تشيرتشل (اليمين) وروزفلت

طالما شكا الغربيون، وخاصة الأميركيين، من افتقار الأمم المتحدة إلى القدرة الحربية الحقيقية. ويشير هؤلاء الى إخفاقاتها في البوسنة إبان حرب البلقان ومؤخرا في غرب افريقيا كمثالين على هذا. لكن ثمة مفاجأة بانتظار هؤلاء وغيرهم. فقد كُشف النقاب عن الهيئة الدولية وُلدت في ظروف خاصة داخل البيت الأبيض وكان يُقصد لها أن تكون ماكينة حربية ضاربة.


يُرجع تاريخ تأسيس الهيئة الرسمي الى فترة مؤتمر سان فرانسيسكو من ابريل / نيسان إلى اكتوبر / تشرين الأول 1945. وهو المؤتمر الذي أقام فيها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ترتيبا عالميا جديدا.

لكن ديزي ساكلي، التي كانت إحدى أقرب المقرّبين الى الرئيس الأميركي وقتها فرانكلين روزفلت، دوّنت في دفترها الخاص أن الفكرة اتخذت شكلها عندما توجه الرئيس الى فراشه في ليلة 28 ديسمبر 1941، أي قبل أربع سنوات من انعقاد مؤتمر سان فرانسيسكو.

ولهذا التاريخ مغزاه. فقبله بثلاثة أسابيع، في 7 ديسمبر، شن اليابانيون هجومهم المباغت على بيرل هاربر في هاواي. وفي 11 من الشهر أعلنت المانيا وإيطاليا الحرب على الولايات المتحدة. وبعد قرابة سنتين من التردد والغموض أعلنت واشنظن أنها quot;داخل حلبة القتالquot;.

عندها سارع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشيرتشل الى لقاء الرئيس روزفلت في البيت الأبيض وناقش معه كيفية تصدي دول التحالف لقوات المحور (المانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الامبراطورية) وأيضا، والمهم، تسمية ذلك التحالف.

تشيرتشل عاريا

أدولف هتلر في إحدى خطبه النارية

تقول ساكلي: توجه روزفلت الى السرير، لكن عقله كان نشطا بالتفكير حتى خطرت له الفكرة فجأة. وفي الصباح، في اللحظة التي أكمل فيها إفطاره، نقلوه على كرسيه المتحرك الى غرفة تشيرتشل. فطرق على بابها، وعندما لم يتلق ردا دفع ببابها ودخاها. وإذا بتشيرتشل خارج من الحمام وهو عار كيوم ولدته أمه إلا من منشفة على رأسه. فأشار اليه روزفلت وصاح: quot;فلنسمها الأمم المتحدةquot;. ورد تشيرتشل بالقول: quot;حسناquot;!

بعدها جلس الزعيمان لمناقشة فكرة الأمم المتحدة هذه. وكان تصورهما لها أن تكون هيئة دولية قادرة على النصر في الحرب العالمية الدائرة، وقادرة أيضا بعد النصر على حفظ السلام ومنع نشوء الدكتاتوريات والتحالفات والمؤسسات المتعددة الأطراف الساعية للدكتاتورية في المستقبل.

وكانت فكرة روزفلت تقوم على إقناع الأميركيين - المنكبّين حتى ذلك الوقت على همومهم الداخلية فقط - بقبول قدر بلادهم باعتبارها قوة عالمية عظمى لها واجباتها ومصالحها على خشبة المسرح الدولي. وقد أتى كل هذا وفقا لكتاب جديد مثير من تأليف دان بليش بعنوان quot;أميركا وهتلر والأمم المتحدة: كيف انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وأتوا بالسلامquot; وألقت عليه الضوء صحيفة quot;غارديانquot; البريطانية قبيل نشره الشهر الحالي.

البداية بـ26 دولة

صدر إعلان تأسيس الأمم المتحدة في الأول من يناير / كانون الثاني 1942 قائما على تصور روزفلت وتشيرتشل لها، وعلى خطاب الرئيس الأميركي الشهير عن quot;الحريات الأربعquot; (حرية التعبير، وحرية العبادة، والحرية من العوز، والحرية من الخوف... لكل فرد في العالم)، وأيضا على الميثاق الأطلسي للعام 1941.

ووقع على الإعلان - إضافة الى روزفلت وتشيرتشل - السوفياتي جوزيف ستالين، والصيني تشيانغ كاي شيك، والعديد من المستعمرات البريطانية، والدول الأوروبية المحتلة نازياً، ومجموعة من الدول اللاتينية الموالية للولايات المتحدة. والتزم كل من هذه الأطراف بـquot;توظيف سائر الموارد العسكرية والاقتصادية ضد دول المحور وتوابعهاquot;. وقالت الأطراف الموقعة إن نضالها quot;مشترك ضد القوى البربرية الوحشية الساعية الى إخضاع العالم لسيطرتهاquot;.

وكان بين الجهات اللافتة للنظر بحضورها الهند التي كانت مستعمرة بريطانية لكن روزفلت أصر على وجودها كدولة مستقلة. وعلى الطرف الآخر كانت الجهة اللافتة للنظر بغيابها فرنسا لأن الرئيس الأميركي كان يعترف - حتى تحريرها بنهاية الحرب- بحكومة فيشي وليس بحركة الجنرال ديغول. وفي الإجمال وقعت 26 دولة على ذلك الإعلان، ويقف العدد اليوم عند 192 دولة.

ستالين المتعجَّل

quot;تايمز هيرالدquot; تتحدث في 1943 عن الأمم المتحدة كقوة عسكرية

رغم فشل quot;عصبة الأممquot; - رئيسا بسبب معاداة واشنطن لها - فقد استهوت فكرة الأمم المتحدة من أجل التصدي للتيارات الفاشية في العالم الأميركيين المتوجسين خيفة من هجوم ياباني على أراضيهم. كما استهوت الأوروبيين الذين اضطروا إلى مواجهة القوة النازية الضاربة منفردين لردح طويل من الزمن. وسرعان ما استُخدمت عبارة quot;قوات الأمم المتحدةquot; عوضا من quot;القوات الأميركيةquot; أو quot;البريطانيةquot; أو quot;الروسيةquot; في عمليات الحلفاء العسكرية.

وقد احتفل الأميركيون باليوم الأول للأمم المتحدة في يونيو / حزيران 1942 بكرنفال غير مسبوق الحجم في نيويورك، ودعمته ملكة بريطانيا العظمى اليافعة وقتها، اليزابيث الثانية، نزولا على رغبة تشيرتشل.
وحتى ستالين نفسه كان يطير على جناح الحماسة الى حد أنه أمر جنرالاته بالاستعداد للزحف الى برلين. وكعادته في ما تعلق بأطماعه المقبلة، كما يقول بليش في كتابه الجديد، فقد سعى الدكتاتور السوفياتي لحث وزير الخارجية وقتها، انتوني إيدن، على القبول بـquot;مناطق نفوذ في أوروباquot;.

ويشير الكاتب الى أن هذا حدث قبل ثلاث سنوات من نهاية الحرب العالمية التي أدى اندلاعها الى ولادة quot;الأمم المتحدةquot; التي أعلنت نضالها الحربي الضارب المشترك quot;ضد القوى البربرية الوحشية الساعية الى إخضاع العالم لسيطرتهاquot;. على أن وزير الخارجية البريطاني رفض عرض الرئيس السوفياتي.

الستار الحديدي

مع اشتداد وطيس الحرب وميل الموازين تدريجيا لصالح الحلفاء، أثبتت الأمم المتحدة أنها مواتية على صعيدين، أولهما أنها ماكينة حربية ضاربة، والثاني أنها بوتقة تجمع أطراف ما سُمي quot;العالم الحرquot;. على أن هذا الوضع وصل الى نهايته مع نهاية الحرب نفسها في 1945 عندما انقسم هذا العالم الحر الى معسكرين، غربي وشرقي. وهو الانقسام الذي حدا بتشيرتشل لطرح وصفه الشهير القائل إن quot;ستارا حديدياquot; شطر أوروبا نصفين متضادين.

ومع وجود أميركا وبريطانيا في جهة والاتحاد السوفياتي في الجهة المضادة داخل مجلس الأمن المنبثق من الأمم المتحدة (عقد أول جلساته في لندن في يناير 1946)، اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن التخلي عن الترتيب العالمي القديم لآخر جديد أتى معه بأسئلة عسيرة أهمها يتعلق بخيار استخدام القوة ومتى تُستخدم.