صار ميدان تقسيم في إسطنبول رمزًا جديدًا لتطلع الشعوب نحو حريتها، مثله مثل ميدان التحرير في مصر، وحديقة زوكوتي في نيويورك. فما ساء الأتراك أكثر أن رئيس حكومتهم يعدّ هذا الميدان من بين أملاكه الخاصة.


تعمّ ميدان تقسيم وسط إسنطبول في الأيام الاعتيادية فوضى الحافلات وازدحام سيارات الأجرة. وذات يوم، قرر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تغيير هذا الوضع بتحويل الميدان إلى منطقة تقتصر على المشاة، وبناء مركز تجاري ومسجد وأنفاق لحركة المرور تحت الأرض. لكن مشاريعه أثارت ردود أفعال غاضبة، دفعت آلاف المحتجين إلى الاعتصام في الميدان.

وبذلك، يكون ميدان التقسيم، بعد ميدان التحرير في القاهرة وحديقة زوكوتي في نيويورك، أحدث مثال على قوة الرأي العام. فقد أصبح الميدان ساحة مواجهة بين نظرتين، وصفهما مراقبون بأنهما نظرة فوقية عثمانية جديدة محافظة، صاحبها زعيم لا يهادن، يعتبر بلده قوة إقليمية كبرى، في مواجهة رؤية شبابية جماهيرية تعددية غير منظمة تعتبر تركيا ديمقراطية حديثة.

وقالت أيسين (41 عامًا) المحجبة، وهي تتابع حركة الاحتجاج جالسة على مصطبة في الميدان: quot;إن تقسيم هو المكان الذي يعبّر فيه الجميع بحرية عن سعادتهم وحزنهم، عن آرائهم السياسية ومواقفهم الاجتماعيةquot;.

وأضافت أيسين، التي امتنعت عن إعطاء اسمها الكامل تفاديًا لانتقادات جيرانها المحافظين: quot;إن الحكومة تريد تطهير هذا المكان من دون أن تستشير الشعبquot;.

لحم الثورة ودمها
يثبت المكان العام، حتى وإن كان رقعة متواضعة فوضوية، مثل ميدان تقسيم، أنه سلاح أمضى من مواقع التواصل الاجتماعي، التي تنتج تجمعات افتراضية. فالثورات تتكوّن من لحم ودم، وفي تقسيم اكتشف غرباء بعضهم البعض، وتعرفوا إلى همومهم المشتركة، واتفقوا على صوتهم الجماعي الواحد.

وأنتجت قوة الأجساد المتلاحمة لحظة ديمقراطية، وضعت القيادة في أزمة سياسية، بحسب صحيفة نيويورك تايمز، ناقلة عن المهندس المعماري التركي عمر كنيباك (41 عامًا) قوله: quot;هنا عثرنا على ذواتناquot;، مشيرًا إلى حديقة غازي شمال ميدان تقسيم، حيث تركز المحتجون بعدما أمرت حكومة أردوغان جرافاتها بالتحرك تمهيدًا لبناء مركز تجاري.

كان لهذا الأمر مغزاه. فرئيس الوزراء برز بوصفه أقوى زعيم أنجبته تركيا منذ مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية. لكنه ليس معماريًا أو مخطط مدن. وارتدى أردوغان، مثله مثل غيره من الحكام، الذين يبقون في السلطة سنوات طويلة، ثوب كبير المصممين، يملي تفاصيل ما يريد إنشاؤه من مساجد عملاقة وجسور ضخمة وقنوات طويلة ومجمعات سكنية مسوَّرة باسم التجديد والنمو الاقتصادي. وبذلك أصبح ميدان تقسيم، قلب إسطنبول النابض، هاجس اردوغان، وربما عقب أخيله، على حد وصف صحيفة نيويورك تايمز.

حجر صحي على الاحتجاج
لا غرابة في أن نسيج تقسيم الحضري، بانسيابيته وانفتاحه، يعكس هوية المنطقة التاريخية، بوصفها قلب تركيا الحديثة متعددة الثقافات. ففيها ألقى المهاجرون الاوروبيون الفقراء رحالهم خلال القرن التاسع عشر.

وفي ثمانينيات القرن العشرين، كانت المنطقة مركزًا للملاهي والأندية الليلية ودور السينما والأسواق التجارية المغطاة على الطراز الفرنسي. واستُخدمت شواهد قبور من مدفن ارمني في ميدان تقسيم، هُدم في العام 1939، لبناء درجات حديقة غازي، التي كانت مشروعًا نفذه المهندس الفرنسي هنري بروست.

يريد أردوغان، عبر بناء منطقة تقتصر على السابلة، ودفن حركة السيارات تحت الأرض، تسوية الميدان لإعادة تصميمه إلى مدينة ملاهي من النمط العثماني الجديد. وتراجع رئيس الوزراء عن بناء مركز تجاري في مجمع صُمم على طراز ثكنة عثمانية، يُبنى حيث توجد حديقة غازي الآن. لكنه يعتزم هدم حي فقير، وإنشاء عمارات سكنية من الشقق الفاخرة على أنقاضه.

ومن مشاريعه الأخرى، ساحة استعراضات على أطراف إسطنبول الجنوبية للاجتماعات الحاشدة، وكأنه يريد أن يفرض حجرًا صحيًا على الاحتجاجات، أو يصنع ما هو نقيض تقسيم. فإن ميدان تقسيم الحقيقي فضاء عام فوضوي وسط المدينة. وكان أردوغان هدم قبل ذلك دار سينما تاريخية، ومتجرًا قديمًا لصنع الحلوى في جادة الاستقلال، الشارع الرئيس والعمود الفقري المؤدي إلى ميدان تقسيم.

لهذا السبب، لم يكن مستغربًا لكثير من الاتراك، أن تصبح حديقة غازي القشة، التي قصمت ظهر البعير. وقال بالين تان، عالم الاجتماع وأحد المحتجين: quot;نحن بحاجة إلى أماكن حرةquot;.

الهوية المدنية
أوضح المهندس المعماري كوخان قراقوش لصحيفة نيويورك تايمز أن المكان العام يعادل الهوية الكوزموبوليتية المدينية، وهذا على وجه التحديد ما لا يروق أردوغان. فالأتراك الذين سيطروا على حديقة غازي احتجاجًا يشعرون بأنها حقًا حديقتهم، وليست هبة منَّ بها قادتهم عليهم، وبهذا المعنى فإن خطوة أردوغان لتدمير الحديقة ارتدت إلى نحره. لكن أردوغان لم يتراجع عن تصميمه على هدم الحديقة العامة، وقال إنه يأسف فقط لأن قسوة الشرطة أدت إلى تصعيد الاحتجاجات.

وحذر أردوغان وسط هتافات مؤيديه من أن هذه الأعمال، التي تحوّلت إلى تخريب وخروج على القانون، يجب أن تتوقف فورًا. في هذه الأثناء، تطوّرت حديقة غازي إلى قرية احتفالية بمخيمات ومخازن عامة توزّع الأطعمة والملابس مجانًا، ومركز حضانة ومكتبة ومستوصف، وحتى عيادة بيطرية، وحديقة زُرعت فيها نباتات من أميركا اللاتينية، محل الأشجار الأولى التي اقتلعتها الجرافات.

وكشف استطلاع للآراء نُشرت نتائجه في صحيفة حرييت أن 70 بالمئة من المحتجين أكدوا أنهم ليسوا قريبين إلى أي حزب سياسي، فالسياسة في القرن الحادي والعشرين تتمحور حول الحريات الفردية والفضاء العام.

وقالت أيسين، متابعة الاحتجاج في الميدان، إن والديها المحافظين يعتقدان أن أردوغان تمادى بمنعه الكحول وتوبيخه من يتبادلون القبلات في أنفاق القطارات. وقرب تمثال أتاتورك، في وسط تقسيم، قالت طالبة تدرس التصوير الفوتوغرافي، قدمت نفسها باسم كادر، إنها تأتي إلى تقسيم، لأنها ترى فيه كل أصناف البشر، وهذا ما يسلّيها، quot;لكن رئيس الوزراء يعامل هذا المكان وكأنه ملكه الخاصquot;.