لم تتقدّم محاكمة رجال الأعمال التونسيين المقربين من نظام بن علي، والذين تورطوا في سرقات وعمليات نهب للمال العام، الأمر الذي دفع بمعارضي الحكومة إلى اتهامها بتوظيف الملفّ سياسيًا ولغايات انتخابية بالتستّر على بعض من رجال المال والأعمال.


تونس: يثير ملف رجال الأعمال التونسيين المورّطين في قضايا فساد، زمن حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ردود فعل مختلفة نظرًا لحساسيته الكبيرة، حتى أنّ نائبًا في المجلس الوطني التأسيسي اتهم الحكومة بالتستر على رجال الأعمال quot;لخدمة أجندة سياسيةquot;، فيما اعتبر آخرون هذا الملف quot;ورقة رابحة بين أيدي الوزراء لاستغلاله في الانتخابات القادمةquot;، وهو ما تنفيه الحكومة باستمرار.

ويترقّب عدد كبير من رجال الأعمال في تونس مصيرهم بحذر خصوصًا ممن تحوم حولهم شبهات الفساد والتورّط مع عائلتي بن علي والطرابلسي اللتين كانتا تمسكان بدواليب الاقتصاد التونسي في العهد السابق.

تحجير السفر

في 26 من يونيو الماضي، قرر المجمع القضائي، الراجع بالنظر للقضاء العدلي في تونس، رفع إجراء تحجير السفر عن 20 رجل أعمال من بين أقل من 100 تتضمنها قائمة الممنوعين من السفر، وذلك بحسب ما أعلن رضا السعيدي، الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية.

سمير ديلو (وسط) الوزير المكلف بحقوق الانسان والعدالة الانتقالية في تونس خلال مشاركته في مؤتمر حول العدالة الانتقالية في فبراير الماضي

وأوضح السعيدي حينها أنّ القرار جاء بعد التثبت من ملفات هؤلاء، من قبل القضاة المتعهدين بها، وتسوية وضعياتهم خاصة في ظل ضعف القرائن المتعلقة بملفاتهم.

وأضاف أن المجمع القضائي يقوم بالتثبت في بقية الملفات التي تمت إحالتها عليه مباشرة من قبل القضاء العدلي أو وزارة المالية أو اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة للنظر فيها. كما يعمل على التثبت في مدى استجابتها لموجبات رفع تحجير السفر، وذلك في إطار التقيد بمقتضيات القانون وتحقيق العدالة وإنارة السبيل حول هذا الملف الشائك، على حدّ تعبيره.

وانخفض عدد رجال الأعمال الممنوعين من السفر من بين القائمة التي تضمنت نحو 460 ممنوعًا من السفر، وبعد التدقيقات التي قامت بها وزارة العدل، إلى ما دون 100 رجل أعمال.

وتقول الحكومة التونسية إنها تسعى إلى أن يتم في إطار تطهير مناخ الأعمال ودفع عجلة الاقتصاد إلى إيجاد معالجة وفقًا لطبيعة الملفمع إدارة الضرائب في وزارة المالية بشأن المؤسسات المخالفة جبائيًا والاتفاق حول برامج لتطوير هذه المؤسسات في إطار مقاربة شاملة لا تستهدف المساس بحقوق رجال الأعمال وإنما تحقق دفع الاستثمار وحركة التنمية في الجهات، فيما تتم إحالة الملفات المتضمنة لقرائن تورط واضحة على المجمع القضائي على أن يتم تناول بعض الملفات في إطار قانون العدالة الانتقالية quot;المحاسبة ثم المصالحةquot;.

وسيلة ضغط

اعتبر النائب في الكتلة الديمقراطية في المجلس الوطني التأسيسي عن التيار الإصلاحي محمود البارودي في تصريح لـquot;إيلافquot; أنّ quot; ملف رجال الأعمال هو وسيلة ضغط بين يدي الحكومة، فعدد من رجال الأعمال المتورطين، والذين ثبت قيامهم بتجاوزات تتغافل الحكومة عن محاسبتهم من أجل استغلالهم لأجندات خاصةquot;.

لكنّ النائب في المجلس الوطني التأسيسي عن حركة النهضة علي فارس يؤكد لـquot;إيلافquot; بأنّه quot; لا استغلال لرجال الأعمال لأن الملف يدخل ضمن باب العدالة الإنتقالية، وعندما تفتح ملفات هؤلاء سيقفون أمام القضاء، ومن تثبت إدانته فستتم محاسبته، ومن لم يثبت قيامه بتجاوزات ونهبه للمال العام فسيواصل عمله ومساهمته في بناء الدولة، والمهم أنّ القضاء سيكون الفيصل في مثل هذه الملفاتquot;.

هيئة عليا عمومية مستقلة

أوضح عبدالوهاب الهاني، رئيس حزب المجد في تصريح لـquot;إيلافquot;، أنّ ملف رجال الأعمال يدخل في سياق العدالة الانتقالية وأنّ quot;المطلوب أن تشرف عليه هيئة عمومية مستقلة متكونة من خبراء في المحاسبة والتدقيق معروفين بنزاهتهم وأخلاقهم العالية واستقلاليتهم عن كل المصالح الإقتصادية، فمسار العدالة الانتقالية ينبغي أن يشمل جرائم التهرب الجبائيquot;.

وأضاف رئيس حزب المجد:quot; نعتقد أن هذا الملف يجب أن يخرج في أقرب وقت من بين يدي الحكومة، ويوضع بين يدي هيئة عمومية مستقلة في إطار مقاييس شفافة تحدّد طبيعة التجاوزات وتحيل الملفات إلى القضاء، وإن كان ولا بد من تسوية الملفات فينبغي أن يتمّ في إطار لجان معروفة بحياديتها و استقلاليتهاquot;.

ويتابع: quot;إن بقي الملف بيد الحكومة فمن الطبيعي أن تطاله كل التأويلات وفي كافة الاتجاهات، فالوزراء ليسوا ملائكة، وهم يفكرون في مناصبهم الحكومية والانتخابات المقبلة ومصالح أحزابهم، وبالتالي من الأفضل أن يبعد هذا الملف عن كل شبهةquot;.

وعادة ما تتهم الحكومة في تونس بغضّ النظر عن بعض رجال الاعمال الذين تدور من حولهم شبهات الفساد والتورط مع النظام السابق في نهب المال العام، ويقول معارضون للحكومة إنّ رجال أعمال مقربين جدًا من الرئيس المخلوع، مازالوا يمارسون أنشطتهم بعد quot;اعلان ولائهم وقربهمquot; من حركة النهضة الحاكمة.

لكن الحكومة وحزب النهضة ينفيان باستمرار تلك المزاعم، مؤكدين أن لا أحد فوق القانون، مع اعتراف بين الفينة والأخرى بضعف الاجراءات وبطء سير معالجة هذا الملفّ.

المحاسبة في إطار العدالة الانتقالية

يشير أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد في تصريح لـquot;إيلافquot; أنّ ملف رجال الأعمال التونسيين يجب أن يخضع لمبدأ العدالة الانتقالية، فهؤلاء فرضت على بعضهم عقوبات اقتصادية كتجميد الأموال والحرمان من النشاط الاقتصادي، وبالتالي يجب الإسراع بإيجاد الحلول المناسبة لهذا الملفquot;.

آلية ناجعة

يشير الناشط السياسي عبد الوهاب الهاني إلى quot;ضرورة إعادة فتح هذه الملفات التي تقدر الآن بالمئات تقريبًا سواء كانت ملفات الخوصصة أم ملفات الصفقات الكبرى وتقييمها من جديد وفق مقاييس واضحة وتوجيه نداء إلى العموم، إلى كل من شارك في تلك المناقصة ولم يسعفه الحظ أن يتقدم بملفه من جديد حتى نتمكن من تقييم عقلاني للتفويت في الملك العام بأسلوب الفساد المالي ونهب الإقتصاد الوطنيquot;.

ويعتقد الهاني أنّ :quot;هذه هي الطريقة المثلى للتعاطي مع هذا الملف الذي يعتبر في الواقع مدخلاً للتشهير والابتزاز ولتصفية الحسابات و لتشفي . فلنبدأ بقاعدة واضحة وهي أنّ الخوصصة أدت إلى أشياء غير مقبولة وإلى جرائم اقتصادية، كما الصفقات الكبرى بموجب القرابة من الدولة أو من العائلة الحاكمة سابقًا.

ويضيف الهاني: بالرجوع إلى هذه الآلية التي نقترحها في حزب المجد منذ أن بدأت ملفات الخوصصة، نعتقد أن مراجعة كل ملفات الخوصصة والملفات الكبرى عمومًا منذ 1987 أي منذ مجيء الرئيس المخلوع وخاصة منذ بداية التسعينات حيث كانت لنا وزارة للخوصصة إلى جانب لجان للخوصصة والصفقات العمومية والملفات موثقة ومحفوظة لدى الوزارة الأولى يمكن فتحها من جديد...هذا هو الطرح السليم في اعتقادي الذي من خلاله نعيد تقييم كل الصفقات الكبرى التي أبرمها نظام الرئيس المخلوع سواء كانت داخلية أو خارجية، وهذا يمكننا من فتح ملف الفساد في تونسquot;.

حلول ومقترحات

يرى أستاذ القانون في الجامعة التونسية قيس سعيد أنّ هنالك حلولاً ممكنة في ملف رجال الأعمال في تونس ويقول:quot; يجب البحث عن آليات جديدة للعدالة الانتقالية لأن المرحلة التي تعيشها تونس تتطلب تصنيف الجرائم أولا، ثم العمل من أجل إحداث دوائر مختصة للنظر والبت فيهاquot;.

ويقدّم سعيد مقترحًا لهذا الملف قائلاً :quot; يمكن أن يتم العمل بترتيب مختلف معتمديات البلاد حسب درجة الفقر الذي تعاني منه، وفي مرحلة ثانية تتم المصالحة الجزائية مع رجال الأعمال المورّطين في قضايا الفساد والسرقة ليتبنى كل رجل أعمال منطقة معينة ويعمل على ضخ الأموال المنهوبة في هذه المنطقةquot;.

وأضاف سعيد:quot; المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين يجب أن تتم مع الشعب التونسي الذي تم نهب أمواله ويتم العمل على عمليات ضخ الأموال التي جمدتها الدولة من خلال الأموال المصادرة من طرف الحكومة، والتي تخصص للتنمية في مختلف الجهات المحرومة في المقام الأول...بذلك تتم المصالحة و تتم العدالة الانتقاليةquot;، على حدّ تعبيره.

ويؤكد قيس سعيد أنّ quot;رجال الأعمال يرحبون بهذا المقترح الذي يضمن العدالة الانتقالية من خلال إعادة الأموال المنهوبة إلى الشعب، وذلك بضخها في مشاريع تنموية في الجهات المحرومة، فرجال الأعمال المورّطين يبقون تحت طائلة الحكم الجزائي إلى أن يقوموا فعلاً بضخ الأموال في المشاريع التنموية وذلك تحت مراقبة مؤسسات الدولةquot;.