يرى مراقبون أن سوريا منغمرة أصلاً في حرب أهلية الأمر الذي وقف عائقًا حتى الآن أمام نجاح خطة المبعوث الأممي الخاص كوفي انان، في وقت يبدو فيه أن الرئيس السوري بشار الأسد قد أفلت فعلا من اللحاق بمصير حسني مبارك ومعمر القذافي.
ابلغ المبعوث الأممي الخاص كوفي انان مجلس الأمن الدولي يوم الثلاثاء ان خطته المتعثرة هي الفرصة الأخيرة لتفادي انزلاق سوريا الى حرب أهلية شاملة. ولكن مراقبين يرون ان السبب في ان خطته لوقف اطلاق النار واجراء حوار بين الفرقاء لم تنجح في انهاء القتال رغم الاتفاق على وقف اطلاق النار منذ شهر هو ان سوريا اصلا منغمرة في حرب اهلية. وبعد نحو 15 شهرا على اندلاع الانتفاضة من الواضح ان الرئيس بشار الأسد أفلت من الالتحاق بمصير الرئيس المصري حسني مبارك أو الزعيم الليبي معمر القذافي ، وهو بدلا من ذلك يستوحي خبرة الزعيم الصربي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش ، بحسب المراقبين.
تتواصل عمليات القتل في سوريا بشكل يومي |
وكانت انباء العنف السياسي في سوريا تتصدر العناوين الرئيسية في وسائل الاعلام الغربية التي بدا ان تغطيتها تفترض وصول الربيع العربي الى سوريا وان الأسد سينتهي قريبا الى ما آل اليه مصير مبارك أو القذافي. ولكن سوريا تبدو اليوم اقرب الى حرب البلقان في التسعينات منها الى بوادر الربيع العربي. فان هذا النزاع الأهلي الدموي يضع جماعات متحاربة ضد بعضها البعض على اساس طائفي فيما تبدو القوى الغربية عاجزة إزاء تخبط مبادرات السلام التي طرحها دبلوماسيون اجانب وانتهاك الطرفين المتحاربين لوقف اطلاق النار ، بحسب مجلة تايم التي تلاحظ ان
ذبح السوري للسوري قلما يتصدر العناوين البارزة اليوم رغم الحقيقة الماثلة في ارتفاع حصيلة النزاع الى أكثر من 9000 قتيل. وأصبحت وجهات النظر القائلة بضرورة التدخل والمعارضة للتدخل اسطوانة مكرورة. فالحرب الأهلية السورية هي الوضع الطبيعي الآن ، على حد تعبير مجلة تايم.
وقبل نحو عقدين ، وسط تفكك يوغسلافيا السابقة ، شنت القوات الصربية بقيادة الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش واتباعه من صرب البوسنة حربا لاقتطاع البوسنة وتوسيع الرقعة الاقليمية الواقعة تحت السيطرة الصربية بحملة وحشية من quot;التطهير العرقيquot; ، وهو مصطلح لم تعد وسائل الاعلام الغربية تستخدمه بين علامات اقتباس ولكنه كان وقتذاك تعبيرا مطلفا على نحو مريع للمجازر المرتكبة بحق مسلمي البوسنة.
وبدأت حرب البوسنة بشراسة بعد شهر على توقيع الفرقاء خطة سلام دولية أُطلق عليها اسمي مهندسيها ، الدبلوماسي البريطاني بيتر كارنغتون والسفير البرتغالي خوسيه كوتيليرو. وما أعقب الخطة كان سنوات من القتال العنيف قبل ان يبدأ حلف الأطلسي فرض منطقة حظر جوي في عام 1994 وتصعيد تدخله أخيرا لحمل الأطرف المتحاربة على قبول اتفاقية سلام بائسة لتقاسم السلطة وُقعت في دايتون بولاية اوهايو الاميركية عام 1995. وكان احد الموقعين على الاتفاقية ميلوشيفيتش الذي عزز سلطته عن طريق الحرب حتى انه اصبح لاعبا لا غنى عنه في جهود اعادة السلام.
ويبدو ان الرئيس الأسد قرر في وقت مبكر من الأزمة ان يكون ميلوشيفيتش بدلا من القذافي. وهو ينفذ قراره بنجاح حتى الآن. فبعد ان تحولت الانتفاضة من حركة احتجاج سلمية الى حرب اهلية ذات بعد طائفي ، تمكن الأسد من الالتفاف على المطلب الداعي الى تنحيه. وبدلا من تنحيه تستند مشاريع السلام الآن الى تأمين موافقته على وقف عنف النظام. ورغم حديث انان في تقريره عن انحسار العنف فان من غير المعروف ما إذا كان كثير من الذين يقاتلون قوات الأسد مستعدين للالتزام بوقف اطلاق النار حتى إذا كانوا يمنحون النظام أفضلية سياسية ودبلوماسية بتجاهلهم وقف اطلاق النار. والمؤكد ان النظام يواصل توجيه نيرانه حيثما يرى تحديا يرفض سطوته مدركا ان السيادة له في حلبة العنف.
وتتفوق قوات الأسد عسكريا على المعارضة وتبدو قادرة بسهولة على منع مقاتلي المعارضة من السيطرة على رقعة ارض والاحتفاظ بها حتى وإن كان النظام عاجزا عن سحق الانتفاضة. ورغم الحديث عن تسليح المعارضة ، لا سيما من جانب العربية السعودية وقطر ، فليست هناك بوادر يُعتد بها على مثل هذه المعونة بل يجد الثوار صعوبة في جمع المال لشراء الذخيرة. وبالطبع أفلح الأسد في دفع القوى الغربية الى التراجع عن اصرارها على تنحيه والتركيز بدلا من ذلك على ايجاد حل يوقف العنف مع بقائه في السلطة.
وبخلاف القذافي فان الأسد يتمتع بدعم دبلوماسي قوي من روسيا والصين اللتين تعارضان أي تدخل أجنبي يهدف الى تغيير النظام ، وكذلك بمساعدات عسكرية واقتصادية من ايران ، حليفه الرئيس في المنطقة. وفي هذه الأثناء فان اوروبا مشغولة بأزمتها الاقتصادية فيما تمر الولايات المتحدة ، كما في عام 1992 ، بفترة ركود فضلا عن تركيزها على الانتخابات الرئاسية وانسداد شهيتها للتدخل العسكري بعد حربي العراق وافغانستان. وأُبعد قبل ايام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي كان من المتحمسين لتدخل حلف الأطلسي في ليبيا. وأوضح خلفه الرئيس المنتخب فرانسوا اولاند ان فرنسا لن تشارك في أي عمل عسكري في سوريا إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي ، وهو أمر مستبعد إزاء سيف الفيتو الذي تسلطه روسيا والصين على المجلس.
وأصبحت تركيا محط الآمال المعقودة على شكل من اشكال التدخل نظرا لدورها في استضافة الجيش السوري الحر وغضبها على ادارة الأسد للأزمة. ولكن حقيقة ان مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا بدأت تكتسب سمات اقامة دائمة تشير الى ان تركيا ليست مقبلة على تدخل لاسقاط النظام بأمل وضع نهاية للنزاع. وهي بدلا من ذلك تضع في حساباتها استمرار النزاع فترة مديدة ، كما تشير مجلة تايم.
ولكن إذا كانت سيناريوهات التدخل كلها محفوفة بمخاطر فان الوقوف موقف المتفرج فيما يزداد النزاع تفاقما يشجع التطرف في معسكر المعارضة. وان تزايد التفجيرات الانتحارية وغيرها من الدلائل على انخراط جهاديين في النزاع بجانب المعارضة يعطي الحكومات الغربية سببا للتريث. ويقتصر الدور الدولي في الوقت الحاضر على جهود انان لوقف اطلاق النار ، ونحو 40 مراقبا للتوثق من الالتزام به. ورغم ان عددهم سيرتفع الى 300 مراقب على ما يُفترض فانهم ليسوا قوة مهمتها وقف العنف بقدر ما هي ممارسة ضغط سياسي ودبلوماسي.
وكانت هناك نبرة يأس واستسلام في الكلمات التي اختارها الناطق باسم البيت الأبيض جاي كارني عندما لاحظ الاسبوع الماضي انه إذا استمر تشدد النظام السوري quot;سيتعين على المجتمع الدولي ان يعترف بالهزيمة... ومن الواضح اننا لن ننكر بأن الخطة لم تنجح حتى الآنquot;. وما يعنيه كارني ، كما ترى مجلة تايم ، هو ان الاعتراف بالهزيمة سيتطلب من المجتمع الدولي ان يتقدم ببديل ولكن ليس هناك ما ينم عن وجود خطة بديلة ستتبلور معالمها في وقت قريب. وتطلَّب إعداد مثل هذه الخطة البديلة سنوات في البوسنة ، وحتى بعد اعدادها وتنفيذها لم تكن النهاية سعيدة لأن الخطة كانت تهدف الى انقاذ ما يمكن انقاذه من وضع سيئ اصلا.
التعليقات