الحلقة الأولى

(2-2)

يقدم شاكر النابلسي رؤيته عن الأصولية من خلال (26) مقالة هي ما يتضمنه الباب الثاني من كتابه:quot;تهافت الأصولية: نقد فكري للأصولية الإسلامية من خلال واقعها المعاشquot;.. في هذه المقالات يجوب النابلسي جملة من القضايا الشائكة التي تترى على مستويين: تاريخي، وفكري، وعبر ذلك يرصد جملة من الأحداث والوقائع التي انبثقت عن الظاهرة الأصولية في العالمين العربي والإسلامي.
ويستهل هذه المقالات الواقعة في الصفحات ما بين ( 81-262) بتعريف للأصولية في صفحتين بعنوان:quot; معنى الأصوليةquot; معتمدا على اقتباسين من مراد وهبة والباحث والشاعر المصري مهدي بندق، وهما اقتباسان لا يسمنان ولا يغنيان من جوع، لأن تعريف الأصولية يتطلب الرجوع إلى قسط يقيني ndash; أو شبه يقيني- من المصادر والمراجع البحثية الموثوقة - لنتذكر مثلا الأعداد الضخمة التي أصدرها محمود أمين العالم عن الأصوليات في ثلاثة مجلدات كبيرة من مجلته:quot; قضايا فكريةquot; - حتى إنه لم يفعل ذلك مستمرا في تقديم رؤيته التبسيطية عن الأصولية في المقالة التالية، وهي أن quot; الأصولية في الأديان كافةquot; وهذا أمر معروف، وكتب فيه منذ أكثر من عقد خاصة في تسعينيات القرن العشرين، بل إن المكتبة الغربية الاستشراقية كتبت في هذا الموضوع مئات الدراسات والكتب، وتذكر الباحثة الألمانية ( هانا لوكة) أن ما ألف في اللغة الألمانية حول الأصولية خلال عامي 1967-1990 بلغ (604) عنوانا، أما ما ألف في اللغة الإنجليزية بين عامي 1988-1994 فقد بلغ (1246) عنوانا، ( كما جاء في كتاب ألبرشت متسكر: الأصولية الإسلامية بين العنف والديمقراطيةquot; بما يعني أن هذا الموضوع قد قتل بحثا، بيد أن النابلسي يعود للتكرار دون التأمل والتساؤل وطرح الجديد، فيكتب عن أشياء بدهية حيث يصل إلى التأكيد على أن quot; الأصولية الإسلامية المعاصرة، بناها أربعة من المفكرين الإسلاميين من العرب، وغير العرب، فكان من العرب: سيد قطب، وكان من الباكستان أبو الأعلى المودودي، وهو المنظر الأول للأصولية الإسلامية المعاصرة، وهو من جاء بفكرة quot; الحاكيمةquot; لله ( الحاكم الحقيقي على الأرض هو الله، أي: الغيب) التي تبناها فيما بعد تلميذه النجيب سيد قطب، وكان من إيران: الخميني وعلي شريعتيquot;.

صعود الأصولية:
ويرصد النابلسي ndash; معتمدا عل كتاب كارولين فوريست وفياميتا فينير quot; العلمانية أمام تحديات الأصوليات الثلاث: الإسلامية والمسيحية واليهوديةquot; أسباب صعود الأصولية الإسلامية في نهايات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، حيث تتمثل في: تشجيع العقلية الخرافية من قبل الأنظمة العربية، واعتماد برامج تعليم قديمة وعقيمة، وسيادة النظم الدكتاتورية سواء كانت عسكرية أم حزبية أم قبلية، والفساد المالي والسياسي، وانتشار الفقر والبطالة والأمية، كما ينقل النابلسي عن المستشرق الفرنسي المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية فرانسوا بورغا في كتابه:quot; الإسلام السياسي في زمن القاعدةquot; مشكلا من هذا النقل مقالة بعنوان:quot; التطرف الأصولي: أسبابه ومراحلهquot; 0 ص.ص 95-98)
ويلاحظ هنا أن الدكتور شاكر النابلسي قد اعتمد اقتباسات كثيرة في كتابه وفرت له أكثر من ثلثي الكتاب، وهذا أمر يجعل القارىء يستريب في الجهد العلمي والبحثي والرؤية الممنهجة للكتابة في موضوع شائك مثل:quot; السلفية والأصوليةquot;. فهل يصبح المؤلف/ الرائي مجرد ناقل ومستنسخ، أي أنه يتضامن منهجيا - ولو بشكل ضمني- مع الرؤية السلفية التي تحبذ النقل على العقل، والجمود على الاجتهاد؟!
وبهذه الطريقة التي لا تكتفي بالإشارة إلى المرجع أو المصدر، بل تقتبس بشراهة شكل النابلسي معظم مقالات الكتاب، ومنها على سبيل المثال:quot; الأصولية أزمة فكرية ثقافية في معظمهاquot; وquot; الأصولية عائق معرفيquot; وquot; الأصولية عائق لغويquot; وquot; الأصولية عائق اجتماعيquot; وquot; الأصولية عائق اجتماعيquot; وquot; الأصولية عائق سياسيquot; وquot; الأصولية والإسلام السياسيquot; وغيرها من المقالات التي لعب فيها النابلسي دور المنسق، والوراق بإتقان شديد، وكان أبطاله في ذلك: الباحثة البريطانية: كارين أرمسترونج، والباحثان الفرنسيان فرانسوا بورغا، وأوليفيه روا، والعفيف الأخضر، وهاشم صالح.
وينحاز النابلسي إلى ما يطرحه الباحثون الغربيون في شؤون الجماعات الأصولية (الإسلام السياسي) في العالم العربي الذي يحمل مسؤولية تصاعد وتيرة الأصولية حتى اليوم، وهو الأمر الذي جعل الكاتب يحمل كل الأحداث والنتائج الفكرية والثقافية والسياسية والإرهابية لهذه الجماعة المحظورة في مصر على امتداد صفحات الكتاب. على الرغم من أن هذا الانحياز إلى آراء الباحثين الغربيين ينطوي على أمرين:
-الأول: إن إحساس المسلم ndash; سواء كان متدينا ملتزما أم غير ملتزم ndash; بالعقيدة الإسلامية، وبالوجدان الإيماني، وبالتصورات المخايلة المتخيلة عن عالمي الغيب والشهادة، يختلف تماما عن تصورات الباحث الغربي.
-الثاني: إن الباحث الغربي مهما خبر تجربة الدول العربية والإسلامية، ومهما عاش بين مجتمعاتها ستبقى آراءه في حاجة إلى تنقيح وقراءة معمقة من جانب القارىء العربي المسلم، الذي ينقح كثيرا من مفاهيم المسلمين غير العرب، فمال البال بالمستشرقين.
أتحدث هنا عن أن الحس الوجداني والثقافي بالعقيدة الإسلامية يختلف تماما بين العربي المسلم، وبين الغربي الذي ينظر للموضوع من جهته العلمية البحثية فحسب. ومن هنا فإنني أعتقد أن آراء الباحثين الغربيين في موضوع الأصولية الإسلامية يفتقر إلى هذا الإحساس، على الرغم من علمية هذه الدراسات والبحوث.
وفي مقالته عن quot; دور الإخوان المسلمين في تعاظم الأصوليةquot; يشير إلى تأثير الإخوان المسلمين في مصر في حركةquot; مجتمع السلمquot; في الجزائر بزعامة الشيخ محفوظ نحناح، وفي حركة quot; حماسquot; بغزة، بالإضافة إلى التيارات الإسلامية في الشام، كما أثرت في التيارا السلفي بالسعودية، حيث يرى النابلسي أن الإخوان المسلمين اندسوا في سلك التربية والتعليم بالسعودية، وقرروا بعض كتب سيد قطب ككتب نصوص مدرسية، مثل كتابه الخطير quot; معالم في الطريقquot; الذي كان يرمي المجتمع الحديث بالجاهلية، ثم جاء شقيقه محمد قطب الذي كان مدرسا في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وألف كتابا بعنوان:quot; جاهلية القرن العشرينquot; في 1992، كما قامت الدار السعودية للنشر والتوزيع بنشر وترجمة عدد من الكتب التي تنتمي لهذا التيار، كما تغلغل كتاب الأإخوان المسلمين الذين هاجروا في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين إلى السعودية في الإعلام، وراحوا يكتبون في الصحافة السعودية بكثافة وخاصة في جريدة المدينة المنورة. كما سيطر الإخوان على الصفحات والملاحق الدينية.
ومع ذكر هذا الكلام، فإن الكاتب لم يشر إلى أن ثمة تنافسا دينيا، أو لنقل تنافسا مذهبيا بين التيار السلفي السعودي ومصدره:quot; بريدة والقصيمquot; وهو تيار متشدد، وبين التيارات الأخرى ومنها الإخوان المسلمين، فالتيار السلفي يرى أنه الأحق بالحديث عن الإسلام، وأن جوهر الإسلامquot; الصافيquot; هو ما ينطبق عليهم، أما الإخوان المسلمون وغيرهم فهم مجردquot; أشاعرةquot;.. وأي مسلم سني خارج هذا التيار إنما هوquot; أشعريquot; وهذه المقولة تنطبق على الإخوان المسلمين. ومن هنا لم يكن هناك تقبل في السعودية لما يطرحه الإخوان من مقولات أو رؤى تتعلق بالعقيدة والحكم. ولكن كان هناك احتضان سياسي واجتماعي لهؤلاء المهاجرين من مصر وسورية أكثر منه احتضان ديني أو فكري.
ومع ذلك نتفق مع الكاتب في وصفه لهذا العصر الذي نعيشه الآن بعصر الانحطاط الديني والفكري، بسبب هذا السيل الكبير من الفتاوى، وبروز مجموعة من الدعاة الدينين الذين أصبحوا من أصحاب الملايين، وزيادة نفوذ الأصولية الدينية واعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية.

مستويان للكتابة:
في هذا الكتاب نعثر على مستويين للكتابة، الأول ينتقي ويقتبس من جهود باحثين عرب ومستشرقين كتبوا عن الظاهرة الأصولية، وهي اقتباسات تتأدى بلغة بحثية وعلمية منهجية، والثاني: كتابة متحمسة منفعلة ndash; على الرغم من صدقها- إلا أنها لا تعالج الظاهرة بحس منهجي، ومن هنا غلبت عليها العبارات السطحية، من مثل: quot; الأصولية كحبة البطيخ، خضراء من الخارج وحمراء أو قرعاء من الداخلquot; وquot; وقد أدى كل هذا إلى نوع من quot; الهمبكةquot; الدينية ثم الهمبكة السياسيةquot; وquot; انتشر في كثير من أنحاء العالم العربي وخاصة مصر ما يعرف بالصوفية الشعبية التي تسلك ( درب المهابيل)..
ولعل ابتعاد النابلسي عن مصر دفعه إلى وصف الحالة الدينية الصوفية الشعبوية بquot; الهمبكةquot; كما أنه وصف المرحلة الناصرية بquot; الهمبكةquot; السياسية.. وهما مصطلحان سطحيان، لأن الباحث في شؤون التصوف أو السياسية عليه أن يخرج لنا بسياق علمي في تقديم رؤيته، يعتمد على مقدمات وأسباب ليصل إلى نتائج محددة، فالتصوف في مصر، نمطان: ديني، يعتمد على الالتزام المعقول بأسس الحياة البسيطة، والالتزام الديني بالشعائر الإسلامية، والثاني: شعبي، وقد تحول إلى نمط احتفالي فولكلوري، لا صلة له بالدين، ولكن له صلة بالجمهور العادي نفسه، وتختلط فيه السير بالملاحم بالكرامات، بحيث انتقل المعنى الصوفي من طابع ديني إلى طابع شعبي فولكلوري، ومن يقومون بهذه الاحتفالات والكرنفالات يدركون ذلك، ويفرقون تماما بين توحيد الله، وبين تعاليم الإسلام وشعائره، وبين هذه الاحتفالات الصوفية الشعبية.
أما الهمبكة السياسية الناصرية، فهذا أمر مرده للتاريخ، والمؤرخون، ومن عايشوا هذه المرحلة من الكتاب والمثقفين والمبدعين الذين سموها بمرحلة:quot; الحلم القوميquot;.. وبشكل محايد يكفي عبدالناصر ndash; طبعا في تلك المرحلة وقبل هزيمة العام 1967- أنه أعاد بناء مصر الحديثة، ونبذ الطبقية، بين الباشوات والفلاحين والعمال، وألغى الاحتلال الإنجليزي، وأنشأ جيشا وطنيا ( كان قد تم تحجيمه منذ عصر محمد علي إلى 18 ألف جندي) وأنشأ السد العالي الذي يحمي مصر حتى الآن من خطر الفيضانات، ويمدها بالطاقة الكهربائية، وملك الأراضي لأصحابها، وأنشأ جامعات جديدة، وأعاد دور الأزهر في الحياة المدنية بإنشاء كليات علمية مدنية بالأزهر، وطور التعليم الذي جعله بالمجان، - طبعا تلك الفترة- وازدهرت في عهده الفنون والآداب خاصة السينما والمسرح والإبداع الأدبي والنقدي، وأسهم في حركات التحرر الوطني العربي والإفريقي والإسلامي، وحاول تأسيس وحدة عربية، وأعاد مصر للمصريين التي تكالب على حكمها عرب، وجلاسقة، وفاطميون، وأكراد، ومماليك، وأتراك، وشراكسة، وألبان لأول مرة في التاريخ منذ الفتح العربي الإسلامي لها على يد عمرو بن العاص. وهذا ليس دفاعا عن المرحلة الناصرية لكنه تقرير للتاريخ الذي لم نعايشه، لكننا نتداوله، ونقف لنعتبر خلاله مرتين: مرة على صروحه، ومرة على أطلاله.