تراجعت موجة الانشقاقات في الجيش السوري النظامي، فما كان من الثوار المعارضين إلا انتهاج أساليب أخرى منها تشجيعية، ومنها ترهيبية، ومنها عملية كالخطف والتخدير والتنويم.


لندن:
اعتمدت التشكيلات المسلحة التي تنضوي تحت راية الجيش السوري الحر طيلة الأشهر الماضية على الانشقاقات عن الجيش النظامي لرفد صفوفها، بما يتيح للمعارضة المسلحة ان تتحدى نظام الرئيس بشار الأسد. وكان كل يوم يحمل معه عددًا جديدًا من المجندين المنشقين، إذ كان الجنود يفرون أفواجًا، وكان الضباط يتسللون عبر الحدود للانضمام للمعارضة بأعداد متزايدة، ما كان يساهم في رفع معنويات المقاتلين وتعزيز صفوفهم.

الانشقاقات داخل صفوف الجيش السوريتكون قسرية في بعض الأحيان

تخدير وأساليب أخرى

لكن قادة عسكريين في تشكيلات المعارضة المسلحة يقولون الآن إن الانشقاقات تباطأت إلى أعداد قليلة، ويئس بعض القادة الميدانيين من تشجيع جنود آخرين على الانشقاق، فيما لجأ البعض الآخر إلى إجراءات أخرى بينها الإكراه والاستدراج وحتى التخدير والخطف، لحمل العسكريين على الانتقال إلى صفوف المعارضة أو على الأقل عدم الانخراط في القتال ضدها، بحسب صحيفة نيويورك تايمز التي نقلت عن قادة ميدانيين أن المعارضة من دون انشقاقات عن الجيش النظامي لا تنمو ولا أمل لها بالانتصار.
وقال القائد الميداني احمد قنطاري، الذي انشق عن الحرس الجمهوري، لصحيفة نيويورك تايمز: quot;نحن نستخدم وسائل لا يستخدمها إلا الشيطانquot;.
ومع دخول الانتفاضة شهرها التاسع عشر، تحركت قوات النظام بفاعلية لقطع أهم مصدر يرفد قوات المعارضة، وهو انشقاق جنود مدربين ومسلحين ينتقلون إلى صفوف المعارضة. وفي تغيير استراتيجي أخذ النظام يهاجم المدن والأحياء عن بعد مستخدمًا المدفعية والطيران الحربي، مع الاحتفاظ بموارده وإبعاد جنوده عن مقاتلي المعارضة، وعن المواطنين الذين قد يشجعونهم على الانشقاق، بمن فيهم الأصدقاء والجيران.

صعوبة متزايدة

يخشى بعض قادة قوات المعارضة المسلحة ان يكون جميع الجنود الذين يريدون الانشقاق قد انشقوا فعلًا، بينما الباقون موالون للنظام او خائفون من الانقلاب عليه. وتساور قادة عسكريون آخرون مخاوف من تسلل متطرفين إلى صفوف المعارضة المسلحة.
وكان الهجوم الانتحاري الذي أسفر عن مقتل اكثر من 40 شخصًا وتدمير منطقة تسيطر عليها قوات الحكومة في حلب يوم الأربعاء أثار ردود فعل غاضبة على نطاق واسع. وإذ أدركت بعض تشكيلات المعارضة المسلحة الضرر الذي تسببه مثل هذه الأعمال بالتأييد الشعبي للانتفاضة، فإنها سارعت على الفور إلى اتهام النظام بتدبير عملية التفجير. ولكن بحلول المساء، اعلنت جبهة النصرة، ذراع تنظيم القاعدة، مسؤوليتها عن تلك التفجيرات الانتحارية.
وقال العقيد قاسم سعد الدين، قائد المجلس العسكري في حمص، في مقابلة أُجريت معه داخل الأراضي التركية، إن اجراءات المراقبة الشديدة التي يطبقها النظام على حواجز التفتيش تعني quot;أن الاتصال بالضباط أصبح أصعب بكثيرquot;. وأضاف أن حماية عائلات المنشقين أصبحت أصعب، وبات من العسير مثلًا إيجاد بيوت آمنة في الأحياء التي أفرغتها قوات النظام من سكانها.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز سعد الدين قوله quot;إن الضباط أكثر ترددًا هذه الأيام وإن مقاتلي المعارضة يستخدمون القوة أكثر فأكثرquot;. واضاف معترفًا: quot;نعتقلهم ونمنحهم فرصة للانشقاق. البعض يقتنع بعد اسبوع، فيكونون موضع ترحيب، ومن لا يقتنع ويبقى مواليًا للنظام يُسجن وسيُقدم للمحاكمةquot;.

quot;ديناميكية تكرس نفسها بنفسهاquot;

تعكس بعض أساليب المقاتلين دهاءً فرضته الضرورة، لكنها تعبر عن قدرة على ممارسة الوحشية، بحسب تعبير صحيفة نيويورك تايمز، التي لفتت إلى أن مجموعات من مقاتلي المعارضة المسلحة اتُهمت مرات متعددة خلال الأشهر الأخيرة بإعدام جنود أسرى من دون أن تبذل مجهودًا لإقناعهم بالانشقاق. وفي الاسبوع الماضي تبنى مقاتلو المعارضة تفجير مدرسة قالوا انها كانت تُستخدم مقرًا عسكريًا لقوات النظام.
ولاحظ الباحث المختص بالشؤون السورية في مجموعة الأزمات الدولية بيتر هاردنغ انه quot;كلما تناقص عدد المنشقين قلَّ سعي المعارضة إلى كسب الجنود بدلًا من مجرد مقاتلتهم. وكلما كانت معاملة المجموعات المسلحة للعدو قاسية قلَّ عدد الذين سينتقلون إلى جانبها. انها ديناميكية تكرس نفسها بنفسهاquot;.
وقال قادة عسكريون من المعارضة إنهم ما زالوا يمارسون أسلوب الإقناع. وأكد قنطاري أنه يفضّل إرسال وسطاء تبدو عليهم البراءة إلى الجنود على حواجز التفتيش. وأضاف أن صبيًا في الثانية عشرة مثلا ساعد في كسب جندي بالالحاح عليه إلى أن رضخ له. فقد ظل الصبي يوبخه قائلًا: quot;يا رجل لماذا لا تنشقquot;!

إنشقاق بالتنويم

وأرسل ضابط آخر في المعارضة المسلحة، قدم نفسه باسم أبو علي، حلاقًا عقد صداقات مع الجنود بإبداء استعداده لقص شعرهم أو غسل ملابسهم. وقال ابو علي ان جنود النظام quot;يريدون ان ينشقواquot; ولكنهم quot;لا يعرفون كيف أو من يستطيع ان يساعدهمquot;.
وقال قائد ميداني آخر كان تاجرًا قبل أن ينضم إلى المعارضة إنه أرسل ذات مرة راعيًا يطوف على حواجز التفتيش ويعير آذانا صاغية للجنود مبديًا تعاطفه معهم. وأكد أن ذلك مفيد إذا كان الجنود ايضا من الرعاة الذين ينتابهم الحنين.
من بين وسطاء هذا القائد عاملٌ يتولى إيصال وجبات الطعام إلى الزبائن خارج المطعم، تعرَّف إلى ستة مجندين يريدون الانشقاق، لكن حاجز التفتيش الذي يتمركزون فيه كان مؤمَّنًا بطريقة محكمة لا تتيح لهم الافلات من عيون الضباط والفرار. وقال القائد العسكري: quot;أرسلنا حبوبًا منومة وضعها المجندون في الماء والشايquot;. ويروي جندي اسمه شادي، كان احد الذين انشقوا ذلك اليوم: quot;كانوا 38 جنديًا غلبهم النوم، فوقعوا جميعًا في قبضة الثوار مع اسلحتهم، انتقل بعضهم إلى صفوف المعارضة بإرادتهم، بينما تعهد الآخرون ألا يعودوا إلى القتال، وعاد جدنديان إلى صفوف الجيشquot;.

لم اثق بزوجتي!

يقول قادة عسكريون في المعارضة إن آلاف المجندين انتقلوا إلى صفوفهم، ولكن ثمة مراقبين يشيرون إلى انه ليست هناك أدلة يُعتد بها للقول إن هذه الانشقاقات تسبب المصاعب لجيش النظام. ويقول كثير من مقاتلي المعارضة انهم ينتظرون مجيء اللحظة الحاسمة عندما ينشق لواء كامل مثلا. وإلى أن يحدث ذلك، فانهم يعملون جاهدين على كسب آخر معارض ما زال في جيش النظام وتشجيعه على الانشقاق.
وقال ضابط من دمشق إن مقاتلي المعارضة ظلوا يتصلون به طيلة 16 شهرًا من دون أن يذكروا اسماءهم، يمطرونه بالمناشدات الودية قبل أن يهددوه بالقتل إذا لم ينشق. ولتأكيد رسالتهم، اتصلوا به مستخدمين هواتف جنود قتلى. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الضابط انه انشق في نهاية المطاف quot;ولكني كنتُ خائفًا حتى إني لم أثق بزوجتي نفسهاquot;.

بين نارين

قبل أسابيع، قرر ثلاثة من حراس الحدود السوريين الهروب إلى الخارج، وأجبروا جنديًا آخر لم يكن راغبًا في الانشقاق على مرافقتهم تحت تهديد السلاح خوفًا من ان يجهض عملية هروبهم. وقال الجندي في اتصال هاتفي من بلد مجاور إنه كان في مأزق، quot;فلو بقيت لحمَّلني الضباط مسؤولية هروبهم، وكنتُ سأواجه حكم الاعدام بكل تأكيد، ولو رفضت فإن رفاقي ربما كانوا سيقتلوننيquot;.
وبعد عبور الحدود قال المنشقون للجندي انه حر. وقال الجندي quot;ولكن أين أذهب؟ فأنا عالق بلا طريق للعودة وأنا مشارك الآنquot;. وأكد الجندي انه بدأ يتعاطف مع الثوار منذ انتقاله إلى حياة المنفى.
واثارت مثل هذه الأساليب استياء بعض الناشطين المناوئين للنظام خشية ان تؤثر سلبافي رصيد الانتفاضة الشعبي. وقال ناشط، طلب عدم ذكر اسمه، لصحيفة نيويورك تايمز إن ضابطًا من اللاذقية خُطف وأُلقي في صندوق سيارة ثم قيل له انه منشق عن جيش النظام، واصفًا هذه الواقعة بأنها تأتي في اطار اتجاه مثير للقلق.

ولاء ملتبس

لكن العديد من المنشقين قالوا إنهم لم يكونوا بحاجة إلى اقناع إزاء وحشية النظام، مؤكدين ان قرار الانشقاق أتى تأثرًا بأعداد الضحايا الأبرياء التي سقطت، وبالمدن التي شاركوا في تدميرها. وتحدثوا باعتزاز عن حماية التظاهرات والدفاع عن منازل المواطنين.
وبعد تحول الانتفاضة إلى شيء أكثر إبهامًا جعلها في آن واحد نضالًا ضد حكم دكتاتوري وحربًا ملوثة بالطائفية والتدخل الخارجي، أصبحت الولاءات أيضًا أشد التباسا.
فقبل ايام، ظهر العقيد المهندس خالد عبد الرحمن الزامل، الذي كان قياديًا في المجلس العسكري في دمشق، خلال مؤتمر لمعارضة الداخل معلنا عودته عن انشقاقه. وقال العقيد الزامل في المؤتمر quot;إن الحل في سوريا لا يكون باستخدام السلاح ولا بالعنف ولا بالتخريب والتفجير وقتل النفوس البريئةquot;.
وقال متحدث باسم الجيش السوري الحر إن عودة العقيد الزامل عن انشقاقه خدعة، مشيرًا إلى إلقاء القبض على العقيد منذ آذار (مارس) الماضي، ومؤكدًا: quot;الزامل زميلنا وصديقناquot;.