ليست احتجاجات تقسيم ثورة ولا مقدمة لربيع تركي، بقدر ما هي نقطة محورية في التاريخ التركي، إذ قد تعيد البلاد إلى أمجادها السلطوية العثمانية، أم قد تدفعها سريعًا نحو ليبرالية تضع الاسلاميين وإسلامهم الحديث جانبًا.


لندن: تتدلى رافعات عملاقة فوق مواقع بناء تنتشر في انحاء اسطنبول، عاصمة ثلاث امبراطوريات سابقة، وتسوُّر جدران من الصفيح أحياءها القديمة. وتتنافس العمارات الجديدة مع المآذن التي استأثرت بسماء المدينة طيلة قرون. وتمثل هذه المظاهر طلائع مشاريع أكبر قيد الاعداد، كما يقول المخططون.

لكن الكثير من الأتراك لا يرون في حركة العمران هذه تقدمًا بقدر ما هي تعبير عن مطامح استبدادية متزايدة يضمرها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وانفجر السخط والغضب باحتجاجات في الشوارع خلال الايام الثلاثة الماضية، ردت عليها قوات الشرطة مستخدمة الغاز المسيل للدموع ومدافع الماء.

ويرى محللون أن التزاحم المديد على فضاءات المدن أخذ يتطور إلى صراع أكبر على هوية تركيا، حيث تتقاطع قضايا شائكة تتعلق بالدين والطبقات الاجتماعية والسياسية. وفي حين أن غالبية الاتراك في هذه المدينة العريقة يعترفون بأن كل النخب التي حكمت تركيا سعت إلى ترك بصمتها على اسطنبول، فإن هناك احساسًا بأن حكومة حزب العدالة والتنمية، بزعامة أردوغان، فاقت كل النخب السابقة في إصرارها على تغيير طابع المدينة وفق نظرتها. لكن أردوغان ظهر على التلفزيون يوم الأحد، نافيًا تهمة الدكتاتورية وطاعنًا بشرعية المحتجين ومطالبهم.

نخبوية إسلامية

انتقد ادهم الديم، المؤرخ في جامعة بوغازجي في اسطنبول، قرار الحكومة تنفيذ مشاريع كبيرة من دون العودة إلى الاتراك واستطلاع رأيهم، قائلًا إن الحكام اسكرتهم السلطة. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الديم قوله إن الحكام يعودون اليوم إلى ما هو جوهر السياسة التركية، أي إلى السلطوية.

ويجسد مشهد اسطنبول المتغيّر بسرعة موضوعات ساخنة في تركيا الحديثة، تضع الاسلام في مواجهة العلمانية، والريف في مواجهة المدينة، بعد عشرة أعوام من الانتعاش الاقتصادي في ظل نخبة ذات جذور اسلامية.

واسفرت هذه السنوات العشر عن تغيير جذري في ثقافة تركيا، تبدى بأسطع اشكاله في سيطرة المدنيين على الجيش، وتحطيم قواعد النظام العلماني القديم، سامحًا لمظاهر التدين العلني، كما يعبر عنها انتشار التحجب وشعبية أردوغان بين المتدينين. وعمل حكمه على بناء طبقة رأسمالية مؤمنة انتقل افرادها من أرياف الاناضول إلى مدن مثل اسطنبول، وبذلك تعميق الانقسامات الطبقية.

واثار هذا التحول حفيظة النخبة العلمانية القديمة، التي تعتبر نفسها وصية على إرث مصطفى كمال اتاتورك، مؤسس تركيا العلمانية الحديثة. وانضم اليهم ليبراليون لا يعتبرون أنفسهم كماليين، ويعترفون بحق الأفراد في إشهار تدينهم من خلال الملبس، لكنهم يعترضون على اسلوب أردوغان في القيادة، بوصفه دكتاتوراً، ويرون أن الكثير من مشاريعه التنموية على الأرض مشاريع مبتذلة بلا ذوق.

أين اسطنبولي؟

أورثت سياسات أردوغان احساسًا بالتذمر والاستياء بين كثيرين من سكان المدن ومثقفيها، وفي أوساط الطبقات الفقيرة التي تُطرد من مناطقها لبناء مجمعات سكنية فاخرة، ومراكز تجارية واسعة على انقاض البيوت البائسة.

وقال أرسين كلايسيوغلو، استاذ العلاقات الدولية في جامعة سابانجي التركية: quot;ولدتُ وترعرعتُ هنا، ولكن ليس في شبابي ما استطيع الارتباط به بعد الآن في هذه المدينة، فاسطنبول مدينة للاسترزاق والإثراء، إنه سباق على الذهبquot;.

وشكا كلايسيوغلو مما سمّاه غزو فلاحي الاناضول الأجلاف للمدينة، معبرًا عن نظرة نخبوية يشاركه فيها كثير من الاتراك العلمانيين في اسطنبول.

جلس آرا غُلر، البالغ من العمر 84 عامًا، وأشهر مصور في تركيا، أنتج مجلدات من الصور بالأبيض والأسود التي تؤرخ لمعالم اسطنبول، عرضها في مقهى يحمل اسمه. وقال غُلر لصحيفة نيويورك تايمز إن هناك حيًا واحدًا يذكِّره بمدينته، وما زال يحب التقاط الصور فيه، هو حي أيوب الذي يوجد فيه مسجد تاريخي مشهور وتسكنه الكثير من العائلات المسلمة العريقة.

اضاف بحسرة: quot;اسطنبول التي نشأتُ فيها ضاعت. أين اسطنبولي؟ الأمر كله ركض وراء المالquot;.

أمجاد عثمانية

أعدت الحكومة خطة لتحويل ميدان تقسيم، الذي كان تاريخيًا مكانًا للتجمعات العامة، إلى مركز تجاري وثقافي يضم ثكنة عسكرية من الطراز العثماني، سماه الديم quot;لاس فيغاس الأمجاد العثمانيةquot;.

وهذا المشروع هو الشرارة التي فجرت احتجاجات الأيام الثلاثة الماضية. لكنّ هناك مشاريع أخرى اثارت غضب اوساط واسعة من الاتراك. فأقدم سينما في اسطنبول هُدمت أخيرًا لبناء مركز تجاري آخر، واثار تهديمها احتجاجات شاركت فيها حتى سيدة تركيا الأولى هيرونيسا غُل، زوجة الرئيس عبد الله غُل.

وقد تهدَّمت كنيسة ارثوذكسية روسية بُنيت في القرن التاسع عشر في اطار مشروع لإعادة بناء الميناء. وفي احياء مزرية في انحاء المدينة، تُدفع مبالغ لفقراء المدن لإخلاء مساكنهم كي يتمكن المقاولون المرتبطون بالحكومة من بناء مجمعات سكنية مقفلة.

وقال دوغان كوبان (87 عامًا)، وهو أبرز مؤرخ لمدينة اسطنبول نشر كتبًا عديدة وعمل مع الأمم المتحدة، إن حكومة أردوغان لم تطلب رأيه بشأن مشاريعها لتغيير طابع اسطنبول. وشكا كوبان قائلاً لصحيفة نيويورك تايمز: quot;أنا مؤرخ اسطنبول وهم لا يستشيرون احدًاquot;، منتقدًا الحكومة لاهمالها تاريخ المدينة قبل الاسلام، قائلًا انها لا تحافظ إلا على المساجد القديمة، في حين أن الحفاظ على التراث عمومًا جزء مهم من الثقافة.

دليل ضعف

لا يُعرف حتى الآن ما ستحققه حركة الاحتجاج، لكن ما زال بمقدور أردوغان أن يعتمد على تأييد الاتراك المتدينين، الذين يشكلون كتلة هائلة من الناخبين. فقلة من المراقبين تعتقد أن سلطته مهددة، لكن هناك بوادر خسائر سياسية قد يتكبدها. ورأى البعض في قراره سحب قوات الشرطة يوم السبت والسماح لعشرات الآلاف بالتظاهر حتى ليل الأحد دليل ضعف.

وقال سولي اوزيل، استاذ العلاقات الدولية في جامعة بيلجي في اسطنبول، لصحيفة نيويورك تايمز: quot;هذه اول معركة خسرها أردوغان في الذاكرة الحديثة، إذ كان رد فعله مفرطًا، فاصطدم اعتداده وغطرسته ونزعته السلطوية بجدار صلبquot;.

لكن أردوغان تحدث يوم الأحد بلغة متحدية، وفي الوقت الذي أعلن فيه أن مركزًا تجاريًا لن يُبنى في ميدان تقسيم، فإنه تعهد ببناء مسجد آخر في الميدان.