ما زالت جهود تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بلا نتيجة وسياسة quot;صفر مشاكلquot;، التي أعلنتها مبدأ عامًا في علاقاتها الدولية، تتصدع تحت وطأة دعمها للمعارضة السورية. لكن مراقبين يرون أن هناك جبهة واحدة في السياسة الخارجية ما زالت تبدو واعدة، هي منطقة البحر الأسود.


لا يتبدى هذا الوعد بوضوح مثلما يتبدى في مدينة ترابزون الصناعية، التي تضجّ بالحركة في شمال شرق تركيا، حيث أصبحت مركزًا تجاريًا إقليميًا، بسبب موقع المدينة على الطرق التي تربط المنطقة باسطنبول ومدن أخرى في الشرق.

تزدحم شوارع المدينة الحجرية بالحافلات والمركبات الخصوصية، التي تنقل المسافرين إلى جورجيا، على بعد 200 كلم فقط إلى الشمال الشرقي، فضلاً عن الشاحنات التي تنقل البضائع عبر المنطقة على الطريق السريع الذي يخترق المدينة نفسها.

إذا نُفذ مشروع الطريق الدائري الدولي، الذي يربط البلدان الاثني عشر على البحر الأسود، فإن نمو مدينة ترابزون وموقع تركيا بوصفها قوة إقليمية في المنطقة مرشحان للنمو.

يقدم شاطئ تركيا على البحر الأسود بعيدًا عن حدودها الجنوبية المضطربة، نقيضًا واعدًا لمساعيها المتعثرة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتوسيع شبكة علاقاتها التجارية في الشرق الأوسط. وبرزت أنقرة بوصفها صاحبة مبادرة متميزة للتعاون الإقليمي في إطار منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود، التي أُنشئت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.

ورغم أن تركيا كانت واحدة من عشر دول شاركت في تأسيس المنظمة، فإنها قامت بدور قيادي في بنائها، وما زال مقر المنظمة الدائم في اسطنبول.

استأثرت بنشاط المنظمة في سنواتها الأولى مبادرة تركيا الهادفة إلى تقديم بديل من النظام الاشتراكي في دول المنظمة الأخرى، كما قال ترايان تشبيلو السفير الروماني السابق، وحاليًا نائب الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود لشؤون النقل. ففي 1992، عام تأسيس المنظمة، أطلقت تركيا برنامجها لمساعدة البلدان النامية باسم quot;الوكالة التركية للتعاون الدولي والتنميةquot;. وركزت الوكالة في سنواتها الأولى على مساعدة دول آسيا والوسطى ومنطقة القوقاز المستقلة حديثًا.

اليوم تأمل دول البحر الأسود بأن تعمل مشاريع، مثل الطريق الدائري في حوض البحر الأسود، على تنشيط التجارة والتعاون الاقتصادي الإقليمي. وشهدت التجارة بين دول المنطقة انتعاشة كبرى بعد ركودها عام 2009، في حين أن التجارة مع الاتحاد الأوروبي تستعيد عافيتها بوتيرة أبطأ.

ويقول محللون إن بلدان المنطقة ربما بدأت ترى أن التعاون بينها أجدى وأنفع من التعامل مع جاراتها الأقل استقرارًا. كما إن حركة السفر على الطرق البرية بين دول منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود سجلت نموًا قدره 40.8 في المئة خلال الفترة الواقعة ما بين 2007 و2011 مقابل 36.3 في المئة بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي.

وما زال مشروع الطريق الدائري السريع في مرحلة التطوير، ولكن طريقًا ذا أربعة ممرات، يربط 12 بلدًا، سيكون دفعة قوية لنمو التجارة والسياحة، أو هذا على الأقل ما تراهن عليه منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود صاحبة المبادرة في المشروع.

ورغم محاولات المنظمة للتقريب بين النظم التجارية في دولها الأعضاء، فإنه من الصعب قياس الآثار المباشرة لتأسيس المنظمة على التجارة البينية في المنطقة.

بالنسبة إلى تركيا فإن المشروع يمكن أن يصبح الخطوة الأولى في إعادة رسم توجه سياستها الخارجية، لا سيما وأن شاطئها على البحر الأسود منطقة واسعة، والجهود الأخيرة لترميم العلاقات بين تركيا وروسيا تشير كلها إلى أن هذه المنطقة تكتسب أهمية متزايدة لمصالح تركيا.

بعد روسيا، تأتي تركيا ثانية في حجم الصادرات الإقليمية. وفي حين أن روسيا وغيرها من الدول الأعضاء في المنظمة، مثل أذربيجان وأوكرانيا، تصدر النفط، فإن صادرات تركيا الرئيسة هي المنسوجات والآلات، كما يقول الاقتصادي أوسال شاهباز من مؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية في أنقرة.

نقلت صحيفة كريستيان ساينس مونتر عن شاهباز إن الطريق الدائري بين دول المنطقة سيزيد سرعة نقل البضائع، ويرفع كفاءتها، مشيرًا إلى تراجع النقل البحري بالمؤشرات النسبية، وتزايد أهمية النقل بالسكك الحديد والطرق البرية. وقال شاهباز إن النقل البحري من الصين إلى أوروبا يستغرق 45 يومًا، في حين أنه يستغرق 10 أيامًا، أو نحو ذلك بالطرق البرية أو السكك الحديد.

ورغم أن منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود نظمت كرفان الطريق الدائري في حوض البحر عام 2007، الذي كان بمثابة اختبار، قطعت فيه الشاحنات أكثر من 7400 كلم، مخترقة غالبية الدول الأعضاء، فإن الطريق الدائري لم يُنجز بكل المقاطع التي يتكون منها، ولا الدول ذات العلاقة اتفقت على مناطق مروره.

وأُنجزت مقاطع الطريق في تركيا واليونان، ولكن الدول العشر الأخرى لم تنجز المقاطع التي تمر بها من الطريق. وتواجه حركة النقل البري بين دول البحر الأسود حاليًا تأخيرات طويلة على المعابر الحدودية ورسومًا عالية أو غيرها من العراقيل البيروقراطية في منح تأشيرات المرور لسائقي الشاحنات.

وقال نائب أمين عام منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود ترايان تشبيلو لصحيفة كريستيان ساينس مونتر إن المنظمة تأمل بالاتفاق على إطار زمني لإنجاز البناء بحلول عام 2014. وتحدث تشبيلو من مكتبه في مقر المنظمة في اسطنبول عن التحدي الذي تطرحه مثل هذه الخلافات على المنظمة.

ويشكل النزاع بين روسيا وجورجيا التحدي الأكبر، رغم أن حرب 2008 بينهما ليست العقبة الوحيدة، بل أضيفت إلى المشاكل، كما قال تشبيلو، مشيرًا إلى أن النزاعات الإقليمية بين دول المنطقة، سواء بين روسيا وجورجيا أو مولدوفا وأوكرانيا، تزيد الوضع تعقيدًا.

لكن تشبيلو أكد أن هناك إرادة لإيجاد حلول، ليس بسبب المكاسب الاقتصادية لمثل هذه المشاريع فحسب، بل أيضًا المنافع السياسية للتعاون الاقتصادي في تعامل دول المنطقة مع عدد من النزاعات الداخلية. وقال تشبيلو quot;إن الأمر يتوقف بالطبع على ما تريده الدول الأعضاء من دون تدخل من أحد في قراراتها، لكننا جميعًا نريد قبول القرار الذي تراه مناسبًا لهاquot;.

تتسم مشاركة تركيا بأهمية بالغة، لأنها شريك تجاري كبير للعديد من دول البحر الأسود ذات الاقتصادات الأصغر نسبيًا. فإن طريق النقل لا يربط دول القوقاز بدول الاتحاد الأوروبي والبلقان، إلا إذا مر بمحاذاة الساحل الشمالي التركي. وتعتبر شبكة النقل على امتداد شواطئ البحر الأسود بمثابة ضمانة لدور تركيا المتميز في المنطقة، ولكنها تبحث عن قنوات أخرى أيضًا لمد نفوذها الاقتصادي الإقليمي.

وقال سلجوق جولاك أوغلو المستشار في مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية التركية إن تركيا في الوقت الذي تشجّع على بناء الطريق الدائري في حوض البحر الأسود تسعى أيضًا إلى بناء شبكة نقل خاصة بها، تتألف من وحدات ثنائية.

وإذا أمكن حل النزاعات بين عدد من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي لحوض البحر الأسود ومضى بناء الطريق الدولي قدمًا، فإن تركيا ستكون في موقع يجعلها بمثابة العمود الفقري الجغرافي والاقتصادي لشبكة تجارية مربحة جديدة في المنطقة.