يتخذ صبية عراقيون من الحدائق والعشوائيات وزوايا الأحياء التجارية مأوى لهم، بعدما افتقدوا الأسرة أو المعيل، ليقذف بهم القدر إلى ظروف قاسية يتعرضون من خلالها إلى أنواع من الاستغلال الاقتصادي والجسدي، في ظاهرة تبرز اليوم أكثر من أي وقت مضى في المجتمع فيما يطلق عليه اسم quot;أطفال الشوارعquot;.


أطفال عراقيون عاملون

وسيم باسم من بغداد: أطفال الشوارع والعشوائيات في العراق مجتمع له أسباب وجوده ومقومات استمراره في ظل فوضى اجتماعية هي إحدى نتائج الحروب التي مر بها العراق.

ولعل أحد الأسباب في ازدياد الأطفال quot;الضالينquot; في شوارع المدن، بحسب باحثين، هي البطالة والتفكك الأسري، مما أسهم بشكل كبير في انتشار الجريمة بين الأطفال، وتزويد العصابات المنظمة بأسباب البقاء، وهي عصابات تستغل الأطفال والفتيان في تنفيذ فعالياتها من سرقة وترويج للمخدرات واستغلال جنسي.

علاقات غير متكافئة سنًّا
أحمد ياسر (10 سنوات) وجد نفسه من دون أن يدري في مشهد أطفال النفايات يجمع العلب الفارغة وأكياس البلاستك، ويبيعها إلى مخزن الإعادة في منطقة الوردية في الحلة (مركز محافظة بابل على بعد 100 كم جنوب بغداد). ورغم أن عمره لا يتجاوز الحادية عشرة عامًا، لكنه يدخن ويتناول الكحول، كما تجمع أحمد علاقات مع رجال أكبر منه سنًا، تثير شكوك من حوله. أما أبو حيدر العامل في مجمع النفايات فلا ينظر بارتياح الى هذه العلاقات غير المتناسبة، ونصح أحمد مرات عدة بتركها.

أحمد مثال لطفل الشارع، الذي لا يجد من يأخذ بيده إلى جادة الصواب، بعيدًا عن الفوضى الأخلاقية والكسب غير المشروع. يتحدث ابو حيدر عنه بأنه يتيم الأب، وأمه تزوجت برجل آخر، ولم تعد تسأل عنه بعدما كثرت مشاكله، وعدم سماعه نصائحها، كما روت له ذات يوم. لكن ابو حيدر يرى نصف الحقيقة في ما روته والدة أحمد.

في الأحياء الصناعية في مدن العراق، تلمح أطفالاً يعملون في quot;الكراجاتquot;، في ظاهرة تفضح نمو ظاهرة عمل الاطفال دون السن القانونية.

حسيب في الثانية عشر من عمره ينظر إلينا بابتسامة، وقد غطّت وجهه دهون سوداء، وفي يديه آلات العمل، وفي فمه سيكارة، وتنبعث من ملابسه رائحة البنزين. يفتخر حسيب أنه يجيد الآن quot;تجفيتquot; محرك السيارة وتصليح quot;صدرهاquot;. لكنه يعترف أنه لا يقرأ ولا يكتب، بعدما ترك المدرسة وهو صغير. توفر لحسيب مهنته هذه مبلغًا يوميًا قدره ثلاثون دولارًا أميركيًا في غالب الأيام.

لحسيب زملاء عمل في محال تبديل الدهون وصباغة الأحذية، ومجمع النفايات. وبحسب حسيب، فإن جلّ أصدقائه من المدخنين. ولا يفكر حسيب بالعودة الى المدرسة، لانه أتقن مهنة تدرّ علية quot;ذهبًاquot; في المستقبل. ولـ quot;حسيبquot; أخ مازال في المدرسة، لكنه يجمع العلب الفارغة، لبيعها بالكيلو الى معامل التدوير.

أطفال العشوائيات
في غالبية أسواق المدن التجارية تلمح اطفالاً يدفعون العربات لنقل حاجات المتبضعين. ويحصل الفتى كامل ساجت، في الخامس الابتدائي، على حوالي عشرين دولارًا في اليوم الذي يعمل فيه. وفي الكثير من مدن العراق، لاسيما العشوائيات، تلمح اطفالا افترشوا الأرصفة، وهم يتحلقون حول بعضهم، يدخنون، ويستنشقون الاصماغ التي تمنحهم متعة السكرة المؤقتة.

حميد كريم بملابسه الرثة وشعره غير المتناسق وعيونه الغائرة، مأواه الشارع طوال الليل والنهار، يعيش على فتات الموائد او ما يمنحه له أصحاب المحال والمطاعم، وقد أدى إفراطه في تناول المخدرات واستنشاق المواد الكيماوية الىتدهور صحته، كما اصبح صوته خشنًا من التدخين. لحميد علاقات في المساء مع من هم أكبر منه سنًا تثير استياء رب العمل، كما روى لنا ذلك، حيث نصح حميد بالكفّ عن ذلك لانه يؤثر على مستوى ادائه، حيث يأتي متعبًا في الصباح.

يقول رب العمل: كما إن المكالمات الهاتفية التي يتداولها اثناء الدوام تأخره عن مهامه في بعض الاحيان. ويضيف رب العمل ابو سامي انه ينظر اليه كابن له، ويحاول قدر الإمكان مساعدته، لاسيما وانه يتيم، كما يحاول قدر الإمكان إبعاد أصدقاء السوء عنه.

الظاهرة الملفتة أن جل العاملين في محال الغسل والتشحيم على الطرقات بين المدن والاحياء الصناعية من الصبية والفتيان ممن هم دون السن القانونية للعمل. لكن رخص ثمنهم وتوفر وقتهم ورضاهم بأدنى الأجور يجعلهم مفضلين لدى أرباب العمل.

التحرش الجنسي
يقول ضابط الشرطة سليم حسين ان الكثير من قضايا الاعتداء الجنسي بحق أطفال تشهدها مراكز الشرطة كل يوم، وتتركز الظاهرة بين اطفال الشوارع والأطفال العمال في المعامل والأحياء الصناعية والورش.

ومع غياب الرادع الاجتماعي وضعف الرقابة، فإن ترك الطفل المدرسة في سنّ مبكرة وممارسته الاعمال الشاقة مع الكبار تجعله ينجرف مبكرًا الى اعمال وفعاليات اكبر من عمره، لاسيما وانه يحاول تقليد الكبار مع غياب التشريعات القانونية الخاصة بحماية الطفل.

الكثير من أطفال الشوارع في العراق هم من مدمني السجائر والخمور والمخدرات، وقد تعرض الكثير منهم الى اعتداءات جنسية. بل وتحول بعض الأطفال الى مشروع جنسي حقيقي، يمارس الجنس مع الكبار مقابل ثمن يتفق عليه مقدمًا، وليس في هذا مبالغة، بحسب أبو ياسر، صاحبة ورشة بيع أدوات احتياطية ومدرس سابقًا، حيث قال ان الكثير من الشاذين جنسيًا يجدون ضالتهم في الشهوة في اطفال الشوارع الفقراء، وقد شهد بنفسه الكثير من الوقائع التي كان ضحيتها اطفالاً في عمر الورود.

أصدقاء السوء
لكن ابو ياسر يعترف ان معظم هؤلاء الاطفال لديهم نوازع شريرة وغير مسؤولة بسبب نقص الوعي الناتج من التعليم، وقد تطبعوا بالكثير من الصفات السيئة البعيدة عن القيم الاجتماعية والدينية بسبب اختلاطهم بأناس غير متعلمين، ينقصهم الوعي الديني والاجتماعي، إضافة الى اختلاطهم بأصحاب السوابق.

من المفارقات التي يؤكدها ابو ياسر ان غالبية أطفال الشوارع من المشاكسين الذين يجيدون طرق الاحتيال وينجحون في ذلك، لأن الحيلة هي السلاح الذي يغطون به ضعفهم وحاجتهم، لهذا تجدهم يبتكرون اساليب غريبة في طرق النصب والاحتيال.

في الزاوية المقابلة لمحال ابو ياسر، يجلس سرمد قزم - لقب اطلق عليه أصدقائه لقصر قامته - يبيع السجائر ومواد غذائية أخرى.

يرى الباحث الاجتماعي حمد الفياض، ويدير مركزًا للشباب في مدينة الحلة، ان انتشار التجمعات العشوائية، والبطالة، والتسرب من المدارس، يدفع الطفل بعيدًا عن التطور الميداني وتنمية القابليات العقلية والبدنية في اتجاه البحث عن قوت يوم عائلته التي فقدت معيلهاrlm;. ويقول ان البعض من فتيان الشوارع بدأ يتردد على مراكز الشباب، وهذه خطوة أولى نحو انتشالهم من الضياع.

بحسب الفياض، فإن التخمينات تشير الى وجود نحو 20 ألف طفل يتيم في الحلة، كما ان العدد نفسه يمكن توقعه في مدن كربلاء والنجف والديوانية، وبعض هؤلاء مشاريع لـ(اطفال الشارع) اذا لم يتم احتضانهم عبر تطوير دور رعاية وإيواء، تلبي النمو المتسارع للأعداد في المجتمع.

وغالبًا ما يرافق طفل الشارع ممارسات للعنف اللفظي والجسدي، حيث يصبح الطفل ضحية له، وفي الوقت نفسه يتبناه ليمارسه اتجاه الآخرين عاكسًا حجم الظلم الذي ترسب في عقله الباطن.

أذى جسدي وأدمان
يترافق الاستغلال الجنسي جنبًا الى جنب مع الاذى الجسدي، فقد تعرض الفتى سعد في مدينة كربلاء الى رضوض في وجهه، بعدما حاولت مجموعة استغلاله جنسيًا، وبحسب سليم حسن الضابط في شرطة كربلاء، فإن سعد و(هو في الثالثة عشر من العمر) عرف بتسكعه الى جانب عمله في جمع النفايات البلاستيكية، لكنه ادمن التدخين والمشروبات الروحية واستنشاق الاصماغ، اضافة الى مصاحبته المدمنين، حيث تمكنوا من استغلاله جنسيًا من دون ان يدفعوا له ثمن ذلك، مما ادى الى حصول شجار انتهى به والمجموعة الى السجن.

ملامح اطفال الشوارع في العراق تشبه الى حد كبير ملامح اقرانهم في دول عديدة، فمن الأمراض التي تفتك بأجسادهم الغضة، من إسهال ودوار رأس والتهابات الصدر والعين الى الهزال، الى الأمراض النفسية والسلوكيات المنحرفة مثل الميول للعدوانية والنزوع الى التخريب وكره المدرسة، كل ذلك يكون سببًا في تعزيز الكره للمجتمع والنزوع نحو استخدام العنف لدى الآخرين.

لهذا السبب ndash; بحسب الفياض- ترى ان معظم أطفال الشوارع في العراق يحملون السكاكين والآلات الحادة، جنبا الى جنب مع علب السجائر التي لا تفارقهم. ويرى الفياض ان الحل يكمن في مشاريع إيواء لانتشال الأطفال من الشوارع والاماكن الموبوءة لتأهيلهم علميًا وأخلاقيًا، وعدم الزج بالأحداث الموقوفين في دور الاحداث، باعتبارهم مجرمين، بل تحويل دور الأحداث من مؤسسة عقابية إلى إصلاحية وتوفير الاعمال المناسبة لهم عبر اعمال خيرية وحكومية بعد بلوغهم السن القانونية للعمل.