أبرزت نتائج الأستفتاء الذي اجرته quot;أيلاف quot; (حتى الان) على صفحتها الرئيسية في عددها 3157 الثلائاء 12 يناير 2010 ، حقيقة لاتكاد تكون غريبة للأوساط المثقفة في عالمنا العربي ولكنها قد تكون مُذهلة للبعض. الأستفتاء يتعلق ب:
الصدامات الطائفية في العالم العربي هي نتيجة:
فشل الحكومات في تعزيز الهوية الوطنيَّة: 45.35%
تعاظم قدرات التيارات الأصولية: 29.66%
التدخل الأجنبي: 20.55%
أسباب أخرى: 4.43%
أنه الأمر الذي يستوجب منا أن نستخلص منه العبر والمعرفة هو فهم منطق القوة، الحضارة، والأخطار المُحتملة للفشل والخيبة العامة التي يحس بها المواطن تجاه حكومته في طمس هويته والجدل بشأنها. ومع عمومية الاستفتاء، فأن نسبة الأجابة الأولى والثانية العالية تعني الكثير لنا ولحكوماتنا.

ففي عالم تسوده أزمات أنسانية ومِحن حضارية وخلافات فكرية وخرافات لتيارات لاتُعد، فان أختيار لعبة القوة الأقليمية في السياسة والحياة العسكرية وطبيعة التحالفات الأقليمية والدولية ونظريات بناء القوة الأقليمية والسماح للتدخل العسكري تأخذ حيزاً واسعاً لنظريات تؤدي بمنظريها الى الأعتقاد المسبق بالنصر أو تقودهم مع أعتقاداتهم الى التهلكة وفق حسابات خاطئة للأخطار المحتملة.

وموضوع قوة الدولة وتعزيز الهوية الوطنية جانبان يستحقان التأمل والكثير من التقييم والبحث واستخلاص العبر لمعرفة هوية الدولة أولآً وهوية المواطنة ثانياً، فالى جانب جيوبوليتكية المنطقة حيث تُحيط بالعراق دول عربية وأسلامية كان لها دور في التأثير على هويته وسياسته فأن التشكيك الذي أدخلته قوى سياسية عراقية والشد على دفعه الى أتجاهات عقائدية خطيرة كان قد ألحق أشد الأذى في التركيبة الأجتماعية وشرخ قيّم التربية الوطنية وضياع المفهوم الأجمل والأسمى في حب الوطن والولاء له. فلا قيمة تُذكر لقوة الدولة عندما يُذبح المواطن في أرض بلاده........ولا قيمة حضارية تُذكر عندما تَسحق الدولة عقيدة وهوية مواطنيها وتستخدم قوة بطشها في التنكيل بأبنائها والتفريق بينهم مذهبياً أو قومياً أو فكرياً. لعبة القوة لم تكن يوماُ خطة أِلهية مهيئة لزعيم أو شعب ما، مع أن الكثير أدعوا بأن الله منحهم ومنح شعبهم هذه القوة للأستمرار في أستبدادهم وتسخير العباد.

في لعبة القوة ولعبة التغيير أخطار مفترضة وتحديات وضغوط تواجه صناع القرار في حقول السياسة الداخلية والخارجية.
فعناصر القوة لاتقف عند حدود التسليح العسكري وبناء قوة عسكرية وتكنولوجية فقط، ولا تستند على طموحات أستراتيجية قد لاتتفق مع متغيرات دولية ومصالح أنية أقليمية.
وماكان يراد ويُعرَف من منطق القوة القديم، عسكرة المجتمع وتثقيفه عسكرياً (عدداً وعُدةً ) كما كان الحال في العراق وأوروبا الشرقية الشيوعية وبعض دول المنطقة العربية والأسلامية لم يضفي ذلك المنطق أِلا حالات مضطربة مفقودة الترابط، لأفتقادها الى العوامل والعناصر المهمة الأخرى التي تجعل من الدولة موضع أحترام وهيبة، وهو مالم تستطيع أن تعكسه حكوماتها ومؤسساتها وأفرادها في عَرض مشوه للقوة والتعجرف.

ويتضمن التفوق النوعي في لعبة القوة وأدارتها بنجاح وبشكلها السليم، عناصر الطاقة الكامنة التي تنشأ في التركيبة الأجتماعية والبيئة النفسية وتتمثل في قوة التماسك الاجتماعي والسياسي والتعريف بالهوية الوطنية لتستطيع الدولة وبما تُهيؤهُ الحكومة من حشود تنظيمات لمصادر الطاقة البشرية وتحريك المجتمع وطنياً ونقله من حالة حضارية الى حالة حضارية وأحتضان هويته الأجمل والأسمى والتوجه بها الى حقول جديدة تعاصر عالم اليوم وأنجازاته في ميادين العلوم الأنسانية المختلفة وتتنافس في تشييد الجسور التي تربط الماضي بالمستقبل. ولعل معظم الباحثين والمؤرخين يشيرون بأمثلتهم الى الهوية اليهودية التي بدراستها وتحليلها نكتشف كيف أستطاع علماء اليهود جمع يهود (الأشكنازي والسفرديم والفلاشا والقبائل اليهودية الأخرى) في دولة أسرائيل بمصادر بشرية متفوقة تضمنتْ عناصر الطاقة الكامنة وتماسك البيئة النفسية الاجتماعية وأعتزازها بالتعريف بالهوية الوطنية الأسرائيلية وتدخل في صميم لعبة القوة والردع وعَرضها دون خوف أو رهبة.

هذا ماتسعى له العديد من الأنظمة الحكومية ومؤسساتها عند تحملها مسؤولية القيام برعاية أبنائها وتعليمهم والأعتزاز بتوجهاتهم في رؤية حية وقوة دافعة تتم فيها المنافسة بين المؤسسات الحكومية لتوظيف أمكانات الثروة الوطنية في سبيل الأفراد والدخول الى عالم القوة من أبواب حقيقية تضفي المنعة والأستقرار.
والتاريخ القديم والجديد يلقي الأضواء على حضارات سلكتْ سبيل الدمار بنفسها وتأكلت من الداخل وأُلقتْ بحضارة شعبها في هشيم النيران وأورثوا سكانهم الفقر والبؤس والشقاء، لأقتنائهم القوة العسكرية دون فهم العناصر المُلحقة بها كالحضارة الأغريقية والأمبراطورية الرومانية في القرن الأول الميلادي.

هذه هي أحدى علامات سقوط الحضارات، فالتاريخ كان قد أثبتَ بأنه في عالم (لعبة القوة) تأفل حضارات وأمبراطوريات بحروبها الأهلية. ونرى في القرن العشرين حضارات كان لها تاريخ وأمجاد في عروض القوة ولكنها دمرت نفسها قبل أن يَدخل أي عنصر آخر في أمر تدميرها، كحضارة الأمبراطورية العثمانية والسوفيتية. لقد حملتْ حضارات السومريين والبابليين والأكديين والأشوريين معالم النجاح الحضاري ولكنها حملت في داخلها معاول الهدم والتخريب في لعبة القوة بطرق فجة كشفت للأخرين مكامن الضعف والقوة.

ليس غريباً أن يتغلب الغباء الفكري السياسي وحماقات النعرات والقوميات في تدمير حضارة دولة....أنها الحقيقة المُرة التي حدثتْ و تحدثُ مرة بعد مرة. وفي مجتمعاتنا العربية، يؤكد المؤرخون وعلماء الأجتماع على أن صلاحيات الحاكم العربي الأسلامي الامبراطور في القرن الواحد والعشرين وثقافة الأعِلام الفاشية للقوة وتمشية البضاعة الدينية التخديرية بالنفخ في روح أئمة المسلمين الكرام والاشباح الحرام والنوم على الأماني نوع أخر قد يحمل في طياته بذور تخريب المجتمع وتآكل قيّمه الحضارية.

لذا نرى أن بعض الدول العربية والأسلامية أنتبهت الى تعزيز هوية الدولة ومواطنيها وتبتعد بحكمة عن التطرف والعنصرية وتلجم الصرخات الشاذة لثقافة التخريب والأخطار التحذيرية المفتعلة ومنع أِيصال رسائلها التخديرية المعوقة لنشاط المجتمع. الدراسات الحديثة في ممارسة لعبة القوة والتغيير وربط عناصرها بذكاء يُغني الدولة وأفراد المجتمع مَشقة السقوط.


أستاذ جامعي وباحث سياسي
[email protected]