قبل أن يهل هلال العيد بأيام.. تنتهي الإستعدادات وتبدأ تحضيرات أخرى لإعداد برامج العيد وفق تواقيت لا يمكن السهو عنها أو تناسيها، وإن كانت أحوال الحاضر تقف أمامها معوقات بسبب الظروف غير الطبيعيّة التي يعاني منها العراق بشكل عام.

الماضي في العراق ما زال حاضراً بنكهته وجماله ولا بد من استذكاره ما بين الاباء والابناء والاجداد والاحفاد، وهو ما يجعل الابتسامات ترتسم حميمة، والنفوس تبتهج وتحلق الارواح في عالم الذكريات الجميلة، تستذكر الماضي وهي تنظر الحاضر بعيون مفعمة بالامل ولكن لسان حالها يقول (الماضي اجمل) وهم يشيرون بالتأكيد إلى تواريخ تمتد إلى أكثر من أربعين عاما، حين كانت البساطة تؤطر العلاقات بين الناس والمحبة ترفرف بكامل عافيتها فوق رؤوسهم.

الماضي الجميل.. والحاضر المعطر بالأمل قد لا يتوافقان في نسج خيوط الحياة العامة للعراقيين بشكل عام، لكنهما جزء لا يتجزأ من هذه الحياة، هنا حاولنا رسم لقطات من صور كثيرة لا تفارق الذهن، عن أيام ليست قديمة جدا يمارس فيها أهل بغداد طقوسهم في أيام العيد مع محاولة النظر إلى الواقع بنظرات بسيطة.

أبو عبد، مواطن عراقي، يقول عما تختزنه ذاكرته عن ايام العيد quot;عندما كنت صغيرا، كان اهلي يشترون لي دشداشة (مقلمة) وافرح بها فرحا كثيرا، الغريب ان اهلي يأتون بها من الخياطة في المساء قبل يوم العيد وهو ما يجعلني اطير من الفرح اليها، وأحاول أن ألمسها او أرتديها ولكن أهلي يرفضون ذلك بحجة (ان العيد يزعل عليك!) او كلام اخر مضحك !!، وامام بكائي يضطرون الى ان يضعوا الدشداشة تحت وسادتي، ويطلبوا مني ان انام، وبصراحة لا يأتيني نوم بل ابقى احلم واتخيل وانتظر الصباح لأرتدي دشداشة العيد واركض الى اماكن اللهو القريبة من البيت والتي كانت عبارة عن مجموعة اراجيح ودولاب هواء من النوع البدائي، وكان لابد للدشداشة العزيزة ان تتسخ بفعل اكلات شعبية ينتشر باعتها قرب هذه الاماكن ولا بد لنا من انفاق (العيدية) والعودة الى البيت طلبا لأخرى من الاقارب والجيران الذين يزورنناquot;.

ويضيف quot;في أول ايام العيد هناك ثوابت لا بد أن يقوم بها الناس سابقا ولا أعتقد انها بقيت حاليا مثل قيام أفراد العائلة من الذكور بالذهاب الى المسجد لأداء صلاة العيد، الكبار والصغار، الاباء والابناء، ثم تقوم مجاميع من هؤلاء المصلين بعد انتهاء الصلاة بزيارة البيوت وتقديم التهاني بالعيد، وكان من الواجبات ان تتم اولا زيارة الأكبر سنا في الاسرة، وفي العيد.. نستذكر موتانا، فنذهب الى المقابر نزورهم ونقرأ سورة الفاتحة على ارواحهمquot;.

وأوضح أبو عبد ان تغيرات كثيرة حدثت أوجزها بالقول: quot;تطور الحياة وتعدد وسائل الاتصال والنقل والحروب والفقر كلها أدت إلى أن يتغير الناس في علاقاتهم، ولكن العيد ما زال يمثل الوجه الحسن، ما زال الناس المتخاصمون يتصالحون في العيد وهذا انا اعتبره اجمل ما في العيد!quot;.

في الشارع المؤدي الى ساحة الشهداء في منطقة الكرخ وسط بغداد، جلست قرب رجل كهل وحاولت أن أحصل منه على معلومات عن العيد البغدادي بعد ان تجاذبت معه اطراف حديث، فقال: quot;وانا طفل اتذكر انني كنت افرح بمجيء العيد لانه بالنسبة لنا نحن الفقراء يعني الكثير، يشتري لنا أهلنا ملابس جديدة، وهناك من يهدينا ملابس يسمونها (كسوة العيد) للفقراء يقدمها في الاغلب عدد من الميسورين من ابناء المنطقة، وفي العيد نحصل على عيديات ونستمتع بوقتنا افضل من باقي الايام التي كنا لا نحصل فيها على (عشرة فلوس) الا حين يقبض والدنا الراتب، ولا نشتري الملابس الا بعد ان تتمزق، فالعيد كان لنا فرحة كبيرة لاننا كنا لا نشتري الجديد الا من اجل العيدquot;.

واضاف: quot;في سنوات شبابي عملت (مسحراتي) في رمضان، واجمل ما كنت اتذكره اننا في العيد كنا نطرق ابواب بيوت المحلة لنحصل على عيديتنا بعد ان نهنئ اهلها بالعيد، وكانت العيدية بمثابة شكر ومكافأة على جهودنا في رمضان، ولسنا فقط الذين نفعل ذلك فهناك عمال النظافة والحرس الليلي في مناطق بغداد القديمة، والناس كانت وقلوبهم مليئة بالرحمة بشكل أكبر، وأيديهم ممدودة بالخيرquot;.

وسألته عن الالعاب في العيد فقال: quot;ما كانت اماكن اللهو كثيرة في بغداد، ولا نعرف (الأراجيح وألعابها الأخرى) الا في أيام العيد، وهي من جذوع الاشجار وتثبت في الارض، وحين ننتهي منها نصعد في عربات تجرها الخيول وكنت انا احب الدراجات الهوائية، لذلك انفق ما لدي من مال في إيجارها واللعب بها، كما كان الاطفال يحبون الذهاب الى السينما لمشاهدة الافلام مثل افلام روبن هود او طرزان، واذكر اهزوجة كان تقال انذاك (يا عيد يا بو نمنمة/خذني وياك للسينما)، واذكر ايضا ان مجموعة من الشباب يحملون الات موسيقية مثل الطبل والدمام والبوق يعزفون موسيقى الاغاني الشعبية والاطفال يرقصون، وكان هؤلاء يعزفون على قدر المبلغ الذي يعطى اليهم، ولان الاطفال بأيديهم (العيديات) فهم لا يبخلون ببعض قطع الفلوس من اجل المرحquot;.

وحول العيد هذه الايام قال: quot;تغير كثيرا، والله يساعد اطفال هذه السنوات الذين لا نشاهدهم الا والواحد منهم يحمل بيده بندقية صيد، وهذه كلها تأثيرات الحروب، وحتى الناس ليسوا مثل ناس السابق فالعلاقات اصبحت اكثر برودا وصلة الرحم غير جيدةquot;.

اما الحاجة ام حسين فقالت: quot;الله.. يا عيد ايام زمان الحلوة،.. كنت أنهض منذ الصباح الباكر لأجلب للعائلة (فطور وحلويات العيد.. انا احكي لك عن فترة السبعينات، وليس بعيدا، تعودنا على هذا في طفولتنا وشبابنا، في بيت اهلي وفي بيت زوجي، كل العائلات تفعل هذا للإفطار في صباح يوم العيد، وقبل صبحية العيد كنا نجتمع نحن النساء بصحبة بعض بنات المحلة في بيتنا ونسهر الليل لعمل حلويات (الكليجة) من معجنات العيد، وما احلى تلك السهرة التي نقضيها بالضحك والمرح والحكايا الحلوة، نعملها في (صواني) ونحملها الى اقرب فرن للشواء، وفي الصباح بعد الافطار نذهب لمعايدة الجيران والاحباب في المحلة، وفي المساء نذهب لزيارة الاقارب البعيدين، بيت اهلي اولا ثم بيوت اخواني واخواتيquot;.

واضافت: quot;كانت أيامًا حلوة، تختلف عن الان، بدأت تخرب منذ أن نشبت الحرب مع ايران وذهب أولادنا الى الجبهة وكثرت الاحزان وكثر الموت، وصارت اعيادنا زيارة للمقابر، وما عاد لتلك الاشياء طعم، نحن نعمل الان (حلويات الكليجة) ونفرح بالعيد الذي هو عيد الله، ولكن ليس بمزاج تلك الايام، تعبنا كثيرا، ندعو من الله ان يعيدها على العراقيين والمسلمين بالخير والبركة ويرحم موتانا وموتى المسلمينquot;.

في منطقة البياع تحدثت مع غازي ابو كريم عن ذكريات العيد فقال: quot;العيد اجمل ايام السنة وفيه الناس تزور بعضها البعض والعلاقات غير الجيدة تصبح جيدة، والتسامح والمحبة تسود الناس، العيد.. الذي كان فيه بيوتنا يفرح بالاحبة والاصدقاء وبالكليجة والشرابت، كيف أن أفواجًا من الرجال بعد صلاة العيد يمرون على البيوت بيتا بيتا للتهنئة، فكانت القلوب تنظف وتكون مثل الورد !!quot;.

واضاف: quot;ما كانت في البياع أماكن لهو وحدائق، إلا اننا نشاهدها قبل يوم من العيد حيث تنصب في مكان خلاء وتزدحم بالأطفال والباعة لمختلف الأشياء والتي أبرزها الحلوى وعربات الأطعمة المكشوفة والمرطبات، ويقضي الاطفال ساعات من اللعب، وكان الأطفال من العوائل الميسورة يأخذهم ذووهم إلى حدائق الحيوان والمتنزهات، وربما تتفاجأ اذا قلت لك ان أجمل مكان يلهو فيه الاطفال هو (حدائق السكك)، نعم.. والكائنة في منطقة علاوي الحلة وبالضبط الان (كراج الشمال) القريب من محطة القطار العالمية، كانت هذه الى السبعينات متنزها وحديقة حيوان وتشاهد فيها كل الاشياء الجميلة والالعاب السحرية، وكان الاطفال حين ينتهون من اللعب وما زالت لديهم نقود يذهبون الى سينما قدري (سينما بغداد) لمشاهدة احد افلام العصابات او الهنديةquot;.

وأضاف: quot;الان.. الاحوال تغيرت لان الظروف تغيرت واختلفت والكثير من التقاليد اختفت على الرغم من اننا نحاول ان نعلمها الى اولادنا، ونتمنى ان يتعلموها وان تعود الايام الى اجمل ما تكونquot;.