حين ثار الليبيون ضد القذافي، رفعوا راية الملكية في ليبيا أيام السنوسي، لكنهم يمارسون السياسة اليوم على رسل القذافي. فالمقاتلون يحاصرون الوزارات، ويطلبون العزل السياسي، من دون أن يعوا لجسامة التحديات التي تواجههم.


عمّان: تعيش ليبيا الآن مرحلة عدم توازن حقيقية، فلا الدولة دولة ولا الشعب شعب، بعد مرور ما يزيد عن 18 شهرًا من سقوط حكم العقيد معمر القذافي. فما زال حكّام ليبيا الجدد غير قادرين على إحكام قبضتهم على بلد يعجّ بالأسلحة والفصائل القبلية المسلحة. وما زالت الجماعات المسلحة، التي ساهمت في الإطاحة بالقذافي، ترفض إنهاء انشطتها.

فواضحٌ من التداعيات التي رافقت الثورة أن الثوار، الذين تعددت إيديولوجياتهم وتوحدوا على هدف اسقاط العقيد، غير قادرين على توحيد الهدف النهائي من شكل وهوية الدولة الليبية الجديدة.

والملاحظ أنه منذ بداية انطلاق الثورة في مدينة بنغازي، تم اعتماد علم الملكية الدستورية الليبية، إلا أن الجميع نأى بنفسه عن الملكية ذاتها أو الدعوة إليها كنظام حكم دستوري يحتمي الجميع تحت مظلته، وهم لا يزالون يعملون تحت مظلة الجماهيرية الليبية، كما سمّاها العقيد الراحل.

ومع الحصارات المستمرة لأجهزة الدولة ومؤسساتها، وغياب سيادة القانون والتفاهم على أدنى درجات الحوار الوطني بين مختلف الجبهات، ترتفع التساؤلات في الداخل والخارج عن قدرة الحكومة على بسط سيطرتها في العاصمة، ناهيك عن شرق البلاد المضطرب.

وهذه التساؤلات دفعت بشركة بريتيش بيتروليوم العملاقة للنفط، وهي واحدة من أكبر الشركات الاجنبية العاملة في ليبيا، إلى سحب عدد من موظفيها من طرابلس. وكانت الحكومتان الأميركية والبريطانية سحبتا بالفعل بعض الدبلوماسيين بصفة موقتة.

قانون العزل السياسي

بدأ حصار الوزارتين في طرابلس في 28 نيسان (أبريل) الماضي على أيدي من وصفوا أنفسهم بالثوريين، للمطالبة بإقرار قانون العزل السياسي الذي يحظر على أي شخص شغل منصبًا رفيعًا خلال حكم القذافي العمل في الحكومة الجديدة.

ومع انصياع البرلمان لهذا الطلب رغم انتقادات منظمات حقوقية ودبلوماسيين يقولون إن التشريع ظالم ومتطرف وقد يعرقل عمل الحكومة، فإن الحال تراوح مكانها ولا أحد يملك الجرأة بالتقدم برؤية حقيقية وواقعية قابلة للتنفيذ في شأن اجراء حوار وطني عريض يفضي إلى إقرار الدستور الجديد.

ومع عدم استطاعة الحكومة الليبية ضمان الامن في سائر انحاء البلاد، اندفع بعض الزعماء المحليين والقبليين إلى مواجهة المشكلات بأنفسهم، فاتفق مئات الزعماء في شرق البلاد الغني بالنفط السبت الماضي على التعاون للدفاع عن أراضيهم ضد أي هجمات مسلحة.

كثير من الحكام الليبيين الجدد عائد من المنافي الاجبارية في عواصم الغرب، وبعضهم مزدوج الجنسية، كانوا من أركان حكم القذافي لكنهم ناهضوه في فترات متلاحقة سابقة. وهؤلاء يواجهون تحدي صياغة دستورهم الأول، والتحديات المتعلقة بهوية الشخصيات التي ستقوم بكتابته، ومن ابرزها محمد المقريف رئيس المؤتمر الوطني، وعلي زيدان رئيس الحكومة، وكلاهما عاش في الولايات المتحدة.

تحديات وعدم استقرار

بتأخير الإعلان عن الدستور، تزداد حالة عدم الاستقرار بسبب التشريعات والقوانين التي لا تستند إلى الدستور، ما يؤثر أيضًا على الاقتصاد والاستثمار. والتحدي الأهم الذي يواجهه هؤلاء هو عدم جرأتهم في الدعوة إلى دستور العام 1951 الذي حقق بالتوافق وبرعاية الأمم المتحدة قيام المملكة الليبية المتحدة من ولاياتها الثلاث، طبرق وفزان وطرابلس.

يذكر أنه بموجب الإعلان الدستوري الموقت الذي أقر في آذار (مارس) 2011، وينظم العملية الانتقالية في ليبيا، يفترض أن تكون هناك لجنة مختصة لكتابة الدستور، تحدد القضايا الرئيسية التي تنظم قوانين البلاد، بدءًا من نظام الحكم ولغة البلاد الرسمية إلى وضع المرأة والأقليات (الامازيغ) ودور الشريعة الإسلامية في الدستور.

لكن اعضاء المؤتمر الوطني العام لم يتوصلوا بعد إلى توافق بشأن ما إذا كان سيتم انتخاب أعضاء هذه اللجنة من قبل الشعب، أو سيتم تعيينهم من قبل المؤتمر الذي يضم 200 عضو انتخبوا في تموز (يوليو) 2012.

وكان مراقب للانتخابات يعمل في منظمة دولية مقرها في طرابلس قال: quot;اعتقد أن المؤتمر الوطني يتجه نحو انتخاب اللجنة لأنه لا يريد تحمل مسؤولية النتائج، أو لأنه يريد تمديد فترة بقائه في السلطةquot;.

وكان المقريف صرح في كانون الأول (ديسمبر) 2012 أن المؤتمر سيتخذ قراره بعد مشاورات مع منظمات المجتمع المدني وشريحة واسعة من الجمهور، من دون أن يحدد إطارًا زمنيًا لهذه العملية، مشيرًا إلى أن الإعلان الدستوري الموقت كان ينص على تعيين المؤتمر أعضاء اللجنة، وتم تعديله لينص على انتخاب لجنة صياغة الدستور من قبل الشعب. وفسرت هذه الخطوة على أنها تنازل لدعاة التوجه الفيدرالي الذين يطالبون بحكم ذاتي لإقليم برقة، وهددوا بمقاطعة الانتخابات التي جرت في تموز (يوليو) الماضي.

توجه فيدرالي

من حيث المبدأ، ستتكون لجنة كتابة الدستور من ستين عضوًا يمثلون بالتساوي الأقاليم التاريخية الثلاثة في ليبيا، برقة (شرق) وفزان (جنوب) وطرابلس (غرب). ويرى دعاة التوجه الفيدرالي في برقة أن الانتخابات ستسمح لهم بضمان ثقل في لجنة كتابة دستور ينص على حكم فيدرالي في البلاد، كما كان في أول دستور للبلاد أقر في العام 1951، ثم عدل في العام 1964 لإلغاء الفيدرالية.

ويرى محللون أن الدستور المنتظر هو مفتاح لتحرك العدالة الانتقالية إلى الأمام وإلى تشجيع الاستثمار في العودة، لأن من شأنه أن يوفر إطارًا للتشريع في المستقبلquot;.

والسؤال الذي يتعين طرحه الآن هو: لماذا لا تبادر السلطات الليبية إلى طرح استفتاء عام على الشعب الليبي قبل تأليف الجمعية التأسيسية ووضع الدستور، فيما إذا كان راغباً بحكم ملكي دستوري يعمل الجميع تحت مظلته وينهي النزاعات الاقليمية والعصبية القبلية وتشتت الآراء وتشرذم الايديولوجيات.

ومثل هذا الاستفتاء لا يتوقف عند طرح السؤال عن النظام الملكي الدستوري بل ممكن أن يتعداه للنظام الجمهوري الرئاسي أو البرلماني الفيدرالي أو الوحدوي.

تعديلات 1963

وكان دستور العام 1951، الذي يعتبر أحد مرجعيات الدستور الليبي المنتظر، شهد تعديلات جوهرية في العام 1963، ومثل هذه التعديلات يتعين أخذهافي الاعتبار في الدستور الجديد.

وفي هذا الاتجاه، كان الكاتب والباحث الليبي بشير السني طالب في مقال نشرته صحيفة الوطن بأن يعتمد دستور 1951 المعدل سنة 1963 كأساس وتطويره حسب التغييرات السكانية والثقافية والاقتصادية لوضع دستور ليبيا الجديد، لا العودة إلى دستور 1951 الذي عدل وأصبح حدثًا تاريخياً بعد أن جسد وحدة ثلات ولايات عسكرية شبه مستقلة فرضها الإحتلال العسكري البريطاني والفرنسي.

ويضيف: quot;رغم أن دستور العام 1951 كان خطوة أساسية للتطور الدستوري الليبي لبناء الدولة الليبية الواحدة، فإنه عدل سنة 1963 وقسم البلاد إلى عشر محافظات ليتماشى مع تطور البلاد السكاني والاقتصادي والثقافي، والمفروض أن أي دستور بعد دستور ليبيا المعدل سنة 1963 يجب أن يكون تطويرًا له لا رجوعًا به إلى الوراءquot;.

ويختم السني: quot;القرار المنطقي هو تأليف الجمعية التأسيسية من المحافظات العشر التي أقرها التعديل الدستوري لسنة 1963 بالتساوي، لأن تأليف الجمعية التأسيسية بين ثلاثة اقاليم بالتساوي هو اقرار بأن ليبيا تتألف فعلا من ثلات دول شبه مستقلة كما كانت عليه ليبيا سنة 1951 وهذا مخالف للواقعquot;.