لا يزال حمّام السمرا في مدينة غزة يحتفظ بحيويته، على الرغم من مرور قرابة الـ1000 عام على بنائه، مرتادوه يقرّون بأنّ الإعلام قد أعاد له مكانته، بخاصة الدراما السورية، وذلك بعد أن هجروه بفعل التقدّم ووجود بدائل أخرى عنه.

غزة: هدى من سكان مدينة غزة اعتادت كل يوم أربعاء التوجّه وصديقاتها للحمام، للاستحمام والاستمتاع بساعة راحة بعيدًا عن زحمة المولّدات الكهربائية وتنغيص الحياة اليوميّة المكحلة بحصار وصراع ضاق بأهله.

وتعمل هدى quot;37 عامًاquot; مدرّسة في إحدى المدارس الحكومية، إلا أنّها تشعر بقمّة حيويّتها بعد عودتها من حمّام السمرا،وتقول لإيلاف: quot;اشعر هنا براحة تامّة، تعوّدت منذ فترة طويلةأن آتي إلى هنا كي أريح جسدي من أسبوع عمل شاق ومن صخب الحياة وشقائها، ثم أعود بحيويّتي، كأنّني احرق همومي وتصعد أبخرتها إلى مكان بعيدquot;.

أحد النماذج الرائعة

ويعتبر حمّام السمرا الواقع في حي الزيتون في غزّة أحد النماذج الرائعة للحمّامات العثمانيّة في فلسطين، وهو الحمام الوحيد المتبقّي حتى الآن في مدينة غزة، وزار الحمّام الكثير من الجنود في الحرب العالميّة الثانية وكذلك جيوش عربية.

وتقول ميس وهي طالبة جامعيّة إضافة إلى عملها في إذاعة محليّة في غزة: quot;أشعر بأنّ جلدي قد تغيّر كثيرًا، معتاد أسبوعيًّا أن آتي إلى هنا، بخاصة في فترة ما قبل الامتحانات لأجدّد نشاطي واستعدّ لاختباراتي بجسد مرتاح نفسيًّا وبذهنيّة متجدّدةquot;.

ويعمل الحمّام وفق جدول زمني يسمح للرجال والنساء بزيارته في ثلاث فترات مختلفة فيفتح من الساعة الخامسة صباحًا حتى الساعة 12 ظهرًا للرجال، ومن الساعة 12 ظهرًا وحتى الثالثة والنّصف للنساء ومنها حتى التاسعة مساء للرجال، وتختلف أهداف مرتاديه بين العلاج أو تخسيس الوزن أو الإنجاب.

quot;أم محمدquot; في العقد الخامس من عمرها، من مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، جاءت بناء على وصفة من جدّات لها وهي منذ 13 عامًا تعاني من أمراض في العظام شخّصها الأطباء بـquot;انزلاق غضروفيquot;، وبسبب زيادة وزنها يشكّل إجراء عملية لها في غزة خطورة على صحتها، وهو ما لم تحبذه لذا عملت بالنصيحة وأقدمت بصحبة جارتها وابنتها الشابة على الحمام وتشعر براحة نفسيّة كبيرة زال معها أي شعور بالآلام التي كانت تشعر بها منذ عملها في التجارة وحملها لأوزان ثقيلة تركت بصماتها على فقرات ظهرها.

وترافق أم محمّد ابنتها التي تزور الحمّام للمرّة الأولى، وقد سمعت عنه من والدتها وتقول: quot;كثيرًا ما شاهدت المسلسلات السوريّة التي تظهر الحمّام بشكل جيّد، ولم أكن أصدّق أنّ واحدًا هنا في غزة فقرّرت مرافقة والدتي وأنا اشعر بسعادة كبيرة بعد أن دخلتهquot;، وتضيف: quot;لا يختلف كثيرًا عن الحمّامات هناك إلاّ أنّ في الحمّامات السورية للسيدات نسمع صوت قبقاب ذي رنّة مختلفة تظهره الدراماquot;.

علاج ووقاية ونقاهة

ويعدّ الحمّام ملكًا لعائلة الوزير في غزة وهي التي تقوم على إدارته والمحافظة عليه، ويقول سليم الوزير (59 عامًا) احد مالكي الحمام لإيلاف: quot;ورثت العمل في الحمّام عن والدي منذ 40 عامًاquot;، ويقدر عمر الحمام بـ1000 عام،الأمر الّذيتدلّ عليه لوحة في مدخل الحمامquot;. مشيرًا الىأنّ حمّام السمرا الوحيد الذي يعمل بالطريقة التقليديّة القديمة وأكثرها حرارة ومتعة.

ويبيّن الوزير بأنّ فوائد الحمّام كثيرة للإنسان منها العلاج والوقاية والنقاهة والاستجمام ويقلّل من الإصابة بلفحات الهواء وتخسيس الوزن ويساعد الرجال والنساء على الإنجاب بخاصّة من تأخروا عن الإنجاب. ويضيف الوزير: quot;الإقبال على الحمّام يزداد في الشتاء ويقلّ في الصيف، مشيرًا إلى أنّ عدد الرجال المرتادين اكثر من النساء، ويعزو ذلك إلى ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، فضلاً عن أنّ الرجل هو صاحب المال والاقتصادquot;، حسب رأيه.

ويتكوّن الحمّام المنخفض نسبيًّا مقارنة مع ما يحيط به من مبانٍ حديثة، من عدّة أقسام وفراغات، تبدأ بمدخل الحمّام وتشرف نهايته على قاعة القبة الرئيسة التي تتوسّطها نافورة مياه. وتضمّ القاعة إيوانين، تغلب المطرّزات التراثيّة الفلسطينيّة على أحدها ويستخدم كاستراحة خارجيّة للمستحمّين بعد الفراغ من الاستحمام، أمّا الثاني فحوّل إلى كافتريا للنزلاء تصطفّ على جنباته أباريق الفخار القديمة. وتتّصل القاعة بممرّ يقود إلى حمّام البخار الساخن والاستراحة الداخليّة وغرفة التدليك.

حرب غزّة ضاعفت الإقبال على الحمّام

ويقول محمد أبو رجيله ويعمل مدلّكا في الحمّام ويناديه الزبائن quot;بعبدوquot; تأثرًا بمسلسل باب الحارة: quot;زاد الإقبال على الحمام بخاصّة بعد الحرب الإسرائيليّة على غزّة حيث يتردّد كثير من الناس لعلاج مشاكل جنسيّة أو مشاكل نفسيّة كقطع الخوفة وتأثيرات الحرب النفسيّة التي صاحبتها أمراض عضوية الأمر الّذيأكّده الوزير في الوقت نفسهquot;.

ويضيف أبو رجيله الذي تدرب على العلاج الطبيعي: quot;بعد الحرب مباشرةحصل ضغط كبير على عملنا فوق ما كنّا نتوقّعه، ويشير إلى أنّ 1100 مواطن غزاوي قام بتدليكهم حتى الآن في هذه الفترةquot;.

ويشير الى أن طقوس قديمة يحييها الحمام بخاصة في الزفاف حيث يقوم بغسل العريس في حفلة صغيرة تقتصر على أصدقائه وأقاربه ويضرب مثلاً بنفسه ليلة عرسه.

وكذلك بالنسبة إلى العرائس، فقبل زفافها بيوم أتت منال quot;30 عامًاquot; إلى الحمام بصحبة صديقاتها، اللواتي اهتممن بها وسط أهازيج فلسطينيّة وترديد أغاني الأفراح فتقول: quot;في كلّ مرّة اعتدت أن آتي إلى الحمّام ولكنّ هذه المرة اختلفت كليًّا كأنني آتيه للمرّة الأولى، فصديقاتي اهتممن بي بحفاوة كبيرةquot;، مشيرة إلى أنّ كثيرًا من العرائس قبل زفافهنّ يأتين للاستحمام لفوائده الكثيرة في تجديد البشرة والتخلص من البرودة والحصول على التدليكquot;.

ولا ينسى الشاب محمد أبو ناصر من وسط قطاع غزة كيف قضى ساعات في الحمام يوم زفافه بصحبة اصدقائه، ويقول: quot;ذهبت بناء على نصيحة من أقاربي يوم عرسي وسعدت كثيرًا وندمت أنّي لم آتِ من قبل للإحساس الجميل الذي شعرت به كأنني أولد من جديدquot;.

وعن سبب اختفاء القبقاب من الحمام على غرار باب الحارة، قال ابو رجيله: quot;استطعنا توفير قباقيب في سنوات ماضية، ولكنّنا كنّا نشعر بأنّه بدا مزعجًا جدًّا لنا ويوتّرنا، لذا استبدلناه بأحذية من البلاستيك وهي بلا صوتquot;.

ويقوم ابو رجيله بتدليك نحو 30 شخصًا من فئات عمرية مختلفة، من كبار السن وشباب خلال فترة عمله المسائي التي تبدأ من الساعة الثالثة وحتى التاسعة مساءً وحتّى فيما يستقبل زميله في العمل المدلك محمد الذي يعمل في فترة الصباح العدد نفسه.

ويشكو الوزير من أنّه لم يستطع طيلة المدّة من توفير نساء مدلّكات في ساعات تواجد النساء، وقال: quot;حاولت مرارًا الاتّصال من أجل توفير مدلّكة للنساء، إلاّ أنّ محاولاتي باءت بالفشل وأشار إلى أنّه في وقت سابق كانت تعمل نساء مدلّكات خاصّة بالسيدات في الحمّام، كنّ كبارًا في العمر وكانت هذه مهنتهنّ، يعالجن عدم الإنجاب وأوجاع الظهرquot;، إلاّ أنّه لم يعد لهنّ دور الآن.

وإذا ما كان لحمامات الساونا تأثير على عمل الحمام وزبائنه يشير ابو رجيله إلى أنّه لا يزال الوعي بأهميّة الحمّام قليلاً جدًّا وفي أوساط فئة محدودة من الناس وساهمت الدراما التلفزيونيّة خاصوصًا الشاميّة في استعادة دور الحمّام مجدّدًا.

وقال: quot;كثيرون من الزبائن أصبحوا يأتونا بوصفة طبيّة من الطبيب تنصح بالذهاب إلى الحمّام والتدليكquot;. وعن الاختلاف بينه وبين الساونا، يقول الوزير: quot;حتّى الآن الحمّام يعمل بالخشب الطبيعي كما أنّ بلاطه القديم مخصّص لسحب البرودة من الجسم والاحتفاظ بدرجات الحرارة لفترات طويلةquot;.

ويضيف: quot;روعي في تخطيطه الانتقال التدريجي من الغرفة الساخنة إلى الغرفة الدافئة إلى الغرفة الباردة والتي سقفت بقبّة ذات فتحات مستديرة معشقة بالزجاج الملوّن يسمح لأشعّة الشمس من النفاذ لإضاءة القاعة بضوء طبيعيquot;.

وطالب الوزير وزارة السياحة والآثار بتقديم الدعم الكامل لهذا الحمام الذي لا يوجد غيره في قطاع غزة والمحافظة عليه كمعلم اثري في فلسطين.