تحول العنف في الجزائر إلى ظاهرة شديدة الخطورة، تُربك المجتمع بكامله، وخاصة في ظل فشل الحلّ الأمني، وانتشار مختلف أشكال الأسلحة البيضاء في يد الأفراد والعصابات.


الأسلحة البيضاء تنتشر من دون رقيب أو حسيب

باتت ظاهرة العنف في المدن الجزائرية إحدى السمات الرئيسة للمجتمع، فمظاهر هذا العنف تطورتأخيرًا، عبر استعمال مختلف أشكال الأسلحة البيضاء. فمن الخناجر في أصغر أحجامها إلى سيوف الساموراي، الأمر الذي يطرح تساؤلات عدة من طرف المراقبين عن دور الفرق الأمنية في الحدّ من انتشار هذه الأسلحة، وكيفية وصولها إلى الأفراد والعصــابات بكل سهولة ويسر، لتنشب بعد ذلك معارك شديدة بين شباب الأحياء المختلفة، على غرار ما حدثأخيرًا في حي باش جراح، أحد الأحياء العريقة في العاصمة الجزائر.

آخر مسرح لهذه الحوادث الدامية كان في أحد أحياء مدينة بئر خادم في العاصمة الجزائرية، عندما شهدت نشوب حرب بالسيوف والخناجر ومختلف الأسلحة البيضاء بين ساكنين جدد في حي في منطقة السبالة، ولم تهدأ الأمور إلا بعد تدخل مصالح الأمن والشرطة.

وفي مدينة بوفاريك في ولاية البليدة، تعرّض خلال هذا الأسبوع شاب يبلغ من العمر 19 سنة إلى اعتداء وحشي من طرف عصابة اختطفته، وقامت ببتر يده، وتمزيق جسده بالسيوف، في مشهد لا يظهر إلا في أفلام الرعب الهوليودية، وقبل ذلك شهدت أحياء عدة في العاصمة الجزائرية وولايات أخرى أحداثًا مشابهة.

وتشير إحصائيات للمديرية العامة للأمن الوطني حصلت عليها quot;إيلافquot; إلى تسجيل نحو 36572 قضية تتعلق بجرائم القتل والتهديد والجرح والقذف والسب والإخلال بالآداب العامة خلال النصف الأول من هذه السنة.

وقد عالجت الشرطة نحو 24443 قضية، أي بنسبة 66.84 %، في وقت تم إيداع نحو 4070 شخص في الحبس المؤقت، واستفاد 770 شخصًا منهم من الإفراج المؤقت.

وإذا عدنا إلى النصف الأول من العام الماضي 2010 نلاحظ أن نسبة الإجرام ارتفعت، فقد بلغ عدد الجرائم المسجل من طرف وحدات الشرطة فقط أي من دون إحصاء تدخلات الدرك الوطني نحو 36184 قضية، تمت معالجة 23345 قضية، أي ما نسبته 64.52 %.

وحسب المراقبين، فإنه رغم الإجراءات الوقائية التي باشرتها المديرية العامة للأمن فيالجزائر، إلا أنها لم تستطع الحدّ من هذه الظاهرة الخطرة، التي باتت تهدد المجتمع الجزائري. وقد وضعت المديرة العامة للأمن تحت تصرف المواطنين الرقم الأخضر 1548 من أجل الإبلاغ عن الجرائم والمجرمين، في إطار عملية إشراك المواطن في العملية الأمنية.

وكشف البروفيسور مصطفى خياطي، رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث، quot;فورامquot; عن أن الجزائر مقبلة على موجة عنف ثانية، بعد تلك التي شهدتها خلال quot;العشرية السوداءquot;، أبطال هذه الموجة هم نحو 950 ألف شابًا منضحايا الإهمال من قبلالدولة، التي لا توليهم الاهتمام وتعرّضهم للتهميش واللا عدالة، حتى أصبح هؤلاء- حسب خياطي- ينظرون إلى الدولة نظرة عداء، لأنها السبب في وضعهم المزري.

إلى جانب هؤلاء، خلفت quot;العشرية السوداءquot; أكثر من مليون طفل مشرد، لم يتم التكفل سوى بنصفهم، والباقي أصبح فريسة للعنف والاضطهاد في الشارع، إلى جانب هؤلاء يوجد نحو 20 مليون شاب في الجزائر يعاني الكثير منهم ويلات التهميش والبطالة، وهم قنابل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة.

الغريب في الأمر أن مظاهر استعمال السلاح كلغة للحوار لا تقتصر فقط على الشباب اليائس أو المهلوس تحت تأثير أقراص المخدرات، بل هي لغة يلجأ إليها رجال السياسة لإزاحة خصومهم المنافسين، فصورة النائب البرلماني، قادري ميلودي، من حركة الإصلاح الوطني،لا تزال في الأذهان، وهو ينزف دمًا إثر تلقيه طعنات عدة بسكين بعد معركة كسر عظام بين جناحين متصارعين في هذا الحزب الإسلامي من أجل رئاسته.

حينها اتهم هذا النائب الإسلامي منافسه مرشح رئاسيات 1999 جهيد يونسي بالوقوف وراء الحادث. أما رئيس جبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم فلم يجد أي حرج في تهديد خصومه بمعركة حامية الوطيس، ستسل فيها السيوف، وتقطع فيها الرؤوس، حينما خاطب أتباعه قائلاًَ: quot;سلوا السيوف واقطعوا الرؤوسquot;، فأصبحت العصي والهراوات، هي لغة الحوار بين الإخوة الأعداء في الحزب العتيد. وفي حزب التجمع الوطني الديمقراطي، أحد أحزاب التحالف الرئاسي، الذي يترأسه الوزير الأول أحمد أويحي، خاطب أحد النواب آخر، قائلاً quot;سأصفيك جسديًا لأنك صفيتني سياسيًاquot;.

ويشير خبراء اجتماع إلى وجود عوامل إضافية عدة تسببت في تفشي ثقافة العنف في المجتمع الجزائري، وفي صدارتها الأزمة الأمنية، التي عاشتها الجزائر خلال التسعينيات.

في هذا السياق يعتقد الباحث الاجتماعي والأستاذ في جامعة جيجل، شيهب عادل، في تحليله لظاهرة العنف في المجتمع الجزائري خلال حديثه معquot;إيلافquot; أن quot;التأثير النفسي، الذي سكن نفوس بعض الشباب ممن يتأثرون بغيرهم أو بالظروف التي يعيشونها، جعلهم يعيشون في أحلام اليقظة، منصرفين إلى تناول بعض المهلوسات فتؤثر على شخصيتهم المنهارة أصلاً، ليلجأوا إلى العنف والجريمة، أو نتيجة لإحباط أصابهم في الحياة الدراسية أو العملية أو العاطفية، ومع غياب مؤسسات مجتمع مدني تكفلهم، وتشد أزرهم، لا يجدون سوى طريق الانحرافquot;.

من جانب آخر، يدعو شيهب إلى ضرورة عدم إغفال دور التكوين الفكري والتنشئة الأخلاقية عند الحديث عن الظاهرة، حيث يؤكد quot;نجد من الناس من ترعرعوا على تقديس المعتقدات الدينية، ولاسيما الذات الإلهية، وعدم التفريط بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، بل والدفاع المسلح عن ذلك إن اقتضى الأمر. فإذا حدث أي هجوم على الذات الإلهية، أو سخرية من المقدسات، أو تم التعرّض لأي من القيم الأخلاقية والاجتماعية، فماذا ينتظر أن يكون رد الفعل، ليس من قبل الشباب الذين يشار إليهم بأصابع الاتهام في أعمال العنف عادة، وإنما من جمهور المجتمع هذه المرة، لحساسية الأمر وخطورته، وفقا لتنشئتهم الفكرية والأخلاقيةquot;.

في سياق متصل، يشير شيهب إلى أن quot;غياب العدالة الاجتماعية، واستئثار فئة من ذوي النفوذ في المجتمع بالمال والثروة والتسلط السياسي والاجتماعي، وضعف أو انعدام تكافؤ الفرص في المشاريع والحقوق الاجتماعية الطبيعية والمدنية، مع انتشار ظواهر التمييز الطبقي الاجتماعي، وبروز العنصرية بألوانها المختلفة، وغلاء المهور، في مقابل ازدياد طابور العازبين، وغلاء الأسعار بصورة عامة، كما إن كثرة المشكلات الاجتماعية، سواء تجلت في صورة تعصب بين الأفراد والجماعات والأحزاب والقبائل، وما يستتبع ذلك من ظواهر الكراهية والثأر والانتقام، أم كانت في صورة خلافات داخلية بين الآباء والأبناء والأزواج وزوجاتهم والأقارب وبعضهم، ذلك كله يمثل مناخًا ملائمًا لتقبل أفكار العنف وثقافتها، كمخرج سريع من تلك الأزمات والمآزق، خاصة إذا ما تطورت وتناغمت حتى بلغت حدًا يصعب السيطرة عليه أو معالجته، أو هكذا يبدو الأمرquot;.

وفي الجانب السياسي، تتمثل مظاهر هذه الدوافع في quot;غياب المشاركة السياسية لشتى شرائح المجتمع، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وتزوير الانتخابات، ولا سيما البرلمانية منها، وقمع المعارضة السياسية على مستواها الفردي والجماعي، قمعًا مباشرًا بفتح السجون والمعتقلات لها، أو غير مباشر بتنحيتها عن المشاركة السياسية الفاعلة، كما إن غياب دور القضاء، وتطبيق مبدأ سيادة القانون، وتفشي الفساد في الأجهزة القضائية، ذلك كله يعني اللجوء إلى أقرب الطرق وأسرعها، وهو أسلوب quot;العنفquot; كتعبير عن اليأس والإحباط وفشل أي مشروع سلميquot;.

ينتقد شيهب اعتماد الأسلوب الأمني في معالجة ظاهرة العنف، ويعتبر هذا الأسلوب الداء بعينه، إذ كثير من أعمال العنف إنما تأتي كرد فعل مضاد للعنف السلطوي والأمني، ولو تتبع باحث ما نشأة الظاهرة تاريخيًا... لوجد أن المؤسسات العقابية أو السجون هي الحقل الأنسب لتنامي ظاهرة العنف وانتشارها بشكل كبير، والشيء نفسه يصدق بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، أو الإرهابية تحديدًاquot;.

يضع الباحث شيهب سيناريوهات عدة،اعتبرها بمثابة حلول للظاهرة، أولها يتجلى في الحل التربوي، عن طريق إدراك خطورة إغفال المناهج التربوية لمفردات التربية المدنية والحضارية وإعادة النظر في بعض الأفكار والقراءات والنصوص التراثية والحديثة، التي أدى فهمها يومًا ما إلى تبني أفكار وأحكام لا تنسجم وروح الدين ومقاصده في التعامل مع الآخر القريب، فضلاً عن البعيد، كما إنه لابد أن تقوم الوسائل الإعلامية بأدوارها التربوية بدلاً من الاستمرار في مسلسل الهدم، عبر ما يبثه الإعلام المرئي، خاصة من مسلسلات العنفquot;.

وشدد على ضرورة السعي الجاد للحكومةإلى تحكيم مبدأ سيادة القانون في معايير توزيع المشاريع، وتطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص في حصول كل مواطن على حقوقه الطبيعية والمدنية في الثروة والتعليم والعمل، والصحة، والسكن، والزواج، والتخفيف من الأعباء الحكومية المثقلة لكاهل المواطن، ثم مقاومة ظواهر التمييز الاجتماعي والطبقي والعنصرية والتعصب بشتى صوره والكراهية، والثأر، بتعاون الجهات ذات العلاقة من تربية وإعلام وأمْن وقضاء وأوقاف (مسجد)، كما إن سعي الوجهاء والمصلحين إلى احتواء الخلافات العائلية والاجتماعية الخاصة من شأنه أن يقلل كذلك من فرص تقبل أفكار العنف، التي لا تجد لها استجابة إلا في الأوضاع الشاذة وغير الطبيعية.

ولا بد أن quot;تعيد السلطة السياسية النظر في سياستها تجاه مسألة مشاركة غيرها معها، وذلك حين تتوافر النية السليمة، والاستعداد الصادق للقبول بالمبدأ أولاً، وتحكيم صندوق الاقتراع بعيدًا عن الممارسات التي يشكو منها الجميع، في محاولة الحصول على غالبية بأي ثمن. ثانياً، ثم تحكيم مبدأ التداول السلمي للسلطة وإفساح المجال أكثر للتعبير عن الرأي وفتح أبواب الحريات العامة في ظل الاتفاق على القواسم المشتركة والثوابت الدينية والوطنية الجامعةquot;.