يجب أن يتمكن المثقف من إنتاج خطاب لا يضع السلطة في بؤرته سلبا ولا إيجابا. وليست هذه دعوة للتوقّف عن نقد السلطة، بكلّ تجلياتها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية: أعني عدم اختصار مفهوم quot;السلطةquot; في نظام الحكم. بعض المثقفين يؤمن أنّ التغيير لا يأتي ولا يتحقّق إلا من أعلى، بينما أتصوّر أنّ التغيير الدائم لا بدّ أن يأتي من القواعد لا من القمم. تستطيع السلطة تغيير القوانين، لكنّ هذه القوانين تظلّ فاقدة الأثر ما لم تتغيّر الأذهان. يجب على المثقف أن يحتفظ لنفسه بمسافة خارج مفاهيم السلطة، حتى لو كان النظام السياسيّ يتبنّى بعض المفاهيم التي يتبنّاها المثقف. هذه المسافة تسمح للمثقف بالاستقلال الفكري الذي يحميه من أن يقوم بتبرير القرارات السياسية أو الدفاع عنها. الاستقلال عن السلطة لا يعني معاداتها، بل يهدف إلى ترشيدها؛ فالسياسة هي فنّ تحقيق الممكن، والفكر سعي لاكتشاف المجهول وفتح آفاق الممكن.

هذه دعوة، أخذتها من نص مقالة جديدة للمفكر العربي نصر حامد أبو زيد، وعنوانهاquot;إشكالية المثقف والدولة/السلطةquot; وهذه قضايا إشكالية ككل القضايا التي يطرحها مفكرنا، ولكن هنالك نقاط أود فيها ان أبدي بعض الملاحظات حول، هذا العنوان، المثقف والسلطة، المثقف عندنا في الواقع هو أسير السياسة وليس أسير الفكر، المثقف التنويري الأوروبي، الذي نمذجناه على هوانا، لم يكن يعيش علاقات كالتي نعيشها نحن اليوم ويعيشها المثقف، الريادي، الفيلسوف، المفكر..الخ

الآن خروج المثقف حتى الغربي عن مؤسسات إنتاج الثقافة والتعليم في الغرب، لا يعني أنه قادر على التأثير فيها، بل يمكن أن يكون العكس صحيح، حيث تستفيد هذه المؤسسات من إعادة بوتقة تمرد مميز لمثقف مميز، والمثال الأكثر سطوعا هنا، هو بعض مثقفي ومفكري ما بعد الحداثة الفرنسيين، الذين قضوا شاردي الفكر، رغم ماجنته المؤسسات التعليمية والثقافية من نتاجاتهم، ولكن أين هي نتاجاتهم الآن؟ المتتبع للمشهد الثقافي والفكري في فرنسا، يجد أن مثقفي النخبة اليمينية التقليدية لازالوا في واجهة صياغة الحدثين الثقافي والسياسي معا. وبقي نتاج رواد ما بعد الحداثة سلعة نستوردها!

المثقف العربي الآن، تحيطه السلطة العربية من كل جانب، ولا مؤسسات خارجها، ذات وزن وقيمة، نصر حامد أبو زيد نموذجا، لأن مؤسسته الجامعية قذفته خارج مصر. لا يوجد تعليم أكاديمي مستقل في العالم العربي.

كتلة المصالح الآن المركبة عالميا، وعلى كافة المستويات، والتي أنتجت ما يسمونه quot;العالم قرية كونيةquot; لم يعد هنالك حيز مستقل كما نحاول أن نوهم أنفسنا، لكي نتوازن، ونبقى نتحدث بمسوح ذو نزعة أخلاقوية عما نسميه عزاءquot; المثقف المستقل والذي يطالب به المفكر المصري نصر حامد أبو زيد.
نسال سؤالا ساذجا في الحقيقةquot; أين تنشر نتاجات المثقفين العرب؟ من يسوقها؟ ومن يساهم في تمويلها؟ هذا ليس تشكيكا بأحد بل هو إيضاحا لصورة نريد إبعادها عن تفكيرنا، كما أننا هنا لا نتحدث عن نظرية مؤامرة، بل نحن نتحدث بأسئلة واقعية رغم ساذجتها. ما علاقة المثقف العربي، بالمؤسسات الثقافية والتعليمية المسيطر عليها من قبل النظام العربي الرسمي؟

ما هي الوسائل والقنوات التي يمتلكها المثقف العربي، لكي يصل إلى الناس؟ ومن يملكها، في مقابلة لي مع مفكرنا الدكتور أبو زيد، سألته سؤالا حول موضوعة الإصلاح الديني، التي يطرحها الآن في نفس المقالة، وعلاقتها بالحكم السياسي، ما فهتمه من جوابهquot; أنه لا إصلاحا دينيا في العالم العربي دون إرادة سياسيةquot; ومن يمتلك الإرادة السياسية في مجتمعاتنا العربية؟

المثقف التنويري الغربي لم يكن كالمثقف العربي يدور في فلك تراتبية من القوة، أكبر منه بكثير، تراتبية تبدأ من قوة سلطته المحلية لتصل إلى قوة، الدول الكبرى، وتلك المصالح التي تحدثنا عنها، أزعم أنني لا أبالغ في هذا. وإن كان الزعم هنا، قابلا للنقض، فإنه يكون على الأقل قد اوضح الصورة لنا. هل لنا أن نضرب أمثلة في عالمنا العربي، وهل يشك أحد منا أن هنالك الآن بؤر استقطابquot; القطرية والخليجية عموما بمؤسساتها تستولي على غالبية المساحة الثقافية العربية تقريبا، أقله في المشرق العربي ومصرquot; حتى مؤسسات الثقافة والإعلام البيروتية، أين أصبحت الآن؟

الاستقلالية عن السلطة العربية، ربما يحققها مثقف ينعم بحرية الغرب، وحقوقه المصانة هناك، ومع ذلك نجد أن كثر من هؤلاء قد وصلتهم البؤر العربية.
السياسي مستبعد، فكيف نكون مستقلين إذا؟

هنالك مساحة ضيقة يستفيد منها المثقف العربي، الذي يدعو إليه مفكرنا، كي يكون مستقلا عن السلطة، وهذه المساحة ناتجة عنquot; العلاقات البينية بين السلطات العربية، كعلاقات تأخذ منحى تفارقيا بالمصالح، في بعض الأحيان. ما يستطيع المثقف قوله في البؤرة القطرية ربما لايستطيع قوله في البؤرة الأماراتية على سبيل المثال.
في سورية الأمر أكثر تعقيدا، بحكم أن النظام السياسي أيضا أكثر تعقيدا، في بنيته وممارساته. أشيروا لنا على مثقف مستقل، يدرس في الجامعات السورية، أو يكتب في وسائل الإعلام السورية؟ هنالك فقط المثقفين الذين يدعمون السلطة عن قناعة، وهذه القناعة تتيح لهم أن يقتنعوا بأنهم مستقلين!

الثقافة التي لا تخدم السياسوية السلطوية لا شأن لها في سورية. وهذه عدوى أيضا نجدها عند المعارضة وليس عند السلطة فقط.
كما أنه هنالك هوامش بسيطة، لأنه مهما كانت السلطة استبدادية، فإنها لا يمكن أن تكون كتيمة 100%
من أين ياتي مثقفنا العربي بالاستقلالية عن سلطتنا العربية؟