بعض المقاهي العراقية حافظت على طابعها لكنها تواجه اليوم quot;الكافيه موديرنquot;

تواجه المقاهي التراثية في العراق خطر الاندثار أو التحول إلى النمط الغربي، في وقت تغزو فيه المدن العراقية الكازينوهات والمقاهي الحديثة والمختلفة عن تلك الصورة التي كانت عليها المقاهي في السابق.


يعتبر المقهى في العراق، عنوانًا للانسجام القومي والطائفي والطبقي، ورمزًا للتحولات الاجتماعية، وبين جالسيه ومرتاديه من أصحاب العمائم والطرابيش في الماضي، والأفندية وأصحاب العقال والدشداشة، وبين الأميين والمتعلمين والشباب والشيوخ، يظل المقهى تراثًا عراقيًا يقاوم عصرنة الزمن، وانحسار التقاليد التي توارثها جالسو المقاهي والقائمون على خدمتها، على حد سواء، عبر أجيال.

الى زمن قريب، نافست المقاهي المساجد والبيوتات وquot;المضايفquot; كمجالس اجتماعية وأماكن للحل والعقد والتداول في الأمور اليومية. ويقضي ابو محسن - وهو مقاول بناء- مساء يومه في مقهى quot;الكوثرquot; في مدينة كربلاء (وسط العراق في جنوب العاصمة بغداد)، حيث تحول المقهى الى مقر له يستقبل فيه الزبائن للتفاوض معه حول عمله اليومي.

يقول ابو محسن: في الماضي لم تكن ثمة وسيلة اتصال كالموبايل، لذا يتوجب عليك الجلوس يوميًا في المقهى لكي تلتقي الزبائن. ويضيف: وعلى رغم تطور وسائل الاتصال، فان اللقاء المباشر في المقهى يبقى ضروريًا، وليس سوى المقهى مكانا مثاليًا.

لكن الظاهرة الابرز في مقاهي العراق اليوم، انتشار quot;النرجيلةquot; أو ما تعرف quot;بالشيشةquot; بين الفتيان والمراهقين، الى حد بدأ يؤرق الأهالي والجهات الصحية على حد سواء.

فهذا سمير علي، وهو طالب في المرحلة المتوسطة، لا يتوانى عن الذهاب بشكل شبه منتظم الى المقهى القريب لتناول النرجيلة مع أصدقائه، وأدمن على على ذلك، حتى إنه لم يعد يستطيع التخلي عنها.

يشير كاظم عطية، صاحب مقهى الأمير في كربلاء، إلى أن المقهى صار عبر الزمن بوتقة صهرت ابناء العراق، ولاسيما ابناء المدينة الواحدة. ويضيف: كنت في السابق استقبل ضيوفًا يبحثون عن أشخاص وعائلات معينة، وبعد التحقق من هدفهم أدلهم على مقصدهم.

وفي مدينة الحلة في جنوب بغداد، يروي ابو كاظم تاريخ المقاهي في مدينة باب،ل التي تشبه في تاريخ وظروف تشييدها المقاهي في المدن العراقية الاخرى، حيث تشيد المقاهي على ضفاف النهر أو قريبةً منه.

واقدم المقاهي في هذه المدينة هي مقهى (أبو سراج) الذي افتتح في نهاية الخمسينيات، ومقهى (حسين أسمة). يقول ابو كاظم.. من المقاهي القدية في الحلة التي اشتهرت في وقتها مقهى الخورنق) مقابل مركز شرطة الحلة، وهناك مقهى (السدير) على نهر الفرات.

وعبر الأزمان، أضحت المقاهي منتديات سياسية وصالونات للدراسة والقراءة، حيث كان الطلاب يحضرون دروسهم فيها أيضًا. وعلى امتداد quot;شارع الكورنيشquot; ثمة كازينوهات ومطاعم تحاول إضفاء المسحة الغربية على ملامحها ومنها كازينو اسمه quot;حديقة النساءquot;.

وتجمع كازينوات بغداد الناس على اختلاف مشاربهم، فتجد التنوع العشائري، والمذهبي والقومي، والعربي والكردي والتركماني، والغريب وابن المنطقة، منتجة نسيجًا اجتماعًيا متآلفًا، بل وينتفي في المقهى حتى التفاوت الطبقي، فتجد الغني والفقير يجلسان على الطاولة نفسها.

المثير في مقاهي العراق انها، وان تغيّر صاحبها، فإنها تبقى بزبائنها وطقوسها، كما ان غالبية المقاهي في العراق يتوارثها الأبناء عن الآباء.

وكريم حسن توارث المهنة عن أبيه، وظل يدير مقهى الشروق في الصالحية في بغداد بعد رحيل والده، وهو حريص على ان لا يحوله الى quot;الكوفي شوبquot;، حيث يسعى أصدقاؤه من الشباب إلى إقناعه بالفكرة، وهي ظاهرة تزحف بشكل كبير على المقاهي التقليدية، كنتاج لنزعة استهلاكية، ومع الانفتاح المجتمعي على الغرب، وزيادة القدرة الشرائية للمواطن العراقي.

يصف كريم هذه المقاهي بأنها استنساخ للنمط الغربي في التسلية وقتل وقت الفراغ، وغالبًا ما يرتادها الشباب فقط، الذين يحرصون على الأغاني الصاخبة والفيديو كليب والمشاهد الجريئة في اللباس والتصرف. ويقول..ثمة زبائن يترددون على المقهى منذ عقد ونصف عقدومازالوا الى الان. ومنذ عقد من السنين، يقدم كريم لزبائنه الشاي والحامض والعصير والسوده والنركيله والقهوة بأصنافها.

يتابع كريم: أشهر مقاهي الصالحية هي مقهى quot;أبو ناطقquot; المعروفة لدى العراقيين جميعًا، وعاصرت عمالقة الطرب العراقي من حضيري ابو عزيز وداخل حسن وحتى كاظم الساهر وصولا الى مطربي الجيل الجديد.

يرتاد المقهى شعراء ومثقفون وفنانون، وفيمعظم مقاهي العراق التقليدية يحرص لاعبو الدومينو على عدم التفريط في لقاءاتهم لغرض التسلية وقضاء وقت ممتع مع الأصدقاء ومدمني اللعبة. وعبر السنوات حفلت مقهى (الشروق) شأنها شأن مقاهي العراق الأخرى بأنواع المشروبات الحارة والباردة.

يتذكر كريم منتجات صمدت طويلاً عبر الزمن مثل السيفون والسودة والحامض والكاكاو والحليب والشاي بأنواعه السيلاني والصيني والياباني، لكن غزو المشروبات المعلبة اليوم اطاح بالكثير من المنتحات التقليدية، ولم يعد يستطيع المرء حفظ الأسماء المتعددة للمشروبات التي تتناسل اسماؤها بشكل يومي.

وبينما كان كريم يقدم الماء للزبائن في quot;دولكةquot;، وهي وعاء بلاستيكي او معدني لزبائنه، فان الماء المعلب اليوم وفر الكثير من الجهد، واصبح متاحًا بشكل كبير، في ظاهرة صحية تشهدها مقاهي وكازينوهات ومطاعم العراق.

مازال كريم يحتفظ في زاوية من المقهى بالوعاء الفخاري الذي يطلق عليه quot;الحبquot;، الذي كانت الوسيلة المفضلة لحفظ الماء وتبريده الى حقبة بداية الثمانينيات منذ القرن الماضي، كما يتذكر كريم.
وثمة مقاهي في مدن العراق تقع في أطراف المدينة او في الشوارع التي تهتدي الى القرى والأرياف وهي محطات للفلاحين والمزارعين وتجار الخضر، يتداولون عندها في شؤونهم وصفقاتهم.

وبينما يدير المقهى في الغالب رجل أمي لا يفقه سوى لغة الشاي الممزوج بالصبغ الأسود وببيسي بابل وكرستال وبغداد، فإن أدباء وفنانين ومدرسين هم من زبائنه، حديثهم في الأدب والسياسة، ليمتزج من هذا الاختلاف تفاهم يقوم على أساس المنفعة المشتركة. فلا ريب ان تسمى مقهى (أبو محمد) بمقهى الأدباء وهو لا يفقه في الأدب شيئا.

يقول ابو محمد... يتردد الشباب على المقهى لمتابعة مباريات كرة القدم، ويتحاورون ويتخاصمون ولا اعرف لماذا، وكل ما اعرفه أنهم يعشقون الكرة، واقدر ان بعض العشق يؤدي الى الجنون.
كما تحول مقهى الحاج شهاب إلى منتدى رياضي لمشجعي كرة القدم، والصق الزبائن صور مشاهير اللاعبين والأندية العراقية والعربية على جدران المقهى، حيث بدا الحاج شهاب مسرورًا رغم انه لا يفقه في حديث الرياضة.

وتحول الكثير من مقاهي العراق الى صالات للعب البلياردو ومقاه انترنت، بعدما قلّ الرواد في الكثير من المناطق.

يقول كريم السلطاني، وهو معلم متقاعد في السبعين من عمره، ان المقاهي التقليدية بدات تنحسر لمصالحة الكازينوهات الموديرن، والتي توفر وسائل اتصال حديثة وألعاب الكترونية وتلفزيونات متطورة. ويضيف... ما ألاحظه ان أكثر الشباب يترددون على المقاهي في أوقات الفراغ لشرب النارجيلة ومشاهدة مباريات كرة القدم.

وفي مدن العراق، تنشأ مقاه متخصصة، فهناك مقهى للشعراء وآخر للرياضيين، ومقاه لا يرتادها سوى (الخرسان) وأخرى للشباب وأخرى للأدباء والشعراء. أما المقاهي التقليدية فمازالت تقاوم الزمن ويقصدها كبار السن.

وأصبحت المقاهي الثقافية ظاهرة تتسم بها الكثير من مدن العراق، تستعرض فيها الفعاليات وتدور على هامشها الحوارت، ومن اشهرها في بغداد مقهى (الزهاوي) قرب باب المعظم في وسط بغداد ومقهى (حسن عجمي). ويضم شارع المتنبي مقاهي (البرلمان) و(الشابندر) الذي شهد تأسيس أول اتحاد للكتاب العراقيين.