لم تسجل في مصر خلال الفترة الماضية منذ اندلاع الثورة وحتى اليوم أي حالات تحرش أو اغتصاب، ما شكل ظاهرة لافتة للكثيرين في بلد اشتهر بأنه موضع تخوف للعديد من الفتيات. وقد أجمع عدد من الناشطين والحقوقيين والمتخصصين على أنسبب التحرش هوكبت الحريات.


القاهرة:منذ 25 كانون الثاني يناير الماضي، وحتى 18 شباط فبراير الجاري، كانت الأجساد في ميدان التحرير متلاصقة، وأغلبها لشباب وفتيات في سن الرغبة. كان الزحام شديداً، وبإمكان أي شاب أن يمد يده إلى تلك الأجساد الأنثوية البضة، ليروي ظمأ شهوته، ولو بشكل موقت أو عابر، كما كان يحدث في الماضي القريب أثناء الإحتفال بالأعياد في الميدان نفسه، والميادين والشوارع القريبة منه. لكن خلال الإعتصام الذي كان قائماً لأيام طويلة بلياليها، كان اللافت أن أحداً من الشباب لم يرتكب ذلك الفعل المشين المسمى بـquot;التحرش الجنسيquot;، الذي ارتبط باسم مصر وشبابها دولياً، حتى أن الكثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية كانت تحذر مواطناتها من الإنخراط في الإزدحام في مصر، أو التجول بمفردهن في شوارعها، تجنباً للتعرض للتحرش أو الإغتصاب.


بلغ التحرش في مصر حداً خطراً، لخصته دراسة للمركز المصري لحقوق المرأة قبل ثورة 25 يناير بنحو الشهر، في أن 83 % من المصريات و92 % من الأجنبيات، و72% من المتزوجات، و94% من الفتيات، يعانينه بشكل يومي. وجاءت الملامسة غير اللائقة للجسد على قمة أشكال التحرش بنسبة تجاوزت 40 % بخلاف التتبع والملاحقة والمعاكسات الكلامية. فما الذي حدث ليجعل المصريين الرجال يقلعون عما كان البعض يعتقد أنها عادة سلوكية متأصلة فيهم؟

الهدف في الميدان نبيل جداً

كانت الروح السائدة في ميدان التحرير خلال الثورة أنبل من أية روح قبل ذلك، لأن الهدف كان نبيلاً جداً، هكذا ترى الدكتورة الصيدلانية رانيا مجدي السبب وراء اختفاء ظاهرة التحرش الجنسي من مصر. وتضيف الشابة غير المحجبة والتي ترتدي الملابس العصرية، لـquot;إيلافquot;: في الحقيقة، لم أشارك في الثورة إلا بعد جمعة الغضب، ليس لأني غير مؤمنة بها، ولكن أسرتي كانت تخشي علي من التعرض للتحرش أو الإغتصاب، لا سيما في ظل شيوع الإنفلات الأمني. ولما رأيت أن الثورة تتصاعد، وآخذة في إلهاب حماس الشباب والفتيات تشجعت، وقررت المشاركة فيها، وعندما وجدني والدي مصرة على رأيي، خرج بصحبتي لأنه لا يوجد لدي شقيق ذكر، حيث إننا ثلاث شقيقات إناثquot;.

أخذ الوالد إجازة من عمله ورافق رانيا إلى الميدان وهي تصف ذلك اليوم quot;في ذلك اليوم هتفت حتى بحّ صوتي، لكن فرحتي بالأجواء التي كانت سائدة في ميدان التحرير، لم تشعرني بالإرهاق، وقررت التطوع في إحدى اللجان التي تتولى عملية تنظيم الحياة في الميدان، وبالفعل تطوعت في لجنة الإسعاف الطبي، لمعاونة الأطباء في علاج الجرحى، وتوقعت رفض والدي، لكنه قابل الأمر بصدر رحب، وقال لي: أنا كنت أخشى عليك من الإيذاء النفسي أو البدني، لكن بعد أن رأيت الشباب والفتيات وقد صاروا جميعاً أشقاء، يخافون على بعضهم البعض، ولديهم استعداد لفداء بعضهم بأرواحهم، لم أخشَ عليكquot;. وتضيف quot;تركني والدي وغادر وكان يحضر لي الطعام كل صباح، وكنت أعود للمنزل في الظهيرة للإستحمام وتبديل الملابس، ولم أر أي مشهد تحرش على الإطلاق منذ أن ذهبت إلى الميدان في 29 يناير، وحتى جمعة الإنتصار في 18 فبراير، بل لم أسمع أو أقرأ عن حادث تحرش أو إغتصاب في مصر خلال تلك الفترة، بعد أن كانت تلك الحواث شبه يوميةquot;.

كانت رانيا في السابق في حالة quot;دهشة باستمرار من تدني سلوكيات المصريين طوال السنوات الماضية، ولم يكن ذلك إلا نتيجة للشعور بعدم الإنتماء للوطن، وبناء على ذلك، يعتبرون أن البنات أو النساء غير شقيقات لهم، ولا يتحرجون من التحرش بهن، أما الآن فلديهم يقين أن الوطن عاد لهم، والجميع أشقاء، ويخشون على بناتهمquot;.

شباب يستحق الإحترام

تروي مروة جمعة العضو في إئتلاف 25 يناير واقعة تدلل بها على سمو الروح التي صاحبت الثورة وشبابها، فتقول لـquot;إيلافquot;: quot;ذات مرة إنحنيت لإلتقاط بعض المخلفات عن الأرض، ويبدو أن جزءاً من ظهري قد إنكشف، ولم أدر بذلك، إلا بعد ساعة، حيث وجدت فتاة تأتي إليّ وتعطني قيمصاً طويلاً، وتعرفت إليها، وقالت لي إن ظهري إنكشف أثناء العمل في تنظيف الميدان، وقد رأى شقيقها المهندس المشهد، فاشترى لي القميص، هنا شعرت بالخجل الشديد، وأصريت على دفع ثمنه، والحق أن ذلك الشاب لم يحاول التعرف إليّ، وأنا احترمته جداً وتمنيت التعرف إليه، لكنه رفض، حفاظاً على مشاعري، وحتى لا أحس بالخجل أمامه.

المصريات قدن الثورة منذ زمن

الفتاة المصرية هي من قادت الحركة الثورية في مصر، منذ أكثر من خمس سنوات، وتصدرت المشهد السياسي بقوة وشجاعة، وهي القائدة الحقيقية والشرعية للثورة المصرية، وليس الشباب الذكور، هكذا جاء رأي عمر سعيد أحد الداعين إلى ثورة 25 يناير، وقال لـquot;إيلافquot;: تاريخياً بدأت الصحوة في مصر منذ العام 2005، بوقفة إحتجاجية على أدراج نقابة الصحافيين، أثناء الإنتخابات الرئاسية، وتعرضت الصحافية الراحلة نوال علي التي كانت تشارك فيها إلى التحرش والضرب بقوة من قبل بلطجية الحزب الوطني، وهو المشهد الذي استفز العالم أجمع، وجعل الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش يطالب بمعاقبة من ضربوها، وذكر اسمها صراحة في أحد لقاءاته الإعلامية، ولكن العقاب لم يتحقق، ورحلت نوال متأثرة بمرض السرطان، قبل أن ترى الثورة وقد ثأرت لها.

ويلفت عمر إلى أنه في العام 2008، أطلقت إسراء عبد الفتاح الدعوة إلى إضراب عام في البلاد، يوم السادس من أبريل 2008، ولاقت دعوتها صدى واسعاً، وهو ما أرعب النظام الحاكم، وتم قمع التظاهرات التي اندلعت في مدينة المحلة الكبرى، وسقط فيها أربعة قتلى برصاص الشرطة، وتعرضت إسراء للإعتقال والتعذيب. وفي العام 2011، أطلقت أسماء محفوظ دعوة للتظاهر يوم عيد الشرطة في 25 يناير الماضي، وكانت الناشطة الأولى والأساسية في هذا الصدد، وليس أي شخص آخر، وأيضاً لاقت دعوتها صدى واسعاً، وخرجت الجماهير بالآلاف في تظاهرة، تطورت إلى ثورة أطاحت بنظام حكم البلاد بالحديد والنار لنحو ثلاثين عاماً.

ويتابع سعيد: كانت المرأة المصرية، وخصوصاً الفتيات حاضرات بقوة في ثورة 25 يناير، حيث سقطت كل من سالي زهران ومريم مكرم شهيدتين، وكانت الفتيات إلى جوارنا في ميدان التحرير كتفاً بكتف، كن يقفن في لجان التنظيم لتفتيش السيدات الداخلات إلى الميدان، وكن حاضرات أكثر في اللجان الطبية، ولجان النظافة، والسقاية، وكان بعضهن يمسكن بالميكرفون ويهتفن، وتردد الجماهير من خلفهن، كن حاضرات بقوة في يوم الأربعاء الدامي عندما هاجمنا البلطجية بالجمال والبغال، كن يكسرن بلاط الأرصفة وينقلنه إلى الثوار الذين يتصدون للمهاجمين، بل كن في موضع متقدم يقذفن الطوبquot;.

لم يكن في الثورة متلصصون

يروي سعيد أن ثلاثا من الفتيات تعرضن للإختطاف من قبل البلطجية، وكدن يتعرضن للإغتصاب فوق أسطح أحد المباني، لولااتصالنا بالجيش وصعد معنا خمسة جنود مدججين بالسلاح إلى سطح المبنى، والحمد لله وصلنا في توقيت سريع، حيث وجدنا أن البلطجية يجرّدونهن من ملابسهن بالقوة، وقام بعض الشباب بالوقوف حولهما في شكل دائرة، وأداروا لهن ظهورهم حتى إرتدين ملابسهن، وكنّ في حالة يرثى لها.

كما يشير سعيد إلى أن quot;المرأة أعطت كثيراً للثورة، من دمائها وأمانها وروحها، والجميع في ميدان التحرير وشتى أرجاء الجمهورية يقدر لها وقوفها جنباً إلى جنب مع الرجال، فكيف تتعرض للتحرش؟ لم يكن في الثورة مرضى نفسيون يتتبعون العورات، ويتلصصون على الفتيات.

الكبت الجنسي ليس السبب

من جهتها، كانت الناشطة الحقوفية ناهد شحاتة مديرة إدارة البرامج في المركز المصري للدفاع عن حقوق المرأة، في حالة دهشة مستمرة، بسبب تفشي التحرش الجنسي في مصر، رغم ما يعرف عن شعبها بالتدين، وكان لديها يقين أن الكبت الجنسي ليس السبب الرئيس لإنتشار تلك الظاهرة الخطرة. وتأكد يقينها هذا بعد إنلاع ثورة 25 يناير، وتوضح لـquot;إيلافquot;: تأكد للجميع أن الكبت الجنسي لم يكن السبب في إنتشار التحرش الجنسي، بل كان السبب هو كبت الحريات والقمع، حيث يشعر بعض المواطنين بأنهم مضطهدون وغريبون في وطنهم، ومنهم من يعتقد أن الجميع أعداؤه، ويتعامل معهم على هذا الأساس، فلا يحافظ على الممتلكات العامة، ولا يحرص على حياة الآخرين أو شرفهن كثيراً، فإنتشرت ثقافة quot;الأناماليةquot; التي اشتقت من عبارة شهيرة كانت تتردد على الألسن باستمرار عندما يكون هناك وضع مخالف، وهي quot;وأنا ما لي، خليني في حاليquot;.

وتستطرد شحاتة: منذ إنلاع الثورة، شعر المصريون أنهم أصحاب البلد الحقيقيون، وأنهم في خندق واحد ضد النظام القمعي، الذي فرقهم، وجعلهم شيعاً وأطيافاً، فخلق حروباً بين الرجل والمرأة، والمسلمين والمسيحيين، لكن الثورة وحدتهم حول هدف واحد سام، فاختفت الطائفية والجندر، وكان أكثر مكان في العالم تشعر فيه المرأة بالأمان على نفسها وعرضها، هو ميدان التحرير، رغم أن العقل والمنطق يقولان إنه الأخطر، فقد كانت النساء تبيت فيه على الأرض في خيم بلاستيكية شفافة، وكان الرجال على مقربة منهن، ولم يشعرن أنهم يتربصون بهن أو يتلصصون عليهن. كان الميدان مزدحماً جداً، ولم تقع حالة تحرش واحدة، ولو حدث ذلك، لاستغلها النظام السابق، وأجهزته الإعلامية في تشوية الثورة، وإلصاق التهم اللا أخلاقية بها. وأعتقد أن تلك الروح ستظل متلبسة للمصريين طويلاً، فقد كانت الثورة سبباً في سمو أرواحهم، وتعففها عن الأمور الدنيئة.

الهدف السامي غيّب التحرش

ووفقاً لوجهة النظر النفسية، فإنه عندما تتلاقى الأيديولوجية النفسية مع متطلبات الضمير، تتأجج الأخلاق وتصبح النفس مهيأة لسمو الأخلاق بشدة، وتنسى رغباتها الشخصية أو الجسدية. ويقول الدكتور علي المليجي أستاذ علم النفس في جامعة القاهرة لـquot;إيلافquot;: عندما تتوحد المشاعر الإنسانية، وتتلاقى حول هدف سام، تتلاشى جميع الأهداف الأخرى، ويصبر الإنسان على تلبية حاجاته الضرورية، مثل الجنس أو البحث عن المال، فتختفي السلوكيات الخاطئة، مثل التحرش أو الإغتصاب أو السرقة أو الرشوة، وكلما كان الهدف سامياً، كلما سمت معه الأخلاق أكثر وأكثر.

ويقول المليجي: شاهدت بنفسي مشهداً رائعاً في ميدان التحرير، حيث سقط الحجاب من فوق رأس إحدى الفتيات، وهي منهمكة في أعمال التنظيف، فقام شاب كان إلى جوارها بتقديمه لها، ولما وجدت صعوبة في وضع الدبوس في الحجاب لتثبيته، تولى الشاب مهمة وضعه لها. كنت سعيداً جداً بهذا المشهد، ولو حدث ذلك قبل الثورة، لكان الأمر مختلفاً. ويضيف: في الثورة كان الجميع يبحث عن العدالة والحرية، وليس الخبز فقط، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، اللذان كانا متوحدين حول هذا الهدف، لم يكن هناك أي تمييز من أي نوع سواء على أساس الجنس أو الدين أو العرق. ولهذا لم أشك لحظة أن تلك الثورة ستنتصر على الدكتاتورية والإستبداد.

حادثة الصحافية الأميركية فردية

لكن هناك حادث قد ينسف كل ما سبق وهو تعرض الصحافية الأميركية لورا لوجان للتحرش أو الإغتصاب وفقاً لما ورد في بعض الصحف، وحول ذلك يقول وليد محجوب، أحد أعضاء إئتلاف ثورة 25 يناير: قرأت عن تلك الواقعة في وكالات الأنباء، وعلمت أنها وقعت يوم الجمعة بعد إقصاء مبارك، أعتقد أنها تعرضت للتحرش، وليس الإغتصاب من قبل بعض ميلشيات النظام السابق، لأن الزحام في تلك الليلة كان شديداً جداً، ولم يكن هناك أي تدقيق في هويات الداخلين إلى ميدان التحرير الذي تدفق المصريون إليه بالآلاف. ولا يمكن أن تكون قد تعرضت للإغتصاب، فقد كان الزحام شديداً جداً، لدرجة أن الحركة كانت متوقفة تماماً في وسط الميدان، بسبب تكدسه بالبشر. ونحن جميعاً نقدم الإعتذار للصحافية، فقد كانت إلى جوارنا، ولا يمكن لأحد من الثوار أن يمسها بسوء، إنهم فلول النظام السابق.