أطفال تبدو صورهم وكأنها اساطير يونانية لمخلوقات غير بشرية، تعريف أطلقته مجلة quot;دير شبيغلquot; الإلمانية على حال الأطفال المصابين بتشوهات مجهولة السبب في العراق.

صمتت أصوات المدافع في العراق منذ بضع سنوات، لكن آهات الألم ولوعة الآباء والأمهات في البصرة والفلوجة ما زالت مسموعة، والسبب هو الارتفاع المخيف في حالات السرطان والتشوهات الخلقية التي يعتقد السكان أنها نتيجة أسلحة اليورانيوم التي استخدمتها الولايات المتحدة في العراق.
يعتقد عدد من الباحثين أن سكان البصرة والفلوجة محقين في اعتبارهم أن ذخيرة اليورانيوم الأميركية هى السبب في ارتفاع أعداد المصابين بمرض السرطان والتشوهات الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة. وأدت هذه المعاناة إلى مشاهد لا يمكن وصفها في القصص أو أفلام الرعب.
يتحدث العراقي عسكر بن سعيد عن مشاهد من تلك الصورة المأساوية واصفاً الأطفال الذين يعانون من تشوهات في أجسادهم، فوصفت مجلة quot;در شبيغلquot; الألمانية هذه الصور وكأنها اساطير يونانية لمخلوقات غير بشرية.
quot;إنها كائنات مشوهة، رأيتهم بعيني، أحدهم بعين واحدة، وآخر برأسين، وطفل لديه ما يشبه الذنب أسفل ظهره، وفتاة تعاني من التصاق في رجليها حتى بدت وكأنها نصف انسان ونصف سمكة، وفتى آخر سليم الجسد إنما بوجه قردquot;، يقول بن سعيد واصفاً المآسي التي يشاهدها.
يحضر هؤلاء الأطفال إلى عسكر بن سعيد ليقوم بغسلهم وتكفينهم، ليدفنهم في مقبرة سوداء تتازحم قبورها وسط الخراب، بعضها يحمل اسم الضحية وتاريخ ميلاده ووفاته، وفي كثير من الحالات لاوجود لتاريخ الميلاد. لكن التاريخ غير مهم بالنسبة لهؤلاء الأطفال لأن تاريخ ميلادهم هو ذاته تاريخ وفاتهم.
تضم المقبرة آلاف القبور، يضاف إليها ما بين خمسة إلى عشرة جثة كل يوم. ويحتار اهالي البصرة في تفسير السبب الكامن وراء ارتفاع أعداد الموتى والتشوهات بين حديثي الولادة، إذ يقول بن سعيد: quot;لا يوجد سبب منطقي لارتفاع هذا العدد من الموتى بسبب التشوهات والامراض الغامضةquot;.
إلا أن الباحثين قد يملكون بعض التفسيرات، فقد رصدت دراسة وردت بعدد سبتمبر/أيلول الماضي لنشرة التلوث البيئي والتسمم ndash; وهي مجلة علمية تصدر في بلدة هايدلبرغ بجنوب غرب ألمانيا- زيادة بلغت سبعة مرات في تشوهات المواليد في البصرة من العام 1994 الى العام 2004 ، فمن بين كل ألف ولادة، يولد 23 طفلاً مصابين بتشوهات خلقية .
ورصدت حالات وأرقام مماثلة فى بلدة الفلوجة التي شهدت معارك ضارية عام 2003، إذ تشير الدراسة إلى أن نسبة تركّز الرصاص في الأسنان اللبنية لدى الاطفال المرضى في البصرة تعادل ثلاثة أمثال النسبة لدى الأطفال في المناطق التي لم يطلها القتال.
ويشار إلى أنه لم تسجل من قبل على الإطلاق تلك النسبة المرتفعة لمعدل الأنبوب الظهري (الظهر المفتوح) لدى الأطفال مثلما هي في البصرة اليوم، والأسوأ هو أن هذه النسبة في تزايد مستمر.
وتوصلت الدراسة الألمانية إلى أن نسبة المرضى المصابين بحالة هايدروسيفالوس (وجود مياه في محيط الدماغ) بين حديثي الولادة تبلغ ستة أمثال نظيرتها في الولايات المتحدة.
يقول جواد علي، المتخصص في معالجة أمراض السرطان في مستشفى الصدر في بغداد، انه quot;منذ عام 1991، ارتفعت حالات الإصابة بمرض السرطان فجأة وبسرعة هائلة، حتى أن الإصابة بسرطان الكليتين والمعدة قد تزايدت بمقدار الضعفين أو ثلالثة أضعافquot;.
واشار إلى أن هناك عائلات بأكملها أصيبت بالسرطان، مشدداً على اعتقاده بأن هذا الأمر مرتبط بذخيرة اليورانيوم التي استخدمها الغرب في حربه على العراق. واضاف أن هناك صلة حتمية بين السرطان والإشعاع، وربما يستغرق الأمر مابين عشرة إلى عشرين عاماً قبل ظهور أعراض المرض.
مصطلح ذخيرة اليورانيوم يعني المقذوفات التي تتكون بمجملها أو في جزء منها من اليورانيوم المستنفد أو اليورانيوم ضعيف الإشعاع ويرمز إليها ب( دي يو) DU. وعند نشر الجنود الألمان في مهام خارج البلاد يتم تعليمهم أن ذخيرة اليورانيوم هي المقذوفات الخارقة للدروع المحشوة باليورانيوم المستنفد، والتي لشدة كثافتها تعطي قوة دفع عالية للغاية للمقذوف، مما يمكنه من اختراق أي دروع للدبابات المقاتلة.
عندما تنفجر مقذوفات اليورانيوم، تخلف وراءها ndash; مع الدمار الذي تسببه - غباراً نووياً خالصاً. وبطبيعة الحال، فإن الفوضى في البلاد وتجول الأطفال بجوار الدبابات المحطمة يؤدي إلى انتقال هذا الغبار وامتصاصه داخل بشرتهم، أو أنهم يستنشقوه من خلال جهازهم التنفسي أو يدخل أفواههم.
رصدت دراسة أخرى لجامعة بريمن عام 2002 بشمال ألمانيا حدوث تغيرات كروموزومية أثناء حرب الخليج لدى المحاربين الذين تعاملوا مع ذخيرة اليورانيوم.
وتشير وزارة الدفاع الالمانية إلى أن خطر الإصابة بالأمراض لا يأتي من الاشعاع نفسه بل من السمية الكيميائية لليورانيوم. وعلى الرغم من أن الجمعية الملكية البريطانية خلصت في دراسة لها عام 2002 حول الخطر المحتمل لهذا السلاح - الى أن الاضرار الناجمة عن الاشعاع منخفضة للغاية مثلما الخطر الناجم عن السمية المزمنة للكلى بسبب غبار اليورانيوم - إلا ان تلك الدراسة لا تقنع سكان البصرة الذين يصفون مدينتهم بأنها مستودع قمامة مشع.
محمد حيدر، من سكان القبلة في البصرة يدخرمعظم موارده لعلاج ابنته (3 أعوام) التي تعاني من شق بالعمود الفقري وهي إحدى الأعراض التي تدل على الغصابة بمرض هايدروسيفالوس الذي يسبب تصريف السوائل من الدماغ.
استخدمت مقذوفات اليورانيوم مرتين فى البصرة، الأولى خارج المدينة فى حرب الخليج عام 1991 والثانية داخل المدينة في العام 2003.
وتشير خيرية أبو ياسين من مكتب البيئة في المدينة إلى أنه تم استخدام نحو 200 طن من ذخيرة اليورانيوم في البصرة، بينما تدعي وزارة الدفاع البريطانية أنه تم استخدام طنين فقط من تلك الذخيرة خلال فترة الحرب. وظل حطام الدبابات المدمرة بتلك الذخيرة متناثراً في شوارع البلدة حتى العام 2008 .
واعتبرت quot;در شبيغلquot; أنه من المستحيل إبعاد الأطفال عن الحطام رغم ما بذله الأهالي من محاولة تعليم الأطفال عن مخاطر اقترابهم، ووضع لافتات مكتوب عليها خطر الإشعاع. لكن صحيفة واحدة في الولايات المتحدة لم تكلف نفسها حتى الآن عناء الحديث عن هذه المشكلة.