quot;حالتها الصحية لم تعد تحتمل مواصلة الإضرابquot;.

إلى ذلك، أعلنت منظمة (حرية وإنصاف) التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان في تونس، في بلاغ لها يوم 21 أكتوبر الجاري أنّ quot;عشرات من المساجين السياسيين بسجن المرناقية قد دخلوا في إضراب مفتوح عن الطعام منذ يوم الاثنين 18 أكتوبر للاحتجاج على الاعتداءات المتكررة التي يقوم بها احد أعوان الحراسة ضدهمquot; حسب ما جاء في البيان.

وسيلة للتظلم أم للانتحار؟

تقول الناشطة الحقوقيّة والمحامية إيمان طريقي وهي عضو بالمكتب التنفيذيّ لمنظمة (حريّة وإنصاف) في إفادات لـquot;إيلافquot; إنّ الإضراب عن الطعام quot;وسيلة من وسائل التظلم أو ضرب من ضروب الانتحار، قد يؤدي إلى هلاك المضرب إذا تجاوز قدرة المضرب الصحية على الصمود،لاسيما عندما يكون الإضراب مفتوحاquot;.

وتضيف: quot;عادة ما ينطلق المضرب في إضرابه، غير مُقدّر لخطر الامتناع عن الطعام، غايته لفت النظر لقضيته أو مأرب من مآربه طالبا الاهتمام و الإنصاف، لكنّ وأمام تهاون ولامبالاة السلطة المسؤولة التي يرجو المضرب تحسيسها بوضعيته، تنقلب وسيلة لفت النظر تلك إلى كارثة على صاحبها إذ يرى نفسه حبيس دائرة الرفض فيمعن في الإمساك عن الطعام رغم الوهن الشديد لعله يتمكن من كسر جدار الصمت بعدما يكون قد استنفذ كل وسائل التبليغ والاستنجادquot;.

وبحسب الحقوقيّة إيمان الطريقي، فللمرء أن يتساءل عن حال المتظلم المضرب الذي تُصدّ في وجهه الأبواب ويُعامل بشيء من التسويف و حتى بشيء من الازدراء.

وتضيف: quot;مرارة الموقف والشعور بالإحباط تدفعانه إلى المغامرة بصحته، قل بحياته فقد يرى نفسه على شفى حفرة من اليأس ولكي لا يقع في اليأس القاتل يلجأ إلى هذه الوسيلة من الاحتجاج، لمواجهة العبثية التي يعامل بها والتي تدفعه للانهيار وحتى للوقوع في المحظور الذي لا تحمد عقباهquot;.

التجاوب الرسميّ نادر

حكاية إضرابات الجوع في تونس ليست وليدة اليوم، فمنذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كان النشطاء السياسيون اليساريون المعارضون يخوضون إضرابات قاسية عن الطعام داخل سجونهم للمطالبة بتحسين ظروف quot;الإقامةquot; أو بالحقّ في مطالعة بعض الكتب والصحف أو للمطالبة بفصلهم عن مساجين الحقّ العام.

ويقول الناشط الحقوقيّ والإعلامي زهير مخلوف الذي سُجن في أكثر من مناسبة إنّ الإضراب عن الطعام الذي كان له صدى مدوي في تونس حصل في العام 1997 عندما شنّ المساجين الإسلاميون في كافة سجون البلاد إضرابات عن الطعام للمطالبة بتحسين ظروفهم السجنيّة ووقف اعتداءات إدارة السجن ضدهم.
ويقول مخلوف لـ(إيلاف) :quot; استجابت السلطة حينها لمطالب المضربين وخفت حدة الاعتداءات ضدهم وتحسنت ظروفهم نوعا ماquot;.

وربما يختلف الوضع في تونس اليوم، فالسلطات الرسميّة لا تردّ على عدد كبير من اضرابات الجوع التي تقع بشكل بات شبه يوميّ، وباتت ردودها وتجاوبها مع مطالب المضربين نادرة للغاية.

لكن الحكومة وإن ردّت على أحدهم او بعضهم، فإنّ الرد لا يكون عبر قنوات رسميّة تروم معالجة مشكلة المضرب وردّ الاعتبار إليه، بل غالبا ما يحصل الردّ تلميحا عبر الصحافة الرسميّة أو بلاغات تنسب لمصدر مطلع في حالة كان المضرب شخصية لها وزنها الوطنيّ والدوليّ.

واضطرت الحكومة التونسيّة في مناسبات عدة على الردّ والتوضيح وحتى التشكيك في مصداقية تلك الإضرابات القاسية وغاياتها الحقيقيّة، على غرار الردود التي استهدفت إضراب 18 أكتوبر/ تشرين الثاني 2005 الشهير الذي شنته شخصيات تونسية مشهورة بالتزامن مع قمة مجتمع المعلومات التي احتضنتها تونس حينئذ.

كما ردت السلطات بأشكال مختلفة على إضراب الجوع الذي شنته قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي في 2007 عندما تمّ تهديدهم بالطرد من مقرهم المركزيّ في تونس العاصمة، وغيرها من الحالات التي تجد فيها الحكومة نفسها محرجة ومضطرة للرد على التقارير الإعلامية والحقوقية التي تتحدث عن إضرابات قاسية عن الطعام داخل التراب التونسيّ.

وفي حالة الصحافيّ الفاهم بوكدوس المضرب حاليا عن الطعام، رفضت السلطات التونسية الاعتراف به كصحفي، وقالت إنه حكم عليه بسبب انتهاكه الحق العام من دون أي صلة بنشاطه الصحافي، لكن المدافعين عنه يقولون إنه أدين بسبب قيامه بتغطية المظاهرات الاجتماعية التي جرت في 2008 في مناجم قفصة لصالح قناة فضائية معارضة.

وصنفت quot;مراسلون بلا حدودquot; تونس من بين الدول التي يصعب فيها ممارسة مهنة الصحافة بسبب الضغوط المتزايدة التي تمارسها السلطة على الصحفيين وكل الذين يحاولون انتقاد النظام.
كما احتلت تونس المرتبة 145 من أصل 175 بلدا لا تحترم فيه حرية الصحافة في تصنيف quot;مراسلون بلا حدودquot; العالمي.

وأشارت المنظمة أن منذ وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، لم نلاحظ أي تطور في مجال حقوق الإنسان وحرية الصحافة. بل الوضع تدهور أكثر خاصة منذ أن أعيد انتخابه في 2009.

وحول تجاوب السلطات السلبيّ مع المضربين تقول إيمان الطريقي عضو المكتب التنفيذيّ لمنظمة حرية وإنصاف لـ(إيلاف): إذا كانت مصداقية السلطة عرضة للاهتزاز بسب إضراب شخص أعزل عن الطعام، فهذا يعني أن تلك المصداقية هشة جدا، بقطع النظر عن تحرك المتظلم والوسيلة التي اختارها لتبليغ صوته و التعريف بقضيته.

التشكيك في مطالب المضربين وتخوينهم واتهامهم هو اصطياد في الماء العكر الغاية منه تكميم أفواه الناس وكتم أنفاسهم بحجة واهية، تواجه كل متظلم ليبقى بعيدا عن الأضواء، يائسا بائسا لا ينبس ببنت شفهquot;.

المنظمات الحقوقيّة لا تحرّض على خوض الإضراب

وردا على سؤال يتعلق بغرابة مساندة منظمات من المفترض أنها تقف إلى جانب حقوق الإنسان وعلى رأسها الحقّ في الحياة، مع إضراب عن الطعام قد يودي بحياة المضرب، تردّ الطريقي:quot;إحقاقا للحق علينا الإقرار أنّ الجمعيات الحقوقية التونسيّة بريئة من تهمة التحريض على الإضراب عن الطعام عكس ما يُروّجه البعض، دور الحقوقيين ينحصر في تبني قضايا الناس العادلة ولا يتم ذلك إلا حين يتقدم المتظلم بشكواه وقد اختار بعد نفاذ صبره وسيلة تظلمه راجيا إسناد حقه ومطلبه و ليس مستنصحا في استعمال وسيلة دون أخرىquot;.

فالمؤسسات الحقوقية تفاجأ بقرار الإضراب، عندها تتحرك وتسعى حثيثا للدفاع عن حق المتظلم فتساند مطالبه العادلة والمشروعة وحفاظا على سلامة المضرب كثيرا ما تجتهد المؤسسات الحقوقية في شخص ممثليها بإقناع المضرب بفكّ الإضراب حرصا على صحته وحياتهquot;.

وتتابع الطريقي:quot; رأينا كيف أن عديد المنظمات الحقوقية والشخصيات من المجتمع المدني تحركت سابقا بقوة لمناشدة السيّد عبد اللطيف المكي لوضع حد لإضرابه بسبب منعه من مواصلة دراسته الجامعية منعا غير مبرر قانونا، كما تحركت تلك الفعاليات لمساندة الأستاذ محمد النوري الذي أضرب عن الطعام احتجاجا على منعه من السفر إلى الخارج و عدم تمكنه من جواز سفر تعسفا.كما تتحرك اليوم لمساندة عديد المضربين عن الطعام لأسباب لا تقل وجاهة و مشروعية عن سابقيهاquot;.

وتختم قائلة:quot;لا يمكن في أي حال من الأحوال اتهام منظمات حقوق الإنسان بتشجيع المتظلمين على اعتماد وسائل مغالية في المطالبة بحقوقهم ومن واجب تلك المنظمات الانتصار لحقوق الناس و الدفاع عن قضاياهم العادلة و المشروعةquot;.