بعيدًا من رنات الخطاب الرسمي في الجزائر، حرصت quot;إيلافquot; على تلمّس أعماق المجتمع الشبابي المحلي وتعاطيه مع رمزية إحياء العيد الوطني لبلاده الاثنين، ومن خلال استطلاعنا آراء مختلف الفئات، برزت جليًا تناقضات يعزوها خبراء إلى رواسب خيبة وإحباط.

الجزائر: هل يرى الشباب الجزائري أنّ تضحيات الأمس حققت الأهداف المرجوة منها؟ ثمّ كيف ينظر الشباب نفسه إلى تواصل رسالة نوفمبر خلال الفترة الراهنة ومفرداتها في ترجمة هذه الرسالة إلى واقع ملموس.

طرحت quot;إيلافquot; هذه الأسئلة على عينتين من الشباب - الشباب اليائس الذي يمني نفسه بالهروب مما يسمونه (جحيمًا)، وشباب نخبوي آثر الاندراج في الحركية السياسية والاجتماعية العامة- وبين هذا الفريق وذلك، سعينا إلى ملامسة شعور الشباب الجزائري بمختلف أطيافه، حول ما يمثله عيد الاستقلال.

quot;المجاهدون الحقيقيون ماتواquot; (..)

بلهجة يائسة، خاطبنا يزيد (29 عامًا) العاطل عن العمل:quot;لم يعد التاريخ يعني أكثر من إعادة طهي عظام الشهداء والمجاهدين في كل مرةquot;، وبغضب ظاهر، ذكرت سامية (27 سنة)، أنّه بالنسبة لها لم يعد للذكرى أي بريق، واستطردت بعد لحظة صمت: quot;أتمنى أن نتوقف عن العودة إلى الماضي، ولنلتفت إلى المستقبل ونبحث عن انطلاقة نحو ما هو آت، لأنّ المجاهدين الحقيقيين ماتواquot;.

ويعتقد محمد (23 سنة) الطالب بكلية الطب، أنّ العيد الوطني عنده ليس سوى مناسبة لتكريم المجاهدين، وإقامة الاحتفالات واجترار الأغانيquot;، ويبني محمد فكرته على استيعاب الجزائر حاليًّا لأناس لا يمتون بصلة إلى المجاهدين الحقيقيين، هم لا يمثلون الشعب أبدًاquot;، على حد تعبيره، معلّقًا بمرارة: quot;كنت منذ شهرين في فرنسا، رأيت المستوى المعيشي الذي ينعمون به... الحرية شيء جميل، لكن هل نحن أحرار حقًاquot;.

ويلاحظ أيمن وزميله رياض وهما طالبان بمعهد علم الاجتماع، أنّ رعيل الثورة كان عملتهم الوحيدة هي الصدق والصفاء، أما اليوم فالكل يتصرف ndash; مثلما يقولان ndash; بما يسميانه quot;خداعquot; وquot;مكرquot; لأجل مصالح ومنافع شخصية فقط، ويستخلص أيمن ورياض أنّ أمّ المشكلات التي تعانيها الجزائر ناجمة عن هذا المناخ quot;الملوّثquot; على حد وصفهما.

وعلى الرغم من حداثة سنه، ينبّه بلقاسم (17 سنة) أنّ كل ما له صلة بالوطن متأصل في وجدانه، ملحا:quot;أنا كشاف تعلمت الوطنية وحب واحترام الثورة من هذه المدرسةquot;، إلا أنّ ذكرى العيد الوطني أضحت بحسبه محصورة في استعراضات متكررة لأفلام وأناشيد، بدل من فتح نقاشات حول الأفق القادم، ويستند بلقاسم إلى كون عديد الشباب وحتى الأطفال quot;لا يدركون قيمة الثورةquot;.

الأيام الوطنية أصبحت مجرد إجازات

بشكل مثير، يسجّل عبد الغني (26 سنة): quot;العيد الوطني مجرد عطلة أستغلها للراحة لا أكثر ولا أقلّ، هو يوم لا يعني لي شيئًا (...)، ويدافع عبد الغني عن اتجاهه بالقول: quot;حين استقلت الجزائر، كان المجاهدون يعدّون على الأصابع، أما الآن فقد أصبح الجميع quot;من قدماء الثوارquot; وأضحى الكل quot;أبناء شهداءquot;، فهل هذه حقيقة؟ أنا شخصيًّا أشعر بغصة المخدوع؟quot;.

وعلى الرغم من حنقها الواضح على الوضع السائد في الجزائر، إلا أنّ سعاد( 30 سنة) تنتقد بروح بناءة، quot;أدرك تمامًا أنّ الخامس يوليو كان نهاية لحقبة سوداء، لكن وهج هذا التاريخ تلاشى، وتشير سعاد بيديها إلى رفوف المؤلفات المتراكمة في المكتبة العتيقى التي تعمل بها quot;هناك كتب كثيرة في التاريخ الإسلامي، التاريخ الثقافي الجزائري، وتاريخ الثورات في العالم، لكننا نعاني من نقص كبير في كتب الثورة الجزائرية ومذكرات مجاهدينا، على مؤرخينا وصنّاع التاريخ توعية هذا الجيل الذي يعاني من فراغ معرفي رهيب، لقد أصبحت هذه الذكرى عندنا مرتبطة بسلسلة أفلام وأغاني لا تسمن ولا تغني من جوعquot;.

في الجهة المقابلة، التقينا بشباب مهووس ملتصق إلى حد القداسة بذاكرة ورموز بلاده، وهو معنى يعبّر عنه عبد القادر (24 سنة) المتربص ببنك خاص، بقوله: quot;هل يُعقل أن ندير ظهورنا ونتعامى عن ثورة ضربت أروع الأمثلة في التفرّد والتميّز في كل شيء، إذ لم يدفع أي شعب من قبل، وفي فترة سبع سنوات، ضريبة باهظة زادت عن 1.5 مليون شهيدquot;.

وبلهجة خاشعة، عدّدت وهيبة ( 24 سنة ) المعاني الكبيرة للعيد الوطني:quot;الخامس يوليو حدث عظيم لأمتنا، لولا الثورة لما ذقنا طعم الحرية، ولما تمتعنا بالاستقلال، فالحرية لم تأتِ من العدم، هناك مشاعر كثيرة تنتابني... أتمنى لو عشت تلك الفترة، لكنت مت شهيدة، أو كنت على الأقل صديقة مجاهدات كجميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي وغيرهنquot;.

بدوره، يروي محمد العيد (28 سنة) quot;منذ كنت طفلاً، كان بدني يقشعر بمجرد حلول العيد الوطني، لم أعش ثورة التحرير، لكنّي من فرط حبي لها أقرأ عنها في كتب التاريخ، وأتلذذ ببطولات الثوار، أنا أتنفس حب الجزائر أكثر من المجاهدين، وأقدّر كثيرا هذا اليوم وأتمنى بالفعل أن يكون الاحتفال بهذا اليوم عظيما بقدر عظمة الثورةquot;.

ويقول أحمد (25 سنة) العامل بمشفى حكومي: quot;أقدّس العيد الوطني الذي يشكّل عنوانا لتحرر بلد من ربقة احتلال استمر أكثر من قرن ونيف، وتوّج العيد ثورة المعجزاتquot;، بدوره، يشدّد رمضان (28 سنة) الموظف بمؤسسة خاصة: quot;من ذا الذي لا يفرح لعيد الاستقلال والحريّة، ثورتنا عظيمة عظمة شعبناquot;.

كما يحكي quot;فضيلquot; (27 عامًا)، وquot;عبد الصمدquot; (31 سنة) المتخرجان من كلية الإلكترونيك، عن شغفهما بتاريخ بلدهما ويعبر كل واحد منهما عن هذا الارتباط من خلال نشاط الأول في منظمة كشفية وتفاعل الثاني ضمن الحركة الجمعوية، في حين ويقول quot;حسانquot; (29 سنة) وquot;لمياءquot; (27 سنة) أنّهما انضما حديثًا إلى صفوف جبهة التحرير (حزب الغالبية) إيمانا منهما بأنّ الدور سيأتي على طلائع الجيل الجديد لاستلام المشعل، كما يرفضان اختزال حب الوطن في مجرد شعارات وتمظهرات، والأجدى بحسبهما يكمن في التشمير عن السواعد والإسهام في صناعة غد مشرق ورسم جزائر جديدة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم العظيمة.

وفي ردّ منها على المنتقدين للنمط السائد في الاحتفال بالعيد الوطني، تتصور سميرة (29 سنة) العاملة بورشة خياطة، أنّه مثلما نجح الثوار ودبلوماسيو الجزائر في انتزاع الاستقلال من أعتى قوة عسكرية في العالم آنذاك، على الجيل الحالي أن يقتدي بنضال الجيل الأول، من خلال إكمال المسيرة وتلقين دروس الثورة للأجيال الصاعدة.

الخيبات جعلت النكران عنوانا لدى البعض

يذهب الأستاذ quot;أحمد فاضليquot; المختص في علم النفس الاجتماعي، إلى أنّ quot;سلبيةquot; قطاع من مواطنيه الشباب، ناجمة عن المشاكل الاجتماعية المتفاقمة التي جعلت من ثقافة النكران عنوانا كبيرا، ويرى المدرب في التنمية البشرية بمركز الراشد، أنّ حب الوطن ومفهوم الانتماء مغروس في نفوس الشباب بالفطرة لكن واقعهم المهزول، جعلهم يتنكرون لأعز ما يملكون في هذه الحياة وهي الحرية.

من جانبه، يرى الأستاذ quot;محمد جيدةquot; المختص بالتاريخ، أنه من المسلم به وعلى الرغم من كل الاختلافات في آراء وتصريحات الشباب فإن مسؤولية quot;تناسيquot; هكذا ثورة، تتحمل وزارة السلطات بشكل عام حيث من أخطر ما قيل هو تمني بعضهم بقاء الاستعمار الفرنسي، وكأنّ الحرية التي يتمتعون بها شيء إضافي، بل وكأنه عائق للعيش الحسن.

ويضيف جيدة quot;أنّ ما يحصل من ردات فعل سلبية لدى بعض الشباب، ناتجة عن قلة وعي وعدم إدراك كاف، فلو عاش هؤلاء الشبان معاناة آبائهم وأجدادهم، لما تجرّأ أي منهم على التفكير أصلاً بهذا الشكل، ويذهب محدثنا إلى أنّه يمكن محاججة المعنيين، وينبغي للسلطات المعنية أن تتحمل مسؤولياتها، فلا يمكن لمقررات التاريخ وحدها مثلا أن تعطي ذلك المعنى الوطني للانتماء واحترام الثورة، والبداية يجب أن يمر ndash; بحسبه - عبر إعادة كتابة التاريخ بموضوعية لتنوير هؤلاء الشباب بالحقائق التاريخية الصحيحة، كان هامش الأحاديث المنقسمة سببا في حدوث إسقاط آخر على انفصال رأي الشباب، إذ لم يخف العديد شعورهم بالخيبة وصرحوا بأمنية واحدة ووحيدة تكمن في معرفة الحقيقة وفقط، بعيدًا من الأكاذيب التي تلفق بصورة مستمرة. طبعا هي رغبة صادقة منهم كي لا تبقى الصورة المشوهة ، واختصارها بأفلام تُعرض بالأبيض والأسود، وأناشيد وطنية تشيد بالحرية والوطن، وأعلام تعلق في الساحات والمؤسسات والطرقات ورصاصات تطلق عند منتصف ليلة الفاتح نوفمبر/تشرين الثاني، وغرة الخامس يوليو/تموز من كل عامquot;.