حين قصفت قوات النظام السوري منزل عائلة محمد للمرة الأولى، رفض والده أن يكون ذلك سببًا كافيًا لنزوحه. وفي المرة الثانية، أعلن الأب إصراره على البقاء في الحي الذي نشأ فيه أطفاله. لكن حين دُمّر المنزل في المرة الثالثة، جمع أبو محمد أفراد عائلته في رحلة مجهولة عبر الحدود الأردنية.


قال محمد، ابن الأحد عشر عامًا، إنه يريد أن يعود إلى بيته في سوريا، لكن والده يقول الآن إنهم باقون حتى إذا رحل الأسد. وتابع محمد، واقفًا أمام البقالية التي فتحها والده في مخيم الزعتري شمال الأردن، أن والده يعتقد أن الحرب سوف تستمر ولن تنتهي.

باقون ولو رحل
وبعد ثلاث سنوات على الانتفاضة التي فجّرها الشعب السوري ضد نظام الرئيس بشار الأسد لا تلوح في الأفق نهاية للنزاع. وما بدأ انتفاضة شعبية ضد دكتاتور غاشم تحول إلى نزاع متعدد الأبعاد، تخوضه قوى وأطراف متعددة، من النظام وحلفائه الإقليميين والدوليين، وبالتحديد إيران وحزب الله وروسيا، وقوى المعارضة التي لم يبقَ عمليًا لها من سند إلا دول خليجية، أهمها السعودية، مرورًا بجهاديين أجانب، وليس انتهاء بأكراد سوريا وامتداداتهم في المنطقة.

ويواجه الملايين من السوريين، الذين نزحوا وهُجِّروا، محنة بين لامبالاة دولية بمصيرهم أو التشبث بأمل العودة أو قبول المهجر والشروع ببناء مستقبل خارج الوطن.

من يدري؟
وكانت سوزان أمضت ثلاثة أيام فقط في مخيم الزعتري قبل أن تقرر أنه ليس المكان المناسب لتنشئة أولادها المراهقين الثلاثة. وكان هروبها إلى العاصمة الأردنية اعترافًا بتحقق أكبر مخاوفها، وهو أن حياة الغربة يمكن أن تستمر سنوات. وقالت سوزان لصحيفة تايمز: quot;من يدري متى تنتهي الحرب؟quot;، مضيفة أن عائلتها دفعت 300 دينار أردني لتهريبها من مخيم الزعتري، ودفعت مبلغًا آخر إلى شخص أردني ليكون كفيلهم من أجل تأمين الإقامة في الأردن.

الطريق الذي سلكته سوزان وعائلتها طريق سار عليه آلاف السوريين من قبلهم. ويُقدر أن مقابل كل لاجئ في مخيم الزعتري هناك ثلاثة سوريين يعيشون في مكان ما من الأردن. ومن أبناء سوزان الثلاثة اثنان سُجلا في مدرسة، كانت من الأسباب الرئيسة لانتقالهم إلى عمّان، والثالث يعمل في مخبز مع والده.

ويعيش ابن سوزان البكر أنس (26 عامًا) في مكان آخر مع زوجته وابنته، التي ولدت خارج سوريا، من دون وثيقة رسمية تؤكد وجودها، لا في سوريا ولا في الأردن.

إنه طاغية!
توقعت سوزان أن يأتي يوم يحاكي السوريون فيه جيرانهم العراقيين بالحنين إلى صدام حسين. لكن ابنها أنس احتج مستاءً: quot;كيف تقولين ذلك؟، فالأسد يقتل كل السنة، إنه طاغيةquot;. وكان أنس يتكلم عن خبرة، فهو خدم جنديًا في جيش الأسد.

وفيما تتابع سوزان باهتمام أخبار التحضيرات لمؤتمر جنيف-2، فإن أنس يريد الانتقال إلى مكان آخر يستطيع أن يبدأ فيه حياة جديدة، مكان أبعد من الأردن عن بلده سوريا.

وكان طلب أنس باللجوء إلى فرنسا قوبل بالرفض. وأثار رفضه غضبًا في عموم المنطقة على موقف أوروبا وامتناعها عن تحمل قسط من المسؤولية الإنسانية للتخفيف من عبء اللاجئين بعدما يئس السوريون من أي دعم حقيقي يقدمه الغرب، لإنهاء معاناتهم بتسريع نهاية النظام.

وتمكن أحد أفراد عائلة سوزان، هو شقيقها علاء، من الوصول إلى أوروبا بعدما غرق القارب الذي نقله من ليبيا قبالة جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. وقضى 34 شخصًا غرقًا من أصل 200 لاجئ كانوا على متن القارب.

تفكك الأواصر
علاء كان من الناجين ونُقل إلى البر الإيطالي، لكنه لم يحصل على إقامة فيها. وفي النهاية وافقت ألمانيا على إعادة توطين 10 آلاف لاجئ سوري، علاء واحد منهم، بالمقارنة مع أقل من 3000 لاجئ لكل الدول الأوروبية الأخرى.

وفي مخيم الزعتري أيضًا، تفكك الغربة الأواصر الأسرية وبناء مستقبل مختلف وقاتم، لا سيما للصغار من اللاجئين. ففي مكتب quot;عرائس دمشقquot;، تأتي عائلات ببناتها المراهقات لإلباسهن بدلات الزفاف وتزويجهن إلى عائلات قادرة على حمايتهن، في قرار فرضته ظروف استثنائية بتداعيات تستمر حياة كاملة.

وكانت إحدى العرائس في الثالثة عشرة فقط. وقالت أمينة (18 عامًا) التي تعمل في المكتب لصحيفة التايمز: quot;كانت الفتاة الصغيرة سعيدة بزينتها وتصفيف شعرها في تسريحة جديدة، لكنها لم تعرف ما سيحدث لاحقًاquot;.

ويتردد رجال بانتظام على المكتب طالبين يد أمينة، لكن أمها أصالة ترفض، قائلة إن ابنتها ما زالت صغيرة. والمفارقة أن أصالة التي تعمل ابنتها في مكتب عرائس دمشق تؤكد أن هذا ليس مكانًا تختار الفتاة مستقبلها فيه.