يحلو للمصريين أن يطلقوا ndash; وبشكل ساخر - على الأحياء المزدحمة بالقاهرة مسمى: الصين الشعبية، فهذا الازدحام الشديد الناجم عن ارتفاع نسبة الكثافة السكانية التي تتجاوز المليون نسمة في الكيلو متر المربع قابله المصريون من أبناء البلد، وأبناء النكتة الكوميدية/ المأساوية معا، بهذا المسمى الذي يختصر قدرا كبيرا من التفاصيل، ويعطي قدرا أكبر من الإشارات الدالة.
فأحياء الصين الشعبية في القاهرة الكبرى مثل: شبرا، وبولاق الدكرور، وبولاق أبو العلا، والزاوية الحمراء، والمطرية، وعين شمس، وإمبابة، والوراق، والأميرية، وغيرها من الأحياء عالية الكثافة تعيش على وتيرة منتظمة من الزحام والتكدس والإهمال أيضا.
لم تولد هذه الأحياء عبثا، ولم تتكون بشكل عشوائي عند تأسيسها، بل إن لها تاريخا عريقا يشير إلى أحداث ووقائع وشخصيات بارزة. هذه الأحياء شهدت شوارعها وحواريها حيوات متعددة حيث عاش فيها كثير من الأدباء والكتاب والمبدعين والفنانين والسياسيين والرياضيين، ومعظم من نقرأ أعمالهم ونشاهد أفلامهم السينمائية، ونطالع كتاباتهم والذين يتجلون في المشهد الإعلامي عاشوا أو نشأوا في هذه الأحياء المزدحمة التي تشكل نبعا لا ينضب يستلهم منه المبدعون أعمالهم في مختلف المجالات الإبداعية خاصة في الرواية، والفيلم السينمائي، والمسلسلات الدرامية.
في بولاق مثلا تم تشغيل أول مطبعة في مصر مع الحملة الفرنسية على مصر في العام 1798، وفي شبرا أشهر أحياء القاهرة أو ما يسمى في الأدبيات المصرية لدى العوام بquot; جمهورية شبراquot; عاش علماء وأدباء وكتاب وسياسيون، وفي المطرية التي كانت ذات يوم تعج بالفلل والقصور، وكانت منتجعا لكبار باشوات القاهرة في العشرينيات والثلاثينينات من القرن العشرين، عاش أمير الشعراء أحمد شوقي في داره التي بناها هناك، وكان اسمها:quot; كرمة ابن هانىءquot; التي نقلها إلى شاطىء النيل بالجيزة بعد ذلك، وكتب قصيدة عن المطرية عنوانها: quot; المطرية تتكلمquot; يطالب فيها بحق المطرية في العمران وبناء المنشآت والمدارس وفيها:

يا ناشرَ العلم بهذى البلادْ وُفِّقتَ، نشرُ العلم مثلُ الجهاد
بانىَ صَرْحِ المجدِ، أنتَ الذي تبنى بيوتَ العلم في كل ناد
أسمعُ احياناً، وحيناً أَرى مدرسةً في كلِّ حىّ تُشاد
قّدَّمْتَ قبلى مدناً أو قُرى كنتُ أنا السيفَ، وكنّ النِجاد
انا التى كنت سريراً لمن ساد (كإدّورْدَ) زماناً وشاد
قد وحّد الخالقَ في هيكلٍ من قبل سقراطَ ومن قبل عاد
وهذب الهندُ دياناتِهم بكل خافٍ من رموزى وباد
ومن تلاميذى موسى الذي أُوحِى مِنْ بعدُ إليه فهاد
وأرضعَ الحكمةَ عيسى الهدىايامَ تُربِى مهدُّه والوساد
مدرستى كانت حياضَ النُّهى قرارةَ العرفان، دارَ الرشاد
مشايخُ اليونان يأْتونها يُلقون في العلم إليها القِياد
كنا نُسميهم بصِبيانه وصِبيتى بالشيب أَهل السداد
***
ذلك أمسِى، ما به ريبةٌ ويومىَ ( القبةُ) ذات العِماد
أصبحتُ كالفردوسِ في ظلها من مِصرَ للخنكا لِظِلى امتداد
لولا جُلى زيتونى النَّضْرِ، ما أَقسمَ بالزيتونِ ربُّ العباد
الواحةُ الزَّهراء ذات الغنى تُربِى التي ما مثلها في البلاد
تُريكَ بالصبح وجُنحِ الدُّجى بدورَ حسنُ، وشموسَ اتقاد
** *

ومن يشهد المطرية اليوم، بكل تكدسها، وفوضويتها، وزحامها الشديد يعجب لتغير أحوال الزمن، وتغير ناسه، ووقائعه.
ونموذج المطرية يتكرر في معظم هذه الأحياء، حيث فوضى الحياة ودراميتها، وركامها.
لا تشعر بوجود حقيقي لحكومة مركزية، أو لوجود محافظ أو محافظة تشرف على هذه الأحياء التي تركت للمجالس البلدية لتديرها بطريقة سيئة وعتيقة أبرزها الإهمال والفوضى، والكسب غير المشروع. لقد أدارت الدولة ظهرها لهذه الأحياء، وفي المقابل أدار الناس ظهورهم للدولة، وطفقوا يخصفون على أرواحهم من ورق الحياة، ليصنعوها كما يشاءون، فكيف جاءت تجليات هذه الصناعة.. صناعة الحياة؟

أبطال الكآبة والنكتة:
في مجتمعات فوضوية، وشوارع متكدسة، تعاني من الضوضاء والصخب، وتعاني من الإهمال الدائم من أبسط قواعد الحياة، والخدمات، وأبسطها نظافة الشوارع، يولد أبطال كثر، ولكن أبطال في الاكتئاب أو في النكتة الساخرة. في ظل حياة لا تطاق تماما يعيش المنتسبون إلى هذه الأحياء.
فلا توجد في هذه الأحياء فنادق أو منتجعات، أو ساحات شعبية، أو ملاعب رياضية سوى ملعب أو ملعبين، ولا توجد أندية رياضية سوى مراكز صغيرة جدا للشباب، ولا توجد حدائق عامة إلا ما ندر، ولا توجد مكتبات عامة، أو مسارح، أو دور سينما باستثناء حي شبرا، فاستبدل الناس بذلك كله المقاهي الشعبية، والمساجد والزوايا الصغيرة.
تظل هذه الأحياء مهملة دائما، ولا يتم تذكرها رسميا إلا حين يمر جابي فواتير الكهرباء والماء آخر كل شهر، أو حين تحدث حادثة كبرى،أو زيارة لمسؤول ما، فتنبت الأشجار فجاة، وتطلع الورود والزهور، وتدهن أعمدة الكهرباء، وتنظف الشوارع، وتسفلت بالأسفلت والأرصفة الجديدة، في الشارع الذي يمر به المسؤول فقط، ثم يتم جمع الأشجار والزهور مرة أخرى وإلقائها في المخازن، حيث يستكثر مسؤولو البلدية أية لمسة جمالية على هذه الأحياء.. أو حين تجرى انتخابات برلمانية حيث تعلق الزينات، وتعقد المؤتمرات، وتطلق الشعارات، وتوزع الهدايا العينية: الأموال، والمكافآت، والملابس والأقمشة، والحقائب المدرسية، وكراتين الأغذية والأطعمة، وبعد نهاية موسم الانتخابات يختفي الجميع.
الناس تتعايش وتتكيف في ظل هذه الأجواء، يواصلون حياتهم بالعمل فيما يشغل الوقت نهارا وليلا، يبيعون الملابس والأقمشة من بقايا التصدير، الخضروات، الفواكه، الأدوات المستعملة، قطع الغيار، المأكولات البسيطة من الذرة المشوي حتى البطاطا والترمس والعصائر،ة والبوظة، يعقدون الجمعيات الصغيرة التي يدخرون بها أموالا بسيطة، يقبضها واحد كل شهر، وتبقى الشوارع المزدحمة نهارا وطرفا من الليل هي مأوى الحياة. الكل يعرف بعضه، من الموظف إلى العامل إلى الميكانيكي، إلى صاحب المحل الصغير (الدكان) إلى الطالب إلى الشيخ، حتى إنهم يعرفون اللصوص الصغار بالاسم، لكن يتركون لهم شهوة العيش في الحياة بأية وسيلة. وهذه هي وتيرة الحياة التي لا تتغير بدءا من الازدحام الصباحي على مطاعم الفول والفلافل (الطعمية) حتى الفرح الأسبوعي أو الشهري بالمرور أمام محلات بيع اللحوم (الجزارة). مع ذلك ومن رحم الكآبة يخرج الناس نكاتهم وتعليقاتهم الساخرة المفارقة. في أحياء ينتشر فيها كل شيء: المقدس، والمدنس، والطيبة، والقبح، والشر، والخير، والتدين والتطرف، في حياة درامية حيوية متحركة.

دراما التناقضات
وحده النيل يفصل بين حي بولاق أبو العلا الشعبي وبين حي الزمالك الراقي، وتفصل مساحة 3 كيلو متر حي المطرية الشعبي عن حي مصر الجديدة الراقي، فيما تفصل قضبان قطار بين حي بولاق الدكرور الشعبي وبين أحياء الدقي والمهندسين، فيما تفصل مساحة صغيرة بين حي quot; الجيارةquot; الشعبي وحي المعادي الراقي.
ونقلت هذه الفواصل الدرامية التي تضع المشهدين قبالة بعضهما البعض للمدن الجديدة، فمدينة السلام الشعبية بكل فوضاها تقع جانب مدينة العبور الراقية، وصنفت مدينة 6 أكتوبر إلى أحياء راقية وأحياء شعبية على الرغم من أن عمر المدينة لم يتجاوز العشرين عاما. هذه التناقضات تخلف آثارا غير سوية بين طبقات المجتمع، وتكرس للفوارق تكريسها للحقد الطبقي، وتحليل السرقة والرشوة، والإبداع في مجال الفساد، لأن الدولة هنا تنظر للنقيضين بنظرتين مختلفتين، فهذا شريف، وهذا فقير، وهذا ابن فلان وعلان ابن النسب والحسب، وهذا مجرد مواطن مصري يحمل هوية اسمه وتعريفه فقط.
مع ذلك كله، وعلى الرغم من قسوة الحياة الرتيبة التي لا تتبدل إلا لمقدم مسؤول، أو مقدم مناسبة دينية أو اجتماعية، يرفع الناس شعارهم الأثير هذه الأيام:quot;يا عم الحاج: خللي الشعب يعيشquot;.