يحرص العراقيون وهم يستقبلون رمضان، على إدامة عادات راسخة ترتبط بالفولكلور والماضي خلال هذا الشهر الفضيل. وعلى رغم التقنيات الحديثة وتسارع وتيرة الحياة، فإن بعض التقاليد الرمضانية مازالت صامدة، تذكر الناس بتاريخ يزهو بعادات وتقاليد الآباء والأجداد.


مهنة quot;المسحراتيquot;في العراق تقاوم التكنولوجيا والإعلام الحديث من اجل البقاء

بغداد: إذا كانت الظروف الأمنية والسياسية أدت الى غياب الكثير من رموز وشخصيات رمضان، لاسيما المسحراتي، الذي هو أهم أشهر شخصية رمضانية في الحارات والأحياء الشعبية، منذ مئات السنين، فإن العراقيين يتوقعون عودة الكثير من العادات والتقاليد الرمضانية من جديد في ظل استتباب الوضع الامني وتحسن الوضع الاقتصادي.

المسحراتي ابو نوفل.. صامد أمام تقلبات الزمن
فالمسحراتي ابو نوفل، الذي يجوب مناطق في الصالحية (تقع على جانب الكرخ من العاصمة بغداد)، يدرك ان الناس لم تعد بحاجة الى عمله في ظل توافر التقنيات الحديثة من ساعات منبهة وهواتف توقظ أصحابها، اضافة الى حواسيب وفضائيات تفرض على الناس السهر الى وقت متأخر، الا انه يحرص على القيام بعمله كمسحراتي، يجوب الأحياء مناديًا على الناس، مذكرًا إياهم بوقت السحور.

وفي بعض مدن العراق يطلق على المسحراتي لقب quot;أبو طبلةquot; لأنه يستخدم الضربات على آلة الطبل في تنبيه الناس. ويتحدث المسحراتي الشاب جليل كريم في بابل (100 كم جنوب بغداد)عن ان مهنته هي مهنة تطوعية، تنال احترام الناس اذا ما تم الالتزام بأصولها وقواعدها، لاسيما وان بعض الشباب يلجأون الى استخدام آلات أخرى مثل الدف والصنجات أو حتى القرع على علب الصفيح الفارغة أو تبادل الأحاديث بصوت مسموع وضحكات عالية تزعج الصائمين.

ويقول كريم.. المسحراتي لا تصدر منه سوى ضربات الطبل المتناوب بإتقان مرددا كلمة سحور، ليتوقف قبل موعد الإمساك بنحو 30 دقيقة. أما غير ذلك فيعتبر نشازًا وخارجًا على أصول المهنة.

الحاجة إلى المسحراتي.. باقية
لكن هناك من يرفض القول إنه لا حاجة للمسحراتي، فأبو هشام يرى في صورة المسحراتي جزءًا لا يتجزأ من الفولكلور العراقي يتوجب إدامته والحرص على استمراريته. يشبّه ابو هشام دور المسحراتي بصورة البيت التراثي وسط العمارات الحديثة، فمهما بنينا من شوارع حديثة وعمارات وفق التقنيات الحديثة تبقى صورة البيت التراثي في ذلك الشارع هي الأجمل.

لا ينتظر ابو هشام من الناس في الحي مبالغ مالية في نهاية رمضان، ذلك ان ما يقوم به من وجهة نظره، واجب ديني واجتماعي وعمل تطوعي. لكن ابو هشام يثمّن اعتراف الناس بدوره، حيث يتلقى الإكراميات والأجرة في أيام العيد.

درجات الحرارة في رمضان
في ظل ارتفاع كبير في درجات الحرارة في رمضان هذا العام، فإن أبا هشام يتوقع ان الناس سيسهرون الى ساعات متأخرة في الليل، حيث ان ذلك سيضفي على عمله متعة، كما حدث في رمضان العام الماضي، حين كان يلتقي في جولاته بعض الصائمين، ويتجاذب معهم اطراف الحديث طيلة وقت السحور، وهي الفترة الممتدة بعد انتصاف الليل حتى ارتفاع صوت أذان الفجر.

لكن مهمة المسحراتي ابو حسن في مدينة المحمودية (15 كلم جنوب بغداد) لا تخلو من المخاطر في ظل انتشار الكلاب والحيوانات السائبة التي يصادفها بشكل قطعان تتجول في أنحاء المدينة لاسيما الأحياء الواقعة في أطرافها. ويرى ابو حسن كيف انه في العام الماضي شهد هجوم بعض الكلاب السائبة على صائمين اثناء عودتهم من المسجد في ساعة متأخرة.

طمأنينة للصائمين
يعتقد سعدي يوسف في مدينة كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد) ان الحاجة إلى المسحراتي ليست مادية اليوم، فالناس لم تعد تحتاج عمله، لكن هناك حاجة نفسية له، فسماع صوته يوفر طمأنينة نفسية للصائمين، وهم يحرصون على سماع صوته، ولهذا تجد ان بعض الأحياء تحرص على ترتيب مهمة المسحراتي قبل حلول شهر الصوم. وغالبًا ما يساهم الجميع في تكريمه في نهاية الشهر عبر إهدائه المبالغ النقدية.

لكن أبا حسن يأسف لاختفاء الكثير من العادات الرمضانية التي تدل على التكافل الاجتماعي من مثل الزيارات المتبادلة وتبادل أطباق الأكل خلال وقت الفطور.

وسائل الإعلام المتطورة
يعتقد حسين الساعدي وهو مدرس أن وسائل الميديا سبب في اختفاء الكثير من العادات الاجتماعية في رمضان مثل جلسات السمر واللقاءات بعد الإفطار. ومثال ذلك، بحسب الساعدي، أن ابنه الكبير في العشرين من العمر، ما إن يفطر حتى يهرع الى الحاسوب، ليبقى لفترات متأخرة من الليل يدردش مع أصدقائه ويقلّب المواقع والصحف المختلفة.

ويتحدث طارق الزبيدي عن الإشكالية نفسها حين يجد نفسه وحيدًا بعد الافطار، وقد انفضّ عنه الكثير من الأصدقاء، حيث يشغلهم الانترنت والفضائيات عن الجلسات الرمضانية.

لكن ام محمد في الخامسة والستين وتعيش وحيدة، تتحدث عن مشاغل الحياة وصعوبتها التي جعلت من رمضان اليوم مختلفا تمامًا عن رمضان أيام زمان.

وتبقى أم حسن في المنزل بعد الفطور، بعدما ظلت وحيدة بعد زواج أبنائها في مدن أخرى. وتتكلم أم حسن عن ضعف الروابط الاجتماعية هذه الأيام، التي تجعل من الابن لا يتذكر ابنه حتى في شهر الصوم، لكن أم حسن تقطع رتابة أيامها بزيارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء مرتين خلال شهر رمضان.

فولكلور شعبي
أما كريم سامر فيتحدث عن مسحراتي الحي بالقول إنه اليوم شخص آخر عما كان في أيام زمان، فقد أصبح دوره شكليًا، لكنه مهم من الناحية النفسية، لأنه يذكر الناس بفولكلور شعبي يحرص الناس على ديمومته في رمضان.

يضيف كريم: في السابق كان المسحراتي يتجول والناس نيام. أما الآن فهو يجوب الأحياء والناس مستيقظون في الكثير من الأحيان، ويسهرون أمام شاشات الفضائيات والحواسيب.

وفي ظل بقاء البعض لفترة متأخرة من الليل يحرص بعض الأطفال والشباب على مشاهدته، بل ومرافقته في الأزقة والشوارع. ويروي كريم كيف انه ومجموعة من أصدقائه يحرصون في بعض الأيام على التجول مع المسحراتي يقرعون معه الطبول، ويتناولون معه في تجوالهم الحلويات لاسيما البقلاوة، ثم يجلسون يتسامرون في بعض زوايا الحي.

ومنذ العام الماضي، حيث استتب الوضع الأمني في بعض المناطق، ازدهر من جديد الكثير من المظاهر الرمضانية في احياء المدن وشوارعها، حيث أصبح التجول في المتنزهات ومراكز المدن جزءًا من السهرات الرمضانية.