لم يكن الديكتاتور الليبي الراحل معمّر القذافي يبدي اهتمامًا بالثقافة القديمة لسكان الجرمة (الجرمنتيون) من البربر الذين بنوا ذات يوم حضارة مزدهرة في قلب الصحراء. إلاَّ أن علماء الآثار يستبشرون خيراً بأن سقوط القذافي سيسلّط الضوء على تلك الحقبة المهمة والمنسية من تاريخ الصحراء الأفريقية.


لوحة عثر عليها في جنوب الجزائر وتظهر عربة قتالية تابعة لحضارة الجرمنت

طرابلس: الزعيم الليبي المقتول معمّر القذافي كان دائم الإصرار على الروابط التي تجمع بين جمهوريته وجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى.

لكنه كان أقل اهتماماً بالحضارة الأفريقية، التي ازدهرت لأكثر من 1500 سنة في ما يعرف الآن باسم quot;ليبياquot;، ولم تأت المناهج الدراسية الليبية في عهد القذافي على ذكر هذا التاريخ العظيم، بحسب صحيفة الـquot;غارديانquot; البريطانية.

أما اليوم، يأمل باحثو الآثار، الذين يعملون على دراسة الحضارة الصحراوية التي ازدهرت قبل وقت طويل من العصر الإسلامي، بأن تقوم الحكومة الليبية الجديدة بعودة ثقافة المحارب الأفريقي، التي ذكرها هيرودوت في تأريخه لها، إلى مكانها الصحيح في تاريخ ليبيا.

في حين أن الآثار الرومانية في صبراتة وبدة (مواقع تراثية وتاريخية معروفة عالمياً) تحظى باهتمام واسع، وتبقى آثارالتراث الثقافي الأخرى في ليبيا منسية إلى حد كبير.

وأظهرت البحوث الجديدة، التي اعتمدت على التقاط الصور بوساطة الأقمار الصناعية، وجود العديد من البقايا والآثار التي تساعد على دراسة هذه الثقافة ونشرها على نطاق أوسع مما كان يعتقد سابقاً.

وأكدت الأبحاث رأي هيرودوت، الذي لا يعتبر دائماً الأكثر موثوقية من المؤرخين من عالمه، بأن الآثار التي وجدت تشير إلى وجود quot;أمّة عظيمة جداًquot;، في ليبيا ذات تاريخ زاخر بالمعارف والحضارات.

تم العثور على (جرمة) Germa مدينة أثرية ليبية في الجزء الجنوب الغربي من البلاد في الصحراء الكبرى، تنسب إلى سكانها القدامى الجرمنت. وتتبع هذه المدينة إداريًا لشعبية وادي الحياة (وادي الآجال) وبالقرب من المنطقة المحيطة لمفترق الطرق القديم عبر الصحراء.

اشتهر الجرمنتيون بجرأتهم الكبيرة وقدرتهم على اختراق الصحراء وشجاعتهم النادرة في التصدي للغزاة، فقاوموا النفوذ الروماني بالتحالف مع القبائل الليبية الأخرى حتى تمكنوا مجتمعين من الوصول إلى أبواب لبدة سنة 70م.

لم تقم علاقات سلمية مع الرومان إلا في عهد الإمبراطور الليبي الأصل (سيبتيموس سيفيروس) في القرن الثاني الميلادي، حيث نشطت التجارة، وبلغت جرمة أوج ازدهارها في القرنين الثاني والثالث الميلاديين.

اكتشفت أخيرًا بقايا مدينة جرمة الشهيرة، عاصمة الجرمنتيين تحت المدينة الإسلامية التي تحمل الاسم نفسه، والتي كانت تعدّ محطة مهمة لتجار القوافل.

حيث كانت مدينة جرمة عامرة عندما فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي.

ويدلّ العدد الهائل من المدافن الجرمنتية المكتشفة في وادي الحياة على أنهم كانوا كثيرين. كما كشفت مواقع جرمنتية أخرى في مناطق متسعة تشمل كذلك وادي الشاطئ والمناطق المحيطة بزويلة ومرزق وغدوه ووادي برجوج.

هذا يدل على الانتشار السكاني، كما يدل على انتعاش الزراعة في منطقة متسعة من الجنوب.

كما إنمعظم المعلومات الأثرية المتوافرة تخصّ المدافن الجرمنتية التي كان بعضها على شكل (أهرامات الحطية) والبعض الآخر على هيئة قباب تستند إلى قواعد مربعة (المقابر الملكية) ومقابر أبو درنه.

تتميز القبور الجرمنتية بأن لها شواهد على شكل راحة اليد (خميسة) تتقدمها موائد قربان حجرية. وتتراوح هذه الشواهد في الحجم من الصغير الذي لا يتعدى ارتفاعه 50سم إلى شواهد ضخمة ترتفع لمترين.

على الرغم من زيادة الوعي بأهمية الحضارة المفقودة منذ زمن طويل في ليبيا، إلا أن القذافي لم يكن مهتماً بهذه التطورات.

في هذا الإطار، يقول البروفسور ديفيد ماتينغلي من جامعة ليستر، الذي قضى معظم سنوات العقد الماضي في البحث عن الآثار الجرمنتية: quot;نحن نعلم أن المواد والتقارير التي توصلنا إليها من عمليات التنقيب انتهت على طاولة القذافي، الذي أهملها، ولم يأت على ذكرها حتى في مناهج التدريسquot;.

ويأمل ماتينغلي أن يتغير الحال بعد سقوط القذافي، لا سيما وأن العلماء عثروا على أدلة جديدة مهمة من حيث الحجم والأهمية من الحضارة الجرمنتية.

وأشار إلى أن فريق علماء الآثار استخدم تكنولوجيا الأقمار الصناعية للبحث عن الآثار جرمة، وأظهرت الصور التي التقطت quot;مئات القرى والبلدات الجديدة، وهي جميلة لدرجة إنها تخطف الأنفاسquot;.

وأضاف quot;الشيء المهم هو أن ندرك أن هذه الآثار تدل على ثقافة الحضرية وزراعية مستقرة كانت موجودة في وسط الصحراءquot;، مضيفاً أن الكشف عنها بمثابة إنجاز مذهل يوازي اكتشاف عدد من قلاع القرون الوسطى الانكليزية.

وعلى الرغم من البحوث التي أجراها ماتينغلي عبر استخدامالأقمار الصناعية، إلا أنه يخشى من أن عمليات التنقيب عن النفط قد تعرّض هذه الآثار للخطر، وتمنع الأكاديميين من دراستها.

ودعا إلى حماية هذا الاكتشاف كي لا يتعرض للخطر بسبب عمليات الحفر والصناعات النفطية، مشيراً إلى أن ذلك قد يؤدي إلى الإضرار بالسياحة التاريخية التي يمكن أن تزدهر في ليبيا.

خلال العمليات العسكرية التي نفذها حلف الناتو ضد القذافي، قام ماتينغلي وعدد من زملائه بتزويد الحلف بإحداثيات المواقع الأثرية الرئيسة لحمايتها من الأضرار الناجمة من القصف. ويسعون اليوم إلى التعمق في دراستها وإعطائها الحيز الذي تستحقه في الكتب التاريخية والمناهج الدراسية، على أمل أن تفتح صفحة جديدة لحضارة الصحراء الأفريقية الضائعة.