التوقف عند شخصية الإرهابي أو الإنتحاري من خلال التحليل النفسي تشير إلى أنه ينطلق دوماً في أفعاله كرد فعل على شعوره بالمظلومية الدائمة في إطاره الاجتماعي، فتتضخم لديه مشاعره السلبية الخاصة بالإنتقام، وهذا ما يجعله عاجزاً عن السيطرة على رغباته الداخلية خاصة العنف الغريزي، فينفجر في وجه المجتمع الذي يدينه ويحمله نتيجة فشله من الأساس.
كان يُنظر للإرهابي في السابق على أنه مجرد مريض نفسي غير واعٍ، يقوم بأفعال تخرج ضمنياً عن سيطرته العقلية، أي أنه يقترب من تعريف المختل عقلياً. لكن بالبحث والدراسة حول هذه الأنماط البشرية من العنف، تم الإستنتاج أنها لا تعاني فقط من حالة مرضية على المستوى الذهني، فتخيل نفسك داخل عملية إرهابية قررت أن تقوم بها ضد جماعة إنسانية، فهذا يعني أنك تدافع من وجهة نظرك عن قضية تستحق القتل أو الموت، مرتبطة بمجموعة من الأفكار الدينية أو السياسية تسمو بك عن الحياة وتمنحها معنى جديد. أي أن الإرهاب بالإضافة لكونه ناتج عن خلل نفسي أو عدم قدرة على التكيف، فهو كذلك يعبر عن مرض اجتماعي عام، يحتوي المجتمع ككل، بوصفه الضحية والجلاد.
فقد أصبحت الساحة العربية ضحية لمزيج من الإرهاب والطائفية والتطرف، بتضافر الأحداث بين العراق ومصر والسودان وغيرها من البلاد، فالذي كان يُحسب على الإرهاب أصبح منتمياً للطائفية والعكس. وتحت ظلال الموت الإنتحاري إختلطت الأوراق وأصبحت عصية على التحليل السياسي أو الإجتماعي، لكن قد يتمكن علم النفس من تحليل تلك الظواهر التي تتسم بالعنف الموجه.
فالإرهاب هو: quot;الإستخدام غير القانوني للقوة والعنف ضد أشخاص أو ممتلكات، لإثارة الذعر داخل المجتمعات حكومات أو شعوب، بهدف تحقيق أهداف سياسية أو إجتماعية، والترويج لبعض القناعات الفكرية أو الدينيةquot;. واضعين في الإعتبار أن هذا التعريف يعبر عن حال ضحايا الإرهاب أو التطرف ولا يعبر عن الإرهاب في حد ذاته. لكن يظل السؤال الذي يطرح نفسه دائماً، وبإلحاح هو حول الطبيعة النفسية التي ينطلق منها الفعل الإرهابي بشكل عام، وتُعد الإجابة عليه محاولة لفهم الإرهاب بوصفه فعلاً خارجاً عن السياق الاجتماعي والنفسي الطبيعي، بحيث يمكن أن يقع مباشرة تحت طائلة المرض النفسي.
العنف كغريزة
تبعاً لعلم النفس التحليلي، فإن أي شخص قادر على ممارسة أقصى حدود العنف بما قد يصل لقتل النفس أو الآخرين، إذا ما تعرض لضغوط ومؤثرات خارجية قد تصيبه بخوف شديد يفقد فيه السيطرة على المنظومة السلوكية التي يتبعها في حياته اليومية، أي حالة خلل مفاجئ في المسيرة الفكرية والنفسية للفرد تؤدي إلى انهيار سلوكي. فالخوف وعدم الأمان النفسي والإجتماعي من أهم أسباب انتشار العنف. فالشخص الطبيعي من الممكن أن يتحول إلى قاتل في لحظة إذا فقد قدرته على التكيف النفسي والرضا الإجتماعي نتيجة لمؤثر خارجي لحظي أو دائم لفترة زمنية طويلة، وهنا يتم التحول من العنف الغريزي الذي قد يهدف للدفاع عن النفس إلى العنف الموجه ضد فئة أو جماعة بعينها، ويتحول الشخص الطبيعي إلى شخص سيكوباتي (مضاد للمجتمع).
الشخصية السيكوباتية شخصية توجه العنف تجاه الآخرين دون الشعور بأي ألم نفسي أو ذنب أو حتى التعاطف معهم. فالعدوان كما صنفه علماء النفس، نوعان الأول غير موجه وتتسبب فيه مشاعر الغضب، والثاني الموجه وهو الذي يتسم بمزيد من التحديد ويستخدم لتحقيق أفكار وأهداف أخرى، ويأتي الغضب فيها في المرتبة الثانية. وشخصية الإرهابي من الصنف الثاني وتتسم بعدوانية معقدة.
الظلم الاجتماعي والبحث عن الأمان
طبقاً للإحصائيات التي رصدت أعمار الإرهابيين أو الانتحاريين، وُجد أن غالبيتهم من الذكور وتتراوح أعمارهم بين 16 ـ 28 عاماً، وهم من طبقات إجتماعية وإقتصادية فقيرة أو معدمة. مما نستنتج منه دلالة غاية في الأهمية، تتعلق بأعمار المنفذين للعمليات الإرهابية، فالشاب في هذه المرحلة العمرية يحتاج إلى دعم نفسي وإجتماعي قوي يدفعه لتجاوزها لتحقيق ذاته، بأن يكون فعالاً في مجتمعه. لكن حينما لا تلبى إحتياجاته النفسية والإجتماعية يصبح أكثر عرضة لحزمة من الإضطرابات النفسية الناتجة عن شعوره باليأس والإحباط والإغتراب، خاصة في المجتمعات التي تتسم بالظلم الإجتماعي والتفاوت الطبقي وغياب العدالة بمفهومها الأشمل. فيصاب الشاب بحالة من الخوف الدائم يُشكل دافع له للبحث عن الأمان الإجتماعي في ظل جماعة بعينها تدعمه وتحقق له احتياجاته وتشعره بالأمان. خصوصاً إذا تزامن ذلك مع حالة فساد سياسي فرض شكلاً من أشكال العزلة على طائفة أو فئة اجتماعية. فطبقاً للدراسات النفسية على شخصية الإرهابي، وُجد أنه أكثر انتماءاً للجماعة الصغيرة من المجتمع ككل، كما أنه يعتبر المجتمع مُجسداً لمخاوفه الذاتية التي عانى منها في ظله، مما يحتم في النهاية أن يوجه رصيد عنفه الذي خرج من نطاق الغريزة العادية، ضد كل عناصر المجتمع من نظام سياسي أو طائفي.
فالإرهاب قد مر بمرحلتين أساسيتين مرتبطتين بإرتفاع نسبة الفساد السياسي أو الإجتماعي، الأولى كان فيها موجهاً ضد النظام السياسي في العقدين السابقين، ثم تأتي المرحلة الحالية وهي مرحلة الإرهاب الطائفي الذي أصبح يُحمل المجتمع أو طائفة واحدة منه مسؤولية الإحباط والاغتراب النفسي، ليجد المنتحر أو الإرهابي أمانه في نفي الآخر تماماً، أكثر منها محاولة السيطرة عليه أو تخويفه تحت مظلة التدين المتطرف أو الفهم الخاطئ للدين.
صراع الـquot;أناquot; والـquot;هوquot;
لا يوجد ما يثبت قطعياً أن العنف والدين مرتبطان عضوياً، فليس بالضرورة أن يتسم سلوك المتدين بالعنف أو التطرف، ولكن المشكلة تكمن في صراع نفسي أكبر من فكرة التدين بمفهومه الشامل. طبقاً لنظرية فرويد عن النفس البشرية بأنها تتكون من ثلاث منظومات رئيسية هي (الأنا الأعلى) وتمثل المعايير والقيم، و(الهو) الغريزة والرغبة، و(الأنا) منظم الغريزة والقيم. وبالتالي كل رغبات الإنسان لا بد أن تُلبى ضمن منظومة إجتماعية أو دينية خاصة، ومن ضمنها العنف كغريزة أساسية.
هنا يكون دور الدين كقيمة عليا تنظيم الرغبات الإنسانية لتحقيق السمو الإنساني، لكن في حال تناول الدين بشكل متطرف أو خاطئ، وتأويله بما يتفق مع الرغبة، تفقد (الأنا) السيطرة على (الهو)، ويمثل الدين أو الفهم الخاطئ له مكمن الخطر، فشخصية الإرهابي تنتمي لمجموعة من الرغبات المريضة التي يجد لها قبولاً في منظومته الأعلى وهي الدين، وبالتالي يندفع في القتل الغريزي دون أن يشعر بأي تأنيب قد يأتيه من الأنا الأعلى أو منظومة القيم أو الضمير.
فالإرهابي ينتمي كلياً إلى الجماعة التي يشعر معها بأمان نسبي والتي تمثل بالنسبة له منظومة القيم التي تحدد سلوكه وأفكاره، خصوصاً مع ما تمارسه الجماعات المتطرفة من فرض سياج من العزلة على عناصرها الداخلية، أو الأفراد المشكلين لها، حتى تستطيع أن تعزز قيم العنف الذي أصبح في هذه الحالة مقدساً أو دينياً.
كيف يفكر الانتحاري؟
سؤال دائماً ما يطرح نفسه، كيف يفكر الإنسان المقدم على عمل انتحاري ليقتل نفسه والآخرين في لحظة يتوقف فيها الزمن؟ فالشخص الذي قتل أبناءه ثم قرر أن يعترف بجريمته على الملأ تحت زعم دعوى دينية تأتيه باطنياً بضرورة التخلص من مجتمعه الصغير، لا يختلف كثيراً عن الإنتحاري الذي فجر نفسه أمام كنسية أو مسجد، ليتخلص من الجماعة الأكبر. كلاهما تتحكم فيه مجموعة من الأفكار الوسواسية تدفعه للتخلص منها عن طريق الإنتحار أو القتل. فشخصية الإنتحاري غالباً لا تفكر في أي شيء غير تلك الوساوس التي تعززها مشاعره السلبية بالإنهزامية والحرمان العاطفي والتنشئة الإجتماعية التي قد تتسم بالقسوة أو العنف.
فالانتحاري يتسم في عمقه بالطفولية وعدم قدرته على الاستقلال، وغالباً ما تكون تلك الشخصيات هي الأدنى في أي تنظيم ديني أو سياسي، فهي غير ناضجة إنفعالياً أو عقلياً مما يُسهل قيادتها والسيطرة عليها سواءً بالإستغلال الخاطئ لأفكار العالم الآخر والحياة بعد الموت، أو غيرها من المنظومات التي تشكل القيم الأساسية في الجامعات الدينية أو التنظيمات السياسية، تحت مسميات الشهادة والخلود. إذن الانتحاري شخصية لا تتسم بالقوة وترغب في الموت من الأساس، وبالتالي ما يضفيه الإرهاب خصوصاً في إطاره الديني من شرعية لهذا الفعل، أنه ينفي لديه أي شعور مسبق بالذنب أو مجرد التساؤل عن ضرورة القتل.
الإرهاب والتعاطف اللاواعي
أثبتت الدراسات التي أجريت على التعامل الإعلامي والحكومي مع حالات ما بعد الأحداث الإرهابية، أنها قد تزيد من شيوع الإرهاب وانتشاره، خصوصاً من الجانب النفسي. فالإلحاح الإعلامي على التأثيرات السلبية التي أنتجتها الأحداث الإرهابية في المجتمع يحقق أهداف الإرهاب بشكل كامل. فالهدف الأصلي من العمليات الإرهابية أو الانتحارية هو إثارة الرعب والتخويف، وتحقيق الذات المتضائلة لشخصية الإرهابي الذي يجد نتيجة فعله واضحة في زعزعة الأمن وإثارة الفتن الداخلية والخارجية. وبالتالي ما يضفيه الإعلام من أسطورية على شخصية الإرهابي - كما فعلت الولايات المتحدة مع أسامة بن لادن أو غيره، والإحتفاء السنوي بالحدث- تشجع الشخصيات ذات السمات السيكوباتية الكارهة للمجتمع أو النظام السياسي على الإنضمام لجماعة ما تساعده على تخليد ذكراه بعملية مشابه، بل والأخطر أن يتم هذا بشكل فردي، بحيث قد يذهب أحدهم متطوعاً للقيام بأعمال إنتحارية لنيل الشهرة، فيقرر قتل أقرب مجموعة منه يشعر معها بحالة من العزلة أو الاختلاف.
كما أن بعض الدراسات أكدت أن التعامل الأمني العنيف الذي يلي الأحداث الإرهابية يساعد على نمو تيار آخر كان خاملاً يقوم بعمليات انتقامية كرد فعل عكسي على العنف الحكومي. وكذلك رغم ما قد يشاع من رفض إجتماعي وإدانة لأي حدث إرهابي، إلا أن التعاطف الإجتماعي الكامن مع الفعل الإرهابي، خصوصاً في حالات الإرهاب الطائفي أو الإحساس الإنتقامي الذي يشعره رجل الشارع العادي ضد النظام السياسي، قد يساعد على دعم الإرهاب وإن كان بشكل لا واعٍ في المجتمع، مما يزيد من شرعية الإرهاب أو الأفعال الإنتحارية.
وبالتالي يتضح من خلال التحليل النفسي لشخصية الإرهابي أو الانتحاري، أنه يأتي دائماً كرد فعل على شعوره بالمظلومية الدائمة في إطاره الاجتماعي، فتتضخم لديه مشاعره السلبية الخاصة بالانتقام، ويصبح عاجزاً عن السيطرة على رغباته الداخلية خاصة العنف الغريزي، فينفجر في وجه المجتمع الذي يدينه ويحمله نتيجة فشله من الأساس.
التعليقات