في سوق للصاغة في العراق

على الرغم من الاستقرار الأمني النسبي، فما زال الصاغة الفئة الأكثر عرضة لعمليات الاغتيال والسرقة في العراق. والسرقة ليست الدافع الوحيد لقتل الصاغة ففي فترة من الفترات كان ثمة عصابات تكفر أبناء الطائفة المندائيّة التي يستثمر قسم كبير من أفرادها في هذه المهنة.


يحذَر الصائغ أبو أمين كثيرا وهو يفتح دكانه في أحد فروع شارع النهر (بين مقتربي جسري الأحرار والشهداء من جهة الرصافة في بغداد)، بعدما كثرت حوادث اغتيال الصاغة وسرقة محالهم في بغداد وبعض مدن العراق.

والمشكلة الأكبر التي تواجه ابو أمين والكثير من الصاغة انهم يصطحبون معهم مدخراتهم ومصوغاتهم في رحلة الذهاب والإياب بين البيت والدكان ما يزيد من حجم المخاطر التي يتعرضون لها. وبحسب أبو أمين فإن عدم إبقاء الذخائر في المحال عادة دأب عليها الصاغة منذ القدم لتجنب السرقة.

القرصنة والاغتيال والسرقة

ورغم الاستقرار الأمني النسبي، فما زال الصاغة الفئة الأكثر عرضة لعمليات القرصنة والاغتيال والسرقة ليس في بغداد فحسب، بل في أغلب مدن العراق. ويتحدث الصائغ داود وهو من أقدم الصاغة في مدينة الحلة (100 كم جنوب بغداد) عن تعرض الكثير من معارفه وأقربائه للقتل والسرقة والاختطاف في بغداد و ديالى والبصرة.

وليست السرقة هي الدافع الوحيد لقتل الصاغة، ففي فترة من الفترات كان ثمة عصابات متطرفة تكفر ابناء الطائفة المندائية التي يستثمر قسم كبير من أفرادها في هذه المهنة. يقول كريم سلمان الذي قتل ابن عم له في منطقة الحرية (أكبر أحياء بغداد، وتقع في جانب الكرخ، وتتبع إدارياً للكاظمية) وهو داخل محله، ان التحقيقات أثبتت ان دوافع تكفيرية وراء قيام مجموعة مسلحة باغتياله وسرقة مصوغاته، فهذه العصابات (تحلل) ما تقوم به، في مسعى للحصول على الأموال لتمويل عملياتها.

مهنة متوارثة

وتوارث الصابئة المندائيون صياغة الذهب أبا عن جد، التي كانت توفر لهم لقمة العيش في كل المراحل التي مر بها العراق، ولاسيما ان العراقيين يعتبرون الذهب زينة وثروة تنفع في أيام الشدة والعوز. ولا تخلو سوق في ناحية أو قضاء أو محافظة في العراق من سوق متكاملة لصياغة الذهب والمتاجرة به.

وعدنان شاب في العقد الثلاثيني، توارث المهنة عن أجداده الذين تناقلوها عبر أجيال لعشرات السنين. ويبيع عدنان أنواعا من القطع الذهبية كما يجيد صياغة القلائد والخواتم و (التراجي) و(الحجولة) والمعاضد والأساور والأحزمة. ورغم ان عدنان تخرجفي كلية الزراعة قبل عشر سنوات الا أنه ظل مخلصا لمهنة أجداده، ولاسيما انه لم يستطع ان يجد عملا له كمهندس زراعي.

ويبدع عدنان شأنه شأن صاغة العراق في نسج نقشات على الذهب بهيئة (الباون) و(الستلايت) والدمعة والبقلاوة والخارطة. وفي اشد فترات الاضطراب الأمني يجازف عدنان في التبضع من شارع النهر أو منطقه خان الشابندر أو سوق السراي أو سوق المراد في الكاظمية (شمال العاصمة بغداد على الضفة الغربية لنهر دجلة بجانب الكرخ)، وكلها مناطق مشهورة بتجار الذهب وخاماته وعدده. ولم يكن سهلا على تجار الذهب التنقل بحرية عبر عقد من السنين لأنهم كانوا أكثر التجار والصناع استهدافا من قبل الجماعات المسلحة.

سوق غير مستقرة

والى جانب الهم الأمني، يضيف الصائغ غسان يوسف قلقا آخر، وهو تقلب أسعار الذهب طوال السنوات المنصرمة بسبب التقلبات السياسية والتحولات الاقتصادية، وكان للحروب التي مر بها العراق الأثر الكبير في اتجاه الكثير من المستهلكين الى الذهب الاجنبي المستورد نظرا لجودة عملية صياغته مقارنة بتقنيات الصياغة في العراق التي شهدت تراجعا إبان سنوات الحروب، والحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق، وفوضى الحرب الطائفية.

ويقول غسان حول ذلك، إن أسعار الذهب تتذبذب في معدلاتها كل يوم كما هو معروف للجميع. ويضيف: يتعامل الصاغة مع بورصة خاصة بهم، تحدد سعر الذهب اليومي استنادا الى معطيات اقتصادية وسياسية محلية وإقليمية وعالمية.

ويتابع: سعر مثقال الذهب يتحدد في البورصة التي تستمد معلوماتها من البورصة الأميركية وبورصة دبي و فرانكفورت. وبحسب الخبير الاقتصادي كريم شافي فإن تجار وصاغة الذهب في العراق يعتمدون في السنين المنصرمة الأخيرة والى الآن على بورصة دبي لتقييم (عيارات ) المعدن الأصفر. وفي العراق فان المتداول منها عيار 12، وعيار18 و 21.

العراقيات والذهب

وتقول سهيرة فالح الخبيرة في شؤون التجميل ان العراقيات كما هو معروف يفضلن الأخير(عيار 21 ) لأن أسعاره عالية، حتى وصل المثقال الواحد منه الى ثلاثمائة ألف دينار عراقي. والمثقال في لغة السوق يعادل خمسة غرامات من الذهب.

وتفضل المرأة العراقية اليوم الذهب من مناشئ أجنبية لاسيما الخليجية والماليزية والهندية. وفي هذا الصدد يشير سليم نعمة الى الآثار السلبية لعزوف العراقيات عن الذهب العراقي الذي يصاغ بتقنيات تقليدية.
يتابع نعمة: العراقيات يفضلن الذهب الخليجي لانه (منقوش) بأحدث التقنيات العالمية الحديثة.

ويضيف: من الآثار السلبية لاستيراد المصوغات الخليجية ان هذا الذهب غير خاضع للرقابة ما ساهم بانتشاره بشكل بارز في الأسواق العراقية ما اضطر أكثر الصاغة الى ترك مهنهم.

المنافسة لصالح الذهب الاجنبي

ويذكر كريم نعمة سببا آخر لاختلال المنافسة لصالح الذهب الأجنبي ولاسيما الخليجي، فأجور العمل اليدوي للصائغ العراقي عالية جدا، يضاف اليه سعر المثقال ما اضطر المستهلكين الى التعامل مع الذهب المستورد مثل الماليزي والتركي والايطالي والاماراتي و السنغافوري لانه أقل سعرا.

وبحسب الصائغ كريم غاوي صاحب محلات (جار الإمام) في مدينة الحمزة (جنوب محافظة بابل و تبعد زهاء مئة كيلومتر جنوب بغداد)، فان على المواطن التأكد من ختم القطعة الذهبية التي يشتريها، ويشمل ذلك أيضا ختم التقييس و السيطرة النوعية لأنها الجهة المخولة الوحيدة بوضع الأختام على الذهب...

الذهب المزيف

ومنذ عام 2007 انتشر بين أسواق الذهب في مدن العراق، الذهب البرازيلي الذي يمتاز بلمعانه الشديد ووصل سعر مثقاله إلى 300 ألف دينار. لكن الصائغ سميع حسان يرى ان هذا الذهب ليس ذهبا خالصا لكنه يباع وكأنه ذهب نقي. وبحسب حسان فان مواطنين وصاغة يشكون الى الجهات الأمنية تداول البعض للذهب المغشوش حيث ألقي القبض على صائغ يبيع الذهب البرازيلي على انه ذهب خالص مستغلا جهل الناس.

مهارة وفن

مصوغات ذهبية معروضة في إحدى أسواق الذهب في بغداد

ويستعين الصائغ العراقي في تشكيل مصوغاته، بآلات وعدد اشتهر بها عبر الأزمان، وأجاد استخدام تقنياتها.ويتذكر غاوي معاصرته لقدماء المهنة في الحلة وكربلاء والنجف (مدن في الفرات الوسط جنوب بغداد)، حيث كانوا يعملون في ورش يصفى فيها الذهب والفضة وتضم أنواع الفلزات كالذهب والبلاتين والقصدير والفضة والنحاس، اضافة الى أنواع الحوامض كالنتريك والكبريتيك والماء الملكي الذي يذيب البلاتين والذهب.

ويصف الصائغ ليث داود جهازا خاصا يسمى جهاز الصب ( الكورة)، اضافة الى آلة تسمى ( الكفت ) وهو ماسك صغير لمسك القطع الصغيرة لاسيما الدقيقة منها والتي تصعب على اليد البشرية التقاطها. وباستخدام الغاز والكهرباء يصهر الذهب، على شكل سبائك بأشكال وأحجام مختلفة، ثم يسحب إلى رقائق صغيرة، لتهيئته لمرحلة إضافة (الطبعة ) والنقشة المطلوبة.

ولإضفاء بريق حاد على الذهب توضع القطعة في مواد حامضية ثم تعرض على النار لتغسل بعدها بالماء فقط، لخفض درجة حرارة الذهب وإزالة المواد الكيمائية المتعلقه به، ذلك أن الذهب لا يتأكسد في الماء.

وبواسطة مكائن هزازة سريعة تتولد اللمعة البراقة على الذهب. وبعد عملية التلميع، توضع القطع الذهبية في نشارة الخشب لكي تمتص الرطوبة، ليضع الصائغ بأنامله المبدعة الزخارف أو الأحجار الكريمة، كما تجمل القطعة بالزخارف و الأشكال الجميلة على يد النقاش الذي يتمتع بمهارة عالية إضافة الى ذوق رفيع صقله الزمن والتجارب.

وبحسب مؤيد عباس جواد فان عمله كنقاش يتطلب الكثير من الدقة. يقول عباس: نصوغ - على سبيل المثال - الزنجيل، حيث تصعب رؤية حلقاته بالعين المجردة، و يحتاج تشكيلها إلى مهارة خاصة.

الحماية والسيطرة النوعية

ويؤكد أغلبية الصاغة ضرورة توفير الحماية من قبل الدولة، وان يكون لدائرة السيطرة النوعية دور أكبر في الكشف عن حالات التزوير والغش كما يطالبون بعدم السماح باستيراد المصوغات الذهبية من الخارج لان ذلك يضعف الإنتاج ويصيب بضاعة الذهب العراقية بالكساد.