التعبير الشهير للفنان التشكيلي فاروق حسني وزير الثقافة المصرية بأن المثقفين المصريين دخلوا الحظيرة، كان يعني به أن ثمة تحولا جوهريا أحدثته وزارته في إعادة تكوين العلاقة بين المثقفين والسلطة، بانضواء أغلب المثقفين تحت مظلة المؤسسة الثقافية الرسمية، وأن التوتر الذي كان يصبغ العلاقة بين الطرفين لم يعد موجودا، أو على الأقل لم يعد جليا كما كان الحال في العقود السابقة.
هذا التوصيف ربما ينطبق بشكل أو بآخر على العلاقة بين المثقفين والمؤسسة الرسمية في العالم العربي، فلم يعد المثقف ndash; في زمن طغيان المادة، وفي عصر الاستهلاك- يقيم وزنا للقيمة، أو لصيغتها الدلالية الإنسانية بل دخل في اللعبة المهرجانية، وفي الأسفار البطوطية شرقا وغربا، دون كبير تأثير في المجتمع، أو دون الاتجاه إلى تفعيل العمل الاجتماعي الذي يتجلى أثره في الجمهور بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا يفسر سؤال: لماذا لم يعد للمثقف العربي ndash; إذا حصرنا الثقافة هنا في الكتابة والإبداع والفكر - كلمته أو حضوره أو تأثيره على عكس ما نجد مثلا لدى وعاظ الفضائيات؟

وإذا كان المثقفون في معظم البلدان العربية ينضوون تحت مظلة مؤسسية سواء تابعة لوزارات الثقافة في بلدانهم أم مستقلة غير تابعة، تتمثل في روابط الكتاب واتحاداتهم، فإن المثقفين السعوديين لا ينضوون تحت أية مظلة، سواء كانت خاصة بوزارة الثقافة والإعلام أو ممثلة في أنديتها الأدبية الستة عشر المنتشرة في مناطق السعودية، أو جمعية الثقافة والفنون، أم ضمن رابطة أو اتحاد للكتاب والأدباء، وربما يكون لهذا الأمر وجاهته من جهة استقلالية الكاتب وتعبيره الحر عن أفكاره وآرائه دون كبير التزام بخطة كتابية عامة، أو بمقولة رسمية، أو بتوجه ثقافي معد سلفا.

جهود فردية:

وتبعا لاعتبارات دينية و اقتصادية واجتماعية، تتمثل في الالتزام الديني الرسمي واعتماد الثوابت الدينية المرتكزة على المنهج السلفي الذي يستند على المسلّمة أكثر من استناده على فكرة الاجتهاد، والانحياز إلى النقل أكثر من الانحياز للعقل، وتبعا للأمن الوظيفي والمادي والاقتصادي الذي يعيشه معظم المثقفين، وللاعتبارات الاجتماعية التي تفرض سطوتها الظاهرة أو الباطنة أحيانا حين تستتر القبلية أو المناطقية أو المذهبية أحيانا في الضمير الثقافي، تبعا لهذه الاعتبارات فإن المثقف السعودي لا تشغله تماما فكرة الاتحاد أو الرابطة، أو حتى الانضواء تحت سلطة المؤسسة الثقافية الرسمية، ومن هنا فإن الجهود التي تبذل لإنشاء اتحاد للكتاب والأدباء والمثقفين ماتزال جهودا فردية محض، يقوم بها نفر قليل من المثقفين، ولا تحظى بالاهتمام الكبير الذي كان من المؤمل أن تحظى به، خاصة وأن طلب تشكيل اتحاد للأدباء والكتاب وبعد مرور أكثر من خمس سنوات، ومناقشته في مجلس الشورى السعودي تم تحويله إلى الجهة المختصة وهي وزارة الشؤون الاجتماعية.، كما أن وزارة الثقافة والإعلام لا تسعى لتكوين هذا الاتحاد أو الرابطة، قدر ما تسعى إلى التركيز على الأنشطة والفعاليات الثقافية الأدبية والفنية فحسب.

والمثقف السعودي على الأرجح - خاصة في المدن - مستريح البال ماديا عكس معظم نظرائه في البلدان العربية، ولذلك لا تشغله هموم الحياة ومنغصاتها المادية قدر ما تشغله الفكرة. بيد أنه لا يستثمر هذا البحث عن الفكرة في إضافة طرق وآليات جديدة لقراءة الإنسان، وتأمل العالم.. فالفكرة الجديدة عنده هي أن يواكب الظاهرة الأدبية والثقافية العربية في المراكز الثقافية المختلفة، وأن يستعير، - وربما أن يستنسخ - من الخارج، وهذا هو مكمن مشكلة ومأزق المثقف السعودي.

نشاط ثقافي:

عند إنشاء وزارة الثقافة والإعلام بالسعودية في العام 2004 التي تولاها السيد إياد أمين مدني، وهو من بيت ثقافي عريق، تخلصت الوزارة من تحمل عبء القيادة الثقافية للمثقفين، عن طريق إنشاء وكالتين للوزارة، الأولى: وكالة الوزارة للشؤون الثقافية، وتعنى بالشأن الثقافي المحلي، والثانية: وكالة الوزارة للعلاقات الثقافية الدولية وتعنى بتوطيد العلاقات الثقافية الخارجية، وإقامة الأسابيع الثقافية المشتركة مع دول العالم، وإقامة المعارض الثقافية.
كانت الخطوات الأولى للوكالتين تتمثل في إعادة ترتيب الوضع الثقافي السعودي المحلي والخارجي، فقامت وكالة الوزارة للشؤون الثقافية التي تولاها الأكاديمي والناقد الدكتور عبدالعزيز السبيل بجهود ملموسة في تغيير هيكلية أحد المنابر الثقافية التابعة لها وهي:quot; الأندية الأدبيةquot; حيث تمت إقالة ( أو استقالة) الحرس القديم الذي كان يترأس هذه الأندية الأدبية عبر مجالس إدارة معينة أو منتخبة منذ ما يربو على الربع قرن من الزمان، وهم مجموعة من المثقفين والأكاديميين السعوديين الرواد أمثال: عبدالفتاح أبو مدين، وحسن الهويمل، وحجاب الحازمي، ومحمد الربيع، ومحمد الحميد، وحسن العبادي، وراشد الراجح، وعبدالرحمن العبيد وغيرهم، كما تم تعيين عشرة مثقفين ndash; بعضهم من فئة الشباب - في كل نادي أدبي، يقومون بأنفسهم باصطفاء خمسة منهم يتمثلون في: رئيس النادي، ونائبه، وأمين الصندوق، والسكرتارية، أما الخمسة الباقون فهم أعضاء مجلس إدارة، وتمت التجربة بنجاح في معظم الأندية الأدبية.
كانت مطالب المثقفين تتمثل في تفعيل دور الأندية الأدبية، وفي تغيير النهج الثقافي الوجاهي أحيانا الذي كان يتبعه الحرس القديم، كما كانت تتجلى في تفعيل الطباعة والنشر، وتكثيف الفعاليات الثقافية بحيث تشمل مختلف التوجهات الثقافية والفكرية في السعودية، بدلا من الاقتصار على الفئة التقليدية فحسب، وإفساح المجال للشباب للتعبير عن إبداعاتهم الشعرية والقصصية والفنية الحديثة.
وقد استبشر المثقفون السعوديون خيرا بهذه التغييرات، لكن لما يمض وقت طويل حتى فوجئوا بعدد من الاستقالات من المعينين الجدد، حيث استقال الشاعر محمد زايد الألمعي من رئاسة نادي أبها الأدبي، واستقال الكاتب عبدالله مناع من نادي جدة الأدبي الثقافي، واستقال الأكاديمي حسن حجاب الحازمي من نادي جازان الأدبي، واستقال الروائي يوسف المحيميد من نادي الرياض الأدبي، فضلا عن عدم حضور أو مشاركة معظم أعضاء مجالس إدارات الأندية الأدبية أية فعاليات تقيمها هذه الأندية خاصة في المدن الكبرى. وبدأت مشاكل الأندية الأدبية في معظم مناطق السعودية تطفو على السطح مرة أخرى، من مشاكل العروض السينمائية بنادي الشرقية الأدبي إلى حريق خيمة نادي الجوف الأدبي، إلى مشكلة تقبيل رأس الشاعر محمد العلي (78 عاما) في نادي جازان الأدبي، ومشكلة إلغاء بعض الندوات الأدبية بعد الإعلان عنها كما تم من إلغاء ندوة الناقد محمد العباس والكاتب عبدالله بخيت لمناقشة روايته:quot; شارع العطايفquot; في النادي الأدبي بالرياض مؤخرا. فيما لم تسلم الأندية الأدبية من المتابعات الصحفية الناقدة لها حتى من بين المعينين بها حيث كتب محمد الصفراني ndash; أحد أعضاء نادي المدينة المنورة الأدبي ndash; مقالة شهيرة بعنوان:quot; العشرة المبشرين بالأندية الأدبيةquot;. انتقد فيها فكرة التعيين وطالب بإعادة الاعتبار لمسألة الانتخاب عبر جمعية عمومية.
وعلى الرغم من تفعيل الأنشطة الثقافية في هذه الأندية وإقامة ملتقيات شعرية وروائية ونقدية وثقافية فيها خلال السنوات الماضية، وزيادة العناية بالطباعة والنشر، وتوقيع بعض الأندية اتفاقيات للنشر مع دور نشر لبنانية شهيرة مثل: المركز الثقافي العربي، والانتشار،وغيرهما، إلا أن هذه الأندية مازالت تفتقر إلى الحضور الثقافي من قبل المثقفين، وإلى كثافة هذا الحضور وتنويعه، وإلى احتضان المثقفين بمختلف أطيافهم وشرائحهم، ومنحهم بطاقات عضوية، أو تفعيل جمعيات عمومية، أو إنشاء صناديق للأدباء، فبعض هذه الأندية تقيم أنشطتها بشكل أسبوعي فقط، كما أن هذه الأندية لا تحظى بقبول اجتماعي كثيف، بل إن بعضها يظل شبه خال من الرواد طوال السنة.
إن مشكلة الأندية الأدبية تتمثل في أنها تنظر للثقافة على أنها مجرد أنشطة وفعاليات فحسب، يحضر من يحضر ويغيب من يغيب، وهي تدار بالآليات نفسها: ضيف ومناقشون، أو أمسية شعرية أو قصصية أو محاضرة، لا أكثر ولا أقل، ومن هنا تفتقد هذه الأندية التأثير الثقافي في مجتمع تتجاوز شريحة الشباب فيه نسبة ال 60% ويشهد من التحولات الكثير، فلم يقم نادي من الأندية مثلا بمناقشة ظواهر التطرف أو الغلو أو التسطيح الفكري أو أدب الشباب على الإنترنت، أو بعقد مناظرة بين توجهين مختلفين من التوجهات الفكرية المتعددة.
ومع اهتمام الوزارة بالأندية الأدبية افتقدت دور منبر آخر له أهميته هو دور جمعية الثقافة والفنون التي أنشئت قبل أكثر من ثلاثين عاما، وكانت تشرف عليها ndash; كما الأندية ndash; الرئاسة العامة لرعاية الشباب، هذا الدور تلاشى تماما، كما افتقد الأدباء السعوديون نادي القصة السعودي الذي قدم حسب إمكانياته البسيطة قدرا كبيرا من الأنشطة والمطبوعات، لكنه خرج من المشهد الثقافي ولم يعد حتى الآن، بعد أن تحول إلى مجرد فكرة قديمة في أدراج النادي الأدبي بالرياض.
أما وكالة الوزارة للعلاقات الثقافية الدولية التي تولاها عالم الاجتماع الأكاديمي الدكتور أبو بكر باقادر فقد قامت بعقد عدد من الأيام الثقافية في عدد من الدول العربية والأجنبية منها: مصر، واليمن، والجزائر، وروسيا، وتركيا، والأرجنتين، والسنغال، وأذربيجان، وغيرها من الدول، وشارك في هذه الأيام الثقافية كتاب وأدباء وشعراء ومثقفون وفنانون تشكيليون ومسرحيون وفرق شعبية لإبراز جوانب متنوعة من الثقافة السعودية اليوم، تغير من الصورة النمطية السابقة التي كانت تقدم السعودية في صورتها الدينية والتراثية فحسب، وعلى الرغم من ذلك تولدت إشكاليات حول هذه الأيام الثقافية وفعالياتها وبرامجها والتمثيل الثقافي فيها لمختلف التيارات، وابتعادها عن إقامة أيام ثقافية في دول أجنبية كبرى مؤثرة.

المثقف المغترب:
يعاني المثقف السعودي من الاغتراب والعزلة على الرغم من حضوره في ملاحق ثقافية في الصحف اليومية وفي منابر للنشر والكتابة، وهو ربما يفضل ذلك، إنه لا يبحث عن quot; حظيرةquot; يدخلها قدر ما يبحث عن الاستقلالية، والبحث عن المنجز الفردي، ومن هنا فإن الملتقيات التي يشارك فيها، والندوات التي قد يحضرها تعطي قدرا من التواصل الفردي لا الجماعي، والنقد الدائم لوزارة الثقافة والإعلام من قبل الناقد الدكتور عبدالله الغذامي ينم عن اتساع الهوة بين استقلالية المثقف والوزارة، كذلك فإن المثقف السعودي لم يسع منذ إنشاء وزارة الثقافة والإعلام ndash; وحتى في العقود السابقة - إلى تكوين جماعات أدبية أو مدارس إبداعية جماعية، إلا ما ندر، واتجه في العقود الأخيرة إلى عقد الصالونات الأدبية والثقافية التي تناقش جملة من القضايا غير المسكوت عنها والعامة والمريحة والوجاهية والتكريمية.. ويبدو أن وزارة الثقافة والإعلام يطيب لها هذا الاغتراب، فلا ضرر ولا ضرار، مع أن أسئلة الثقافة والفكر هي من الأسئلة الملحة جدا في السعودية وفي عالمنا العربي بوجه عام، خاصة مع التحولات العالمية صوب اكتشاف الآخر ومعرفته بشكل حقيقي حيث تنامت هذه الرؤية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بشكل جلي، وأيضا تنامي الاتجاهات المتطرفة، وتنامي الظاهرة الإرهابية التي تعلو حينا وتخفت أحيانا حسب المتغيرات الزمنية.
كذلك فإن وجود المتربصين من الشرائح الثقافية التقليدية، ومن الشباب المتطرف المتحمس يجعل التردد سمة غالبة في وضع برنامج ثقافي تنويري معين تقوم به الوزارة، التي تكتفي فحسب بتقديم الأنشطة الثقافية التي لا تمس العمق الثقافي من خلال أنديتها الأدبية أو فعالياتها الثقافية الأخرى التي تأتي بشكل مهرجاني على الأغلب، كما أن الوزارة لا تحتضن المثقف السعودي أو تعطيه نوعا من التقدير الأدبي عبر جوائز الدولة، أو التقدير المعنوي، أو حتى التقدير الوظيفي في الإدارة الثقافية الجماعية لأوجه النشاط الثقافي بتكوين مجلس أعلى للثقافة والفنون والآداب، أو هيئة عامة للكتاب والنشر، أوحتى رابطة للمثقفين والكتاب وهذا أضعف الإيمان.